ديفيد فينشر.. الأفلام على طريقة بيكاسو

| 24 فبراير 2021 |
منذ فيلمه «Gone Girl»، غاب، «ديفيد فينشر» عن السينما لمدّة ستّ سنوات، بدت كالدهر. ستّ سنوات، صنع خلالها «فينشر» عدّة مسلسلات، لكنه توقَّف، عمليّاً، عن كونه صانع أفلام. وحتى عودته، مؤخَّراً، بفيلم «Mank»، كانت بفضل «نتفليكس»، مع عرض الفيلم، بالتوازي، في دور السينما، وبذلك عاد «فينشر» لصناعة الأفلام، بموضوع يمنحه فرصة جديدة ليتناول علاقته بصناعة السينما، والصراع الأزلي فيها بين ما يُكتَب في نصوص السيناريو وما يتمّ تصويره فعلاً.
إنها محاورة شاملة مع عملاق الإخراج، ومُخرج التحدِّيات، وسكّين الجيش السويسري في «هوليوود»، وسبّاك الطوارئ، والخطّ الساخن على مدار (24) ساعة، والدواء الشافي لجميع الوعكات. إنه مخرج كبير، لكنه، أيضاً، وقبل كلّ شيء، أكبر محترف في السينما الأميركية اليوم، ليس اليوم، فقط، بل الأمس، وحتى قبل ذلك.
اختفى «فينشر» من الشاشة (الكبيرة) بعد «Gone Girl» عام (2014)، بعد أن أطلق «House of Cards»، المسلسل الذي وضع «نتفليكس» على خريطة منصّات البثّ، ثم وجدناه مخرجاً ومشرفاً فنِّيّاً لعدة حلقات من «Mindhunter»، ومنتجاً تنفيذيّاً لسلسلة الرسوم المتحركة والخيال العلمي «Love, Death & Robots». قال عنه صديقه المخرج «ستيفن سودربيرغ» في أحد أعمدة هذه المجلّة، قبل عامين: «ديفيد لم يعمل بجدّ، أبداً، في السابق. لقد اعتاد أن يأخذ فترات راحة طويلة بين مشاريعه، لكنه الآن يعمل بجد أكثر، ففي «Mindhunter» أعطى %2000 من طاقته، على جميع مستويات الإنتاج، وانغمس، تماماً، في العمل»، وهو محقّ بشأن الانغماس، لكنه كان انغماساً في جزيرة المسلسلات، بعيداً عن شواطئ السينما. منفى طوعيّ يكشف عن توعُّك وخيبة أمل في نظام الاستوديو، بطفرته الحديثة.
لا يمكن فصل فيلم «مانك» عن هذا السياق، تحديداً، بل لا ينبغي ذلك، وهو الفيلم المبني على كواليس صناعة الفيلم الكلاسيكي «المواطن كين» (1941)، للمخرج «أورسون ويلز»، الذي ظلّ، لوقت طويل، يصنَّف باعتباره «فيلم الأفلام»، وبالاستناد إلى سيناريو بتوقيع والده الراحل «جاك فينشر»، الصحافي السابق وعاشق الأفلام، حيث يقدِّم «مانك» إعادة نظر حول «هوليوود الماضي» بدقّة، وبطريقة مفتونة مثلما فعلها «كوينتن تارانتينو» في فيلمه الأخير حول المشهد السينمائي في عام (1969)، أو مثلما فعلها «ألفونسو كوارون» مع أحياء المكسيك، حيث نشأ.
في «مانك»، يضع «فينشر» نفسه في خطر، حيث تجرَّأ على خوض مغامرة نفسية تخصّه، ففي الطبقة الثانية من قصّة «مانك»، يواجه «فينشر» طموحاته الخاصّة، بوصفه فنّاناً، والطريقة التي يمارس بها حرفته، وذكريات طفولته، وشغفه، وأقرانه، ومُلهميه، وكذلك والده نفسه. لم يعد هناك «حِرفيّون خارقون» يصمدون عبر الزمن. لا مكان للتراجع أو التردُّد، لا زال موقف «فينشر» المطبق هو نفسه، كما كان سابقاً مع سيناريو بواسطة «آرون سوركين» (الشبكة الاجتماعية)، أو «إريك روث» (الحالة الغريبة لبنجامين باتون)، أو «ستيفن زيليان» (الفتاة ذات وشم التنين).
«مانك» هو مشروع شخصي، مشروع عائلي، علاج نفسي، وغوص عميق في دماغ الصانع، حيث تتحدّ كلّ العدسات معاً، علاقته بالأفلام، علاقته بالآخرين، الحقيقي منها والزائف، وعلاقته بالكلمات، وتلك الخاصة بأبيه، وتلك الخاصة بكُتابه، وتلك المكتوبة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وما لن يكتبه أحد، بعد، الآن، لأن الكتابة لم تعد مسموحة.
المحاور: بين الفيديو الموسيقي لـ«مادونا» «يا أبي» وحصون العزلة التي نجدها في جميع أفلامك تقريباً، يبدو أنك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ «المواطن كين»
– ديفيد فينشر: نعم، يرجع الأمر لسنوات بعيدة. صناعة هذا الفيلم في الواقع تمت بفضل تقاعد والدي «جاك فينشر». كان لديه مسيرة مهنية جيِّدة في الصحافة (كان رئيس تحرير مجلّة لايف). في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي جرب كتابة السيناريو، لكن الأمر لم ينجح. ومع تقاعده، فجأةً، وجد لديه الكثير من الوقت، وليس هناك الكثير للقيام به للاعتناء بنفسه، وسألني إذا كان هناك أيّ مواضيع يمكنه اختبارها بنفسه.
متى كان ذلك؟
– بين (1990) و(1991)، شيء من هذا القبيل. بعد أن انتهيت من تصوير فيلم «Alien 3» مباشرةً، عدت إلى التفكير في مقالة كتبتها «بولين كايل» بعنوان «نشأة كين» والتي كنت ناقشتها مع والدي كثيراً، وأنا صغير. يجب أن تعلم أن والدي كان مجنوناً بالسينما. عندما كنت طفلاً، كنت دائماً أشعر بالفضول لمعرفة من يعتبره أفضل ممثِّل أو أفضل مخرج أو أفضل مهندس صوت أو أفضل مخرج للتصوير الفوتوغرافي. بالنسبة إليه، كان أفضل فيلم أميركي، على الإطلاق، هو فيلم «المواطن كين»، دون أدنى شك. عندما كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، لم يكن لديَّ أيّة فكرة عمّا تعنيه عبارة «المواطن كين»!. لقد لاحظت، مؤخَّراً، أن الأمر يتعلّق بقصّة صحافي، مثل جميع أفلام والدي المفضَّلة طوال حياته: مساعدته، كلّ رجال الرئيس، الصفحة الأولى. وقتها، بين عامَيْ (1970) و(1971)، كي أتمكَّن من مشاهدة فيلم عمره ثلاثين عاماً، كان لابدّ من عرضه على التلفزيون أو في سينما خاصّة. والفرصة أتت، أخيراً، في المدرسة، عندما كنت في الصف السابع، وكانت هناك رحلة مدرسية لمشاهدة نسخة (16 ملم) من «المواطن كين». كان والدي متحمّساً جدّاً. في ذلك العمر، كنت قد شاهدت -بالفعل- أفلام «سبارتاكوس» (2001)، و«لوليتا»، و«الدكتور سترينجلوف». بالنسبة إليَّ، كانت «الأفلام القديمة» تعني الأشياء من عام (1962) إلى العام الذي ولدت فيه؛ لذلك بدا لي فيلم يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً مثل الكتابة الهيروغليفية أو الجدّاريات في الكهوف. لم يكن لديَّ أيّة فكرة عمّا سأختبره.
ثمَّ..؟
– لقد كان عيداً حقيقياً، وصدمة مدمّرة. شعرت بكلّ من حداثة الفيلم، وكلاسيكيَّته، وحدَّته، ودقَّته. وكانت هناك هذه الجمل: «لو لم أكن بهذا الثراء، لكان بإمكاني أن أصبح رجلاً عظيماً». حتى في سنّ الثانية عشرة، قلت لنفسي: «ربّاه، هذا جيّد!».
من المؤكَّد المؤكَّد أن والدك كان سعيداً.
– عندما وصلت إلى المنزل، تحدَّثنا عنه طويلاً. لقد شرح لي طبيعة (الكلاسيكية) ذاتها، ولماذا ظلَّت تلك التيمات صالحة لعصرنا، ولماذا أدهشتني، وهي لم تُصنع، نظريّاً، لمراهق في شمال كاليفورنيا، في حقبة السبعينيات. باختصار، كان هذا الفيلم جسراً للتحدُّث، بشكل أعمق، عن السينما. بعد مدّة، قرأت كتاب «بولين كايل» عبر الميكروفيلم، في المكتبة. حتى ذلك الحين، لم أكن قد سمعت عن «هيرمان مانكويتس»، ولم أتخيَّل أن إسهام كاتب السيناريو يمكن أن يكون له مثل هذا التأثير في أسلوب الفيلم. لم أكن أدرك، ببساطة، حقيقة أن الكتابة والإخراج هما تخصُّصان منفصلان، لكنهما متساويان (وحاسمان، أيضاً) في نجاح العمل السينمائي.
من هنا بدأ والدك في كتابة النصّ؟
– نعم. في وقت لاحق، جعلني أقرأ مسوَّدته الأولى. من الصعب وصف ذلك. لقد كان ذلك مثل قراءة عريضة من نقابة الكُتّاب الأميركية للتنديد بالظلم الذي عانى منه كُتّاب السيناريو، الذين تعرَّضوا لسوء المعاملة، دائماً، من قِبَل المخرجين الذين لم يتردَّدوا في استغلال مناصبهم للحصول على الملكية من عمل الكُتّاب. حسناً، حسناً… كنت عائداً، للتوّ، من تصوير «Alien 3»، وكانت لديَّ تجربة شخصية مناقضة، تماماً، مع مجموعة من الكتّاب المرتزقة، مرَّ الواحد منهم تلو الآخر دون أن يأخذ أيّ كاتب منهم الأمور على محمل الجدّ، بما يكفي لجعل الفيلم متماسكاً. أمّا النصّ الذي كتبه والدي فكان عن شخص مغرور، يمسح حذاءه على كاتب سيناريو مسكين. أمر مفرط في التبسيط بالنسبة إليَّ.
هل تلقّى ملاحظاتك بطريقة خاطئة؟
– لا. كان يعلم أنه لم يخترع الذرَّة.
إذاً، أنت من أحدثت التغييرات، خاصّة الخلفية السياسية للفيلم، فيما يتعلَّق بقصّة الناشط «أبتون سنكلير» وانتخابات «كاليفورنيا» لمنصب حاكم الولاية، في عام (1934)؟
– لا. بعد عامين من مسوَّدته الأولى، صادف «جاك» فيلماً وثائقياً يتحدَّث عن مشاركة المنتجِيْن «لويس بي»، و«ماير»، و«إيرفينغ ثالبرج» في هذه الحملة الدعائية، بتسخير موارد استوديو «MGM» في خدمة آرائهم السياسية. تخيَّل صدمة والدي المتحمِّس للسينما، والذي كان، حتى ذلك الحين، يوقِّر «MGM»، ويضعها في مكانة «روزل رويس» الستوديوهات. لقد افتتن بقصّة «سنكلير» وحركته الاجتماعية «EPIC» (إنهاء الفقر في كاليفورنيا)، وكيف فبركت «MGM» الأكاذيب من أجل تشويه سمعته. كان ذلك نوعاً من الأخبار المزيَّفة. ومن خلال تطعيم ذلك في قصّة، بالتوازي مع صناعة «المواطن كين»، توصَّل إلى مسوَّدة جديدة امتدت قليلاً، في كلّ مكان، لكنها فتحت منظوراً شائقاً حول ما يمكن أن يحدث في العلاقة بين رجل الأعمال «William Randolph Hearst» (واحد من أقوى الرجال)، وبين السيناريست «هيرمان مانكويتس»، أحد أذكى العقول في ذلك الوقت، رجل اتَّفق على براعته «ببن هيكت» وجميع رجال مائدة «ألجونكوين» المستديرة في «هوليوود» (مجموعة مؤثِّرة من الكتّاب وكتّاب السيناريو). بصراحة، إذا كان «بين هيكت» يعتقد أنك عبقريّ، فعليك أن تكون واحداً. أليس كذلك؟ لم أكن متأكِّداً تماماً من كيفية ترجمة هذا من وجهة نظر درامية حتى تلك اللحظة، لكنني أحببت فكرة هذا الرجل الذي كانت مساهمته الوحيدة في كتابة فيلم «ساحر أوز» اقتراحه بأن تكون «كانساس» بالأبيض والأسود، و«مونشكينلاند» بالألوان. وهو أحد أكثر تأثيرات الأفلام التي لا تُنسى. إنه مثل القنّاص المحترف الذي هبط على مشروع متأزم، فألقى بفكرة رائعة ثم غادر، بهدوء، لتناول مشروبه، مقتنعاً أنه أفضل بكثير من ذلك؛ من هنا، وضعنا الملامح الرئيسية للشخصية.
لكن المشروع لم يؤتِ ثماره.
– لقد أجرينا الكثير من التصحيحات، ورمينا بالأشياء، ذهاباً وإياباً. وبعد ذلك، في بين عامَيْ (1997)، و(1998)، بعد انتهائي من فيلم «The Game» مباشرةً، كدنا أن ننفِّذ المشروع بالتعاون مع «بوليجرام»، وهي شركة إنتاج مستقلّة، لكنهم انسحبوا في اللحظة الأخيرة، قائلين: «لمن توجِّهون هذا الفيلم؟» حسناً. لا يمكننا أن نلومهم تماماً، أيضاً. وها نحن نوقف المشروع. وضعنا العمل على الرفّ، ليجمع الغبار، منذ ذلك الحين. توفِّي «جاك» عام (2003)، بعد عامَيْن من محاربة المرض. فقدت الأمل، وقلت: ربَّما ستقرؤه ابنتي يوماً ما. بعد ذلك، في نهاية الموسم الثاني من «Mindhunter»، ذهبت لرؤية «تيد ساراندوس»، و«سيندي هولاند»، مديرَيْ برامج نتفليكس، وقلت لهما: «انظرا. لا أرى نفسي أعود، مرّة أخرى، لمدّة عامين، في موسم ثالث، أفضِّل قضاء عام في مشروع أكثر تواضعاً، مع رفاهية قضاء ستّة أشهر من مرحلة ما قبل الإنتاج؛ بهدف تصميم ساعتين، فقط، من المحتوى بدلاً من عشر ساعات، فقالوا: «حسناً. ماذا لديك؟، فمرَّرت لهم نصّ «Mank»، دون الكثير من الأمل، لكنهم كانوا متحمِّسين لذلك، فأجبتهم: «متى نبدأ؟».
لقد اعتدنا على اعتبار المخرج «أورسون ويلز» رجلاً خارقاً، فرقةً مختصرة في رجل واحد، عبقريّاً، قوّةً من قوى الطبيعة…
– هل ذلك حقيقي؟ لا، لم يعد كذلك. مع مرور الوقت، أدركنا أنه كان، قبل كلّ شيء، رجل استعراض يتمتَّع بموهبة غير متكافئة، استغلَّ فرصته، ولكن…
المعذرةً لقد قاطعتك.
نعم، لكنني، الآن، أريد أن أعرف ما كنت ستقوله…
– حسناً… أعتقد أن مأساة «أورسون ويلز» تكمن في مزيج من الموهبة الهائلة وعدم النضج البائس. بالطبع، هناك عبقريّة في «المواطن كين»، فمن يمكنه أن يجادل في ذلك؟ ولكن، عندما يقول «ويلز»: «لا يستغرق الأمر سوى فترة ما بعد الظهيرة لتتعلَّم كلّ ما تحتاج معرفته حول إخراج الصورة»،… يمكنك القول إن التعليق يأتي من شخص محظوظ بما يكفي لجعل مدير التصوير «جريج تولاند» على بُعد ياردة منه، مستعدّاً لتصوير اللقطة التالية… «جريج تولاند»! يا إلهي! إنه عبقري لا يُصدَّق! أقول هذا دون تعمُّد التقليل من «ويلز». أعرف ما أدين له به، كما أعرف ما أدين به لكلٍّ من: ألفريد هيتشكوك، وريدلي سكوت، وستيفن سبيلبرغ، وجورج لوكاس، وهال آشبي. ولكن في الخامسة والعشرين من عمرك، أنت لا تعرف ما لا تعرفه. سواء أكنت «ويلز» أم أيّ شخص آخر. لا أسلبه من شيء، ولا سيّما مكانته بين عمالقة السينما الذين أثَّروا في أجيال كاملة من صانعي الأفلام. لكن الادِّعاء بأن «أورسون ويلز» جاء، مباشرةً، من الخلاء، ليصنع «المواطن كين»، وأن بقية أفلامه قد أفسدتها تدخُّلات من أشخاص لديهم نوايا خاطئة، ليس أمراً معقولاً. إنه نوع من التوهُّم والغطرسة.
لديك طرح متوازن، للغاية، بالنسبة إلى كونك مخرجاً، لم يكن -أبداً- كاتباً لنصوصه الخاصّة.
– أنا ابن رجل كان يكتب من أجل لقمة العيش. أعلم ما يعنيه ذلك. طوال طفولتي وأنا أراه ينقر، بأصابعه الكبيرة، على آلته الكاتبة، ليخرج بعشر صفحات أو اثنتي عشرة صفحة في اليوم، في عزلة شديدة، ليستطيع دفع الفواتير. هذا ليس مفهومي عن الرفاهية… مهما كرهت الإخراج ومشقَّته الإجرائية، حيث يتعيَّن عليك اتِّخاذ قرارات «فنّيّة» في أربع دقائق؛ لأن هناك استراحة غداء. أعرف حقيقة أنه لا شيء يقارن بكونك عالقاً في مكتبك طوال اليوم، في محاولة للخروج بشيء قيّم من جعبتك.
هل تعرف مكانتك عند النقّاد، والمهووسين بالسينما، اليوم؛ الأشخاص المستمرِّين في اعتناق «نظريّة سينما المخرج المؤلِّف»، الذين يبقى الإخراج -بالنسبة إليهم- هو القيمة الأساسية للسينما؟
– لا تنسَ، أبداً، أن هذه النظرية قد صنعها النقّاد الذين حلموا بأن يصبحوا مخرجين! بالمناسبة، أحبّ قراءة «بولين كايل»، وأنا أقدِّر مساهمتها في السينما الأميركية، لكن يمكننا ملء عدّة مجلَّدات بما لم تكن تعرفه عن حرفة صناعة الأفلام، وهذا أفضل بكثير، لأنه ليس من المفترض أن يعرف النقّاد، فقط، لأن ذلك سيضرّ، بشكل كبير، بالغموض الذي يحيط بهذه الحرفة.
لكنك تصنع فيلما يتعارض، كلِّيّاً، مع هذا اللغز.
– السينما هي مشروع إنساني، بدرجة فائقة، بكلّ ما تدلّ عليه الكلمة من الهشاشة والفوضى والشفقة. لطالما حاولنا عسكرة هذا النشاط الفنّي، لكن مع الاعتذار لاستوديوهات الماضي والحاضر، فهذان مفهومان لا يمكن أن يحضرا معاً. هذا هو الخطأ الأساسي في كلّ ما يتعلَّق بنظرتنا للسينما – يمكنك التعامل معها كعملية شبه عسكرية، كما يمكنك اعتبارها خطّ إنتاج تجميعي، لكن هذا لن يمنع، أبداً، وجود ذلك الشخص الواحد المسؤول عن التحكُّم، الشخص الذي يتحمَّل مسؤولية اختيار الزوايا وتسجيل المواد، ويكون جاهزاً بالحلول مع الظروف غير المتوقَّعة. أستطيع أن أخبرك أن لا أحد يملك فيلمه، بالكامل، في رأسه.. لا أحد، وإلا سيكون هذا فيلماً خفيفاً للغاية… لا تصدِّق مخرجاً يقول: «هذا ما أريده»، فبعدها ستسقط قطع الدومينو، تماماً، في الأماكن المخطَّط لها.. هذا هراء. كما تعلم، إني أعقد اجتماعات مع ستّة وعشرين شخصاً، حيث ندرس النصّ صفحةً بصفحة، «حسناً، هناك هذا المشهد، من المفترض أن يعبِّر عن هذا -سنحتاج ذلك- سيتعيَّن على الفتاة أن يكون شعرها في حالة من الفوضى، وسنحتاج التجهيز لملابس إضافية بسبب التعرُّق… «بالطبع، هذه الأشياء ستحتاج، وقتها، إلى تدبير من نوع آخر، ولكن علينا أن نضعها في حسباننا. نحن لسنا وكالة «ناسا». وعلى الرغم من أنني قويّ جدّاً ومستعدّ للغاية، إلّا أنني لن أتمكَّن من تحديد مرادي في كلّ لحظة صغيرة من الفيلم.
هل كان لحقيقة أنه سيناريو والدك، أيّ تأثير في طريقتك في التعامل مع المشروع؟ تشير بعض الأقاويل إلى أنك تعاملت مع النصّ باحترام أكثر من المعتاد.
– أشعر بأنني تعاملت مع كُتّابي، دائماً، باحترام كبير. لكني أحتفظ بحقّي في التساؤل عن اختياراتهم، عندما يعرضون عملهم عليّ، سواء أكان الكاتب أبي أم غيره. أتخيَّل أنه لم يكن من السهل، حينها، على «جاك» سماع ملاحظات ابنه، الذي لم يكن قد أخرج، بعد، سوى «Alien 3» وبعض الأغنيات المصوَّرة والإعلانات. هذا صحيح، كانت هناك، أيضاً، مناسبات قليلة في أثناء التصوير، حيث تمسَّكت بما كان على الورق، بينما، في الأوقات العاديّة، كنت سأستجوب كاتب السيناريو. لكن، لسوء الحظّ، لم يكن ذلك متاحاً…؛ لذا، لن أكذب عليك، ولا أوصي المخرجين الآخرين بعمل أفلام كتبها والدوهم!.
هل تحلم أن يفوز بجائزة الأوسكار، بعد وفاته؟
– أوه.. لا. بصراحة، لا أحبّ التفكير بهذه الطريقة، على الإطلاق. أعتقد أن الهدف الحقيقي كان إخراج المشروع من الدرج، وجعله موجوداً. هذا كلّ ما أحتاجه.
هل أنت مرتبط مع «نتفليكس» بنسبة %100، الآن؟
– نعم، لديَّ عقد حصريّ معهم لمدّة أربع سنوات أخرى. واعتماداً على الطريقة التي سيتمّ بها استقبال «مانك»، سأذهب وأسألهم، بخجل، عمّا يمكنني فعله لإثبات نفسي، أو أقدِّم نفسي على أنني أحمق متعجرف يطالب بصنع المزيد من الأفلام، بالأبيض والأسود. (يضحك). لا. أنا هنا لتقديم «محتوى» (مهما كانت تعنيه هذه الكلمة) يجلب لهم مزيداً من المتفرِّجين، في مجال تأثيري الصغير.
في النهاية، لا يزال هناك عدد قليل من الأفلام بتوقيع «ديفيد فينشر».
– أنا بطيء. فقط، عندما ينتابني شعور بأن شيئاً ما جاهز للتصوير، يمكن أن يتمّ تصويره بسرعة كبيرة. هذا حدث في فيلم «الشبكة الاجتماعية»، إذ كان كلّ شيء في مكانه، وكان علينا، فقط، اختيار الممثِّلين. لكن هذه الشروط نادرة التحقُّق، والحالات التي تقرأ فيها نصّاً وتقول: «حسناً، يا رفاق، خذوا أماكنكم، ولنبدأ»، تراوحت بين عامَيْ (2007) و (2008)، ثمَّ في عامَيْ (2010) و(2011)، كان إيقاعي في العمل أسرع نسبيّاً، على الأقلّ، وفقاً لمعاييري المعتادة، فمن «زودياك» إلى «بنجامين باتون» إلى الشبكة الاجتماعية للفتاة ذات وشم التنّين، لكنني لست متأكّداً من أن ذلك كان شيئاً جيّداً في حينها. على أيّ حال، كنت بحاجة لإعادة شحن بطّارياتي. الآن، وقَّعت صفقة «Netflix» هذه، لأنني أردت العمل بالطريقة التي رسم بها «بيكاسو»، لتجربة أشياء مختلفة جدّاً، لمحاولة كسر الأنموذج أو تغيير طريقة العمل. أحبّ فكرة الحصول على «عمل». نعم. أعترف أن سؤالك جعلني مرتبكاً: بعد أربعين عاماً في هذه المهنة، لديّ فقط عشرة أفلام في رصيدي. حسناً. أحد عشر فيلماً، لكنّ عشرةً منها، فقط، يمكنني القول أنها تعبِّر عني من الناحية الموضوعية. إنها ملاحظة مرعبة إلى حَدٍّ ما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: ليونارد حداد
المصدر: