رحلة الإيطالي بوتا إلى اليمن.. مرثيةٌ الصِّراع

| 06 أبريل 2020 |
بُعيد النهضة الأوروبية واتِّساع حركة الكشوف الجغرافيّة تحوَّلت أوروبا (الغربيّة) إلى مركز لانطلاق الرحلات لاستكشاف مناطق واسعة من العالم، توجُّهها في ذلك دوافع وأغراض تتواشج بلا انفصال ما بين اقتصاديّة واستعماريّة وعلميّة. وقد شكَّل الشرق الإسلاميّ منطقة جذب للمستكشفين والرحالة الأوروبيين، نظراً لموقع المنطقة وحضورها في الذاكرة التاريخيّة بوصفها موطناً للديانات السماوية ومركز إشعاع حضاري تعاقبت فيه عدد من الحضارات القديمة، يُضاف إلى ذلك تاريخ طويل من العلاقات المُتوتِّرة بين أوروبا والعالم الإسلاميّ، وما رسَّخته في الوجدان الغربيّ من تصوُّرات تجاه العالم الإسلاميّ، على النحو الذي أبرزته لنا كلٌّ من كارين آرمسترونج في الفصل الأوّل من كتابها «سيرة النبي محمد» (1998)، ورنا قباني في كتابها «أساطير أوروبا عن الشرق» (1993).
لذلك انصبَّ جانب من عناية الرحالة الأوائل على معرفة العدو القديم وكشف مكامن قوته الغامضة التي جعلته يشكِّل دوماً عامل تهديد في المخيال الغربيّ. وفي مرحلة تالية برز البُعد العلميّ في توجيه الكثير من الرحلات، فالتنافس بين دول أوروبا كان على أشدّه لإحراز قصب السبق في ميادين علميّةٍ كثيرة منها إرسال العلماء والرحالة لاكتشاف مناطق مختلفة من العالم، دون غياب الأجندة السياسيّة والاقتصاديّة التوسعيّة الكامنة وراء تمويل حركة الاستكشاف في بُعدها العلميّ.
من هؤلاء المُستكشفين الذين ارتبطت حياتهم العلميّة والوظيفيّة بالعالم العربيّ، الإيطالي/ الفرنسي بول إميل بوتا (1802 – 1870)، عالم نبات ودبلوماسي ولد في بيدمونت بتورينو الإيطالية في 6 ديسمبر/كانون الأول 1802، وفي هذا العام أصبح والده مواطناً فرنسيّا بعد أن ضمَّ نابليون تورينو إلى التراب الفرنسيّ، ثم انتقلت العائلة فيما بعد إلى باريس، ودرس بوتا الطب في روان وباريس، لكنه التحق بعد ذلك بالسلك الدبلوماسيّ الفرنسيّ، وعُيِّن قنصلاً لفرنسا في الإسكندرية عام 1831.
بعد عودته إلى فرنسا كلَّفه متحف التاريخ الطبيعيّ في باريس القيام برحلة إلى اليمن لجمع عيِّنات من الأعشاب والنباتات التي تتميَّز بها هذه المنطقة. عُيِّن لاحقاً قنصلاً لفرنسا في الموصل عام 1841، ثمّ القدس عام 1848، وطرابلس عام 1855، وإليه يُنسب اكتشاف قصر الملك الأشوري سرجون الثاني في خورساباد بالعراق عام 1843.
رحلة علميّة في بلدٍ مضطرب
جاء بوتا إلى اليمن في عهد سلالة الأئمة القاسمية التي كانت تسيطر على مقاليد الحكم منذ نحو قرنين، غير أنها أصبحت آنذاك في غاية الضعف والانحسار نتيجة للتسلُّط وصراع أبناء السلالة المستمر على الحكم، إذ كان أحياناً ينازع الإمامَ الحاكم إمامان أو داعيان آخران كما حدث عند مجيء بوتا، ومع كلّ داعٍ جديد كان الشعب يجد نفسه في طاحونة الحرب ذاتها التي ما انفكَّ يتجرَّع ما يتولَّد عنها من مآسٍ وأوجاع.
لقد أغرت حالة الضعف القوى الخارجيّة للسيطرة على البلاد نظراً لموقعها على طريق التجارة العالمية واستغلال مواردها التي كان البن أبرزها في ذلك الحين، فدخل محمَّد علي باشا والإنجليز في سباقٍ محموم لإحكام السيطرة عليها انتهى باحتلال الإنجليز لعدن عام 1839، ومن ثَمَّ أجبروا محمَّد علي باشا على سحب كلّ قواته من اليمن. وكان الأخير قد أرسل حملة بقيادة «إبراهيم باشا يكن» استولت على مدينة المخا، ثم زحفت باتِّجاه الحُدَيْدَة، وعند وصول بوتا كانت تتأهب للتوجُّه نحو تَعِز.
الصِّراع ومسار الرحلة
بدا واضحاً هيمنة موضوع الصِّراع على سردية الرحلة فيتوازى أحياناً ويتداخل مع المُهمَّة العلميّة التي تبرز بكثافة عند وصول الرحالة إلى المناطق الجديدة واستطلاع غطائها النباتي. والواقع أن بوتا لا يورد تفاصيل عن المواجهات، وإنما يشير إلى مظاهر الصِّراع وما كان يجري من تحالفات واستعدادات والتركيز بشكلٍ خاصّ على تحرُّكات الشيخ حسن ومناوراته، فالأخير -حسب تحليل بوتا- كان يعتقد أن تحالفه مع إبراهيم باشا لن يعيده حاكماً لتَعِز فقط، بل لحكم اليمن بأسره. ولذلك تحالف مع حاكم تَعِز: المدعي الجديد للإمامة ضد ابن أخيه إمام اليمن، ليتمكَّن من إدخال قواته إلى مدينة تَعِز، ومن ثَمَّ يعمل على تسهيل دخول قوات الباشا إلى المدينة.
لقد ظلَّت قوات الباشا في المناطق الساحلية، ولم تستطع التوغل في مناطق اليمن الداخلية إلّا عبر استثمار الخلافات القائمة والتحالف مع زعماء المناطق الذين سهَّلوا لإبراهيم باشا الاستيلاء على تَعِز والاستعداد للتوجُّه إلى صنعاء. ويبدي بوتا ميله إلى سيطرة باشا مصر على اليمن ويعتبر ذلك مخرجاً من حالة الاحتراب، لأن استطالة هذه الحالة جعلت الشعب «يحلم بأي تغيير يحدث، وبانتقال السُّلطة إلى أيادٍ قوية قادرة على فرض الأمن واستعادة السلام الذي حُرم منهما لوقتٍ طويل» (ص 150).
بين نيبور وبوتا
اقتصرت مهمَّة بوتا العلمية على جمع عينات من النباتات والأعشاب وتصنيفها، ونجح في ذلك على نحوٍ جيّد، كما يذكر ألبير ديفلرز، حيث جمع أكثر من 500 نوع من النباتات. ومن الواضح أن طبيعة هذه المُهمَّة قد أتاحت له أن ينصرف بشكلٍ أكبر إلى تأمُّل أوضاع البلد وتسجيل رؤيته للأحداث وتوقُّعاته بشأن نتائجها.
تأتي رحلة بوتا ضمن سلسلة من الرحلات بدءاً بفارتيما الإيطالي مطلع القرن السادس عشر وانتهاء بالألماني جوزيف وولف الذي وصل إلى صنعاء عام 1836، لكن تظلّ البعثة الدانماركية (1761 – 1767) بقيادة الألماني كارستن نيبور أكثر الرحلات شهرة ومكانة علميّة. وأكَّد بوتا في مفتتح كتيبه على أهمِّيّة هذه البعثة وما أحدثته نتائجها من ثورةٍ معرفية في أوروبا بخصوص جنوب الجزيرة العربيّة.
وفي هذا الجانب سجَّل بوتا ملاحظات على كتاب نيبور أهمّها أن تركيزه على «الدقة العلمية وعلى جوانب معيَّنة محدودة من المتعة، كان على حساب السمات العامّة» (ص 149)، وأراد بذلك قِلة اهتمامه بالجوانب الاجتماعيّة والسمات العقليّة للناس وطبائعهم. وبالرغم من هذه الملاحظة وإفصاحه عن السعي لتلافيها، فالحقيقة أنه كان واقعاً تحت سحر رحلة نيبور فتحوَّلت الأخيرة إلى متن داخل نصّ بوتا وبؤرة جاذبة إذ ظلّ النصّ يتحرَّك بين ما تختزنه ذاكرته من رحلة نيبور والواقع الذي ترصده عيناه. وتكمن أهمِّيّة رحلة نيبور في كونها مثَّلت إطاراً لبوتا لقياس مدى التغيُّر الحاصل في خارطة الحياة وملاحظة أثر الصِّراع على حالة العمران والناس.
خراب مدينة «تَعِز»
يتجلَّى حضور رحلة نيبور في نصّ بوتا في أشكالٍ مضمرة وصريحة، حين وصل بوتا إلى مدينة «بيت الفقيه» اكتفى بتقديمها على هذا النحو الموجز: «كانت فيما مضى في ذروة الازدهار، وفقدت أهمِّيّتها بعد أن طمرت الرمال ميناءها «غليفقة»، وانتقلت تجارة البن إلى الحُدَيْدَة والمخا» (ص 154). ويمكن تفهُّم هذا التعريف الموجز في إطار علاقته برحلة نيبور، وكأنه بذلك يحيل القارئ إلى ما أسهب فيه نيبور من وصف المدينة وفترة ازدهارها. وعند لقائه الأوّل بالشيخ حسن يحدِّثه عن رحلة نيبور ورفاقه ويعرب له عن أسفه «لما آل إليه حال البلاد من التدهور بسبب سوء الحكم بعد أن كانت غنية ومزدهرة» (ص 157).
ويتصاعد هذا الأسف مشيجاً بالدهشة عند دخوله إلى مدينة تَعِز إذ يكتشف أن جزءاً كبيراً من المعالم الأثرية التي وصفها نيبور في رحلته لم يعد لها وجود، ويندهش لمرأى ذلك الكمّ من المباني المدمرة التي سُوي بعضها بالأرض: «فالأرض التي على هيئة مدرجات، كانت فيما مضى تضمّ منازل جميلة، ولم يتبقََ منها اليوم سوى ما يُقارب العشرين منزلاً، وحلَّت محلّ البيوت أكواخ بائسة، ولا يجرؤ الأهالي على بناء أفضل منها خشية السطو المُتكرِّر للجنود وهدمها واستخدام أخشابها وقوداً للنار» (ص 186).
كما يُظهر في الوقت نفسه خشيته بشأن ما بقي من المباني الأثرية، فاستمرار هذا الوضع يعني أنها سوف تكون مهدَّدة بالاختفاء تماماً أو تحوُّلها عند مجيء بوتا إلى «كومة من الأنقاض» (ص 186). ومن المُؤكَّد أن استدامة تلك الحروب لعقودٍ وتجدُّدها قد طوى إلى الأبد الكثير من المباني والمعالم الأثريّة، وما سجّله بوتا عن خراب مدينة تَعِز ينسحب على بقية المدن التي كانت تتعرَّض دوماً للاجتياح خاصّة مدينة صنعاء التي لم يتمكَّن بوتا من الوصول إليها.
من تهامة إلى حصن العَروس
على الرغم من قتامة المشهد الذي يرصده بوتا في مدينة تَعِز، فقد جاء تقرير الرحلة مفعماً بحرارة الدهشة والاكتشاف التي صاغ بها المُؤلِّف اجتراحات الرحلة ومشاهداته للمواقع الطبيعيّة. يتبنَّى المُؤلِّف عدداً من التقنيات لشدِّ انتباه القارئ، فالتضافُر بين السرد والوصف هو أكثر ما يشدُّ الانتباه لمتابعة ارتحال المُؤلِّف بين منطقةٍ وأخرى، وكذلك بعض الومضات الشعريّة التي تتكاثف في إطار التعبير عن ما تتركه المشاهدات من أصداءٍ وما تثيره من خيالات. ومنذ مفتتح الكتيب تتوالى مفردات المكان وتشكيلات الفضاء من سهول تهامة ومدنها صعوداً إلى المناطق الجبلية كحصن «مُؤَيْمرة» قلعة الشيخ حسن الحصينة، حيث «يمكِّنك ارتفاعها من رؤية ظهور الصقور وهي تطير مئات الأميال تحت ناظريك» (ص 167).
ومن حصن «مُؤَيْمرة» وقرية «ساهم» إلى مدينة تَعِز، حيث يلتحق المُؤلِّف بالشيخ حسن، وهناك يتراءى له جبل صَبِر كحارس أبدي للمدينة التي تسترخي في حضنه يمدّها بخيرات مدرجاته ويغدو ملاذاً آمناً لأبنائها عندما تنهال على المدينة مجاميع المحاربين. يغريه مرأى الجبل فيستأذن الشيخ حسن في صعوده وينطلق مع مرافقيه متنقّلاً بين قرى كثيرة تتناثر على صدر الجبل وتحيط بها حقول القمح والشعير وتجمُّعات كثيفة من أشجار العرعر ذات الرائحة العبقة، وصولاً إلى القمّة، حيث يتربَّع «حصن العروس» بحكايات كنوزه وخباياه. يصل بوتا إلى الحصن كأوّل أوروبي فيمد ناظريه، ثم يحبس أنفاسه لسحر المشهد الذي تجلَّى له: «كم كانت سعادتي حينما اكتشفتُ البحر الأحمر من جهة الحُدَيْدَة، والمحيط الهندي من جهة عدن، حتى أنه كان بإمكاننا رؤية بعض قمم السواحل الإفريقية من جهة الغرب… » (ص 198).
وهي مشاهد وقف الكاتب أمامها مأخوذاً معترفاً بعدم قدرته على وصفها والتعبير عمّا أثارته في وجدانه من تأمُّلات وخيالات، ومبدياً تحسّره على عدم إتاحة وقت أطول للاستمتاع بجلال الطبيعة وروعتها. ومع ذلك، فقد كان سعيداً بالوصول إلى قمّة الجبل التي تعذَّر على المستشرق السويدي فورسكال بلوغها، وبالكمّيات الهائلة من النباتات التي قام بجمعها (ص 201).
منظورٌ استشراقيٌّ مُغاير
تنتمي هذه الرحلة إلى النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وهي فترة شهدت موجة انبهار أوروبي واسع بعالم الشرق وبات الأخير موضوعاً أثيراً للكتابة وثيمة تتردَّد في الإنتاج الأدبيّ والفنّيّ الغربيّ، فالمخيِّلة الغربيّة أنتجت صورة رومانسية للشرق بوصفه بلاد الرفاه والشهوات والعجائب وراحت تغذي هذه الصورة بالكثير من الكتابات، وأسهم الرحالة بجهدٍ وافر في ترسيخ هذه الصورة، لدرجة صار معها أدباء أوروبا ينظرون إلى الشرق على أنه مكان لاستلهام ينابيع الإلهام والسمو وغدت الرحلة إليه زاداً لإذكاء الروح الشعريّة وتوهُّجها، إنها «رحلة للبحث عن النسيان أو لإحياء ذكريات الشباب».
وبرغم تضخم مدوّنة الرحلة الأوروبية إلى الشرق إلّا أن جزءاً كبيراً من هذه الكتابات، كما تذكر رنا قباني في كتابها «أساطير أوروبا عن الشرق»، كانت تفتقر إلى الرصد الدقيق لحقيقة الشرق وتغيب عنها الرؤية الموضوعية، إذ سيطر عليها نمط الكتابة الاستهلاكية التي يحاول صاحبها إرضاء تصوُّرات القارئ وتسليته بما يزخرفه من المواقف والحكايات المتبَّلة بالغرابة والاستيهامات الجنسية التي تعزِّز ما ترسَّخ في الذاكرة الغربيّة عن ثروات الشرق ومجتمعات الحريم فيه، دون التفات إلى حقيقة الواقع ومظاهر الفقر والبؤس التي كان يعيشها معظم سكّان الشرق.
وإذا وضعنا هذه الرحلة ضمن ما كان سائداً آنذاك في الكتابات حول الشرق سنجد أنها تختطُّ لنفسها مساراً مُغايراً، فبوتا لم يكن معنياً بالتلصص على حياة الشرقيين، بل وجَّه عنايته إلى التعريف بواقع حياة سكّان الركن الجنوبي من شبه الجزيرة العربيّة، وأبرز بشكلٍ لافت التناقض بين ما تختزنه البلاد من طبيعة ومقوِّمات وموارد والصِّراع الدائم لأمراء الحرب في إدخال البلاد في دورات متوالية من الفوضى والخراب. لذلك، جاء وصفه لحياة الناس وعاداتهم قرين التعاطف والرغبة في فهم ذلك المجتمع الذي كان لا يزال محافظاً على تراثه القديم، وكثيراً ما يلجأ المُؤلِّف في ثنايا رحلته إلى ذكر موطنه الأصلي إيطاليا ليقارب لقارئه الغربيّ جوانب الشبه بين البيئتين اليمنيّة والإيطاليّة في عددٍ من مناحي الحياة كخصائص العمارة وبعض سمات البشر والموسيقى وأنواع الأشجار والنباتات.
على سبيل المثال، يذكر بوتا عند دخوله مدينة الحُدَيْدَة أنها كانت تضمُّ عدداً كبيراً من العشش المبنية بالقش والجريد، كما كانت تضم «منازل جميلة مبنية بالطوب ويتم طلاؤها بالنورة، سطوحها مستوية كأنها شُرَفٌ محاطة بدرابزين ذي أشكال مختلفة ممّا يضفي عليها مظهر المنازل الإيطالية» (ص 151). كما لاحظ في نساء جبل صَبِر جمالاً خاصّاً ذكَّره بجميلات الريف الإيطالي، فملامح نساء الجبل «أقرب إلى الإيطاليات، وبشرتهن على درجة من البياض كافية لإبراز الألوان على خدودهن» (ص 190).
وتتردَّد هذه الإحالة على جوانب من حياة المجتمع الإيطاليّ وثقافته في مواضع عديدة من الرحلة، وقد يُعزى ذلك إلى حرص المُؤلِّف على التوصيل وتقريب ما يصفه للقارئ كما أشرنا آنفاً، غير أن لغة كتابه الفرنسية لا الإيطالية التي يجعل من موطن متحدِّثيها مرجعاً لإشاراته، فكيف يتوجَّه للقارئ الفرنسي، ثم يحيل إلى بيئة لا يعرفها ربَّما سوى قِلّة من الفرنسيين؟ هل يمكن عدّه محاولة لتقريب الوصف أم أنه نوع من حنين المُؤلِّف إلى سنوات صباه وجمال الريف الإيطاليّ في تورينو قبل انتقال عائلته إلى باريس؟ يمكن القول إن المُؤلِّف يحيل على الريف الإيطاليّ، لأنه يعرفه جيّداً أمّا باريس التي انتقل إليها في شبابه فهي مدينة حديثة لا يمكن الاتكاء عليها في تقديم وصفٍ مُقارب للبيئة اليمنية ذات الطابع الريفي في معظمها.
موجّهات علميّة وشخصيّة
وبناءً على ما سبق، يتّضح لنا مدى ابتعاد بوتا عن الصور النمطية السائدة في مدوّنة الرحلات الأوروبية عن الشرق، ويظهر أن ثمَّة اعتبارات علميّة وشخصيّة قد لعبت دورها في تشكيل هذا التوجُّه، ولا شكّ أن تكوينه العلميّ كعالم نبات وما يقتضيه هذا المجال من ملاحظة وفحص دقيقين للموضوع المدروس قد جعلت بوتا بمنأى عن النزعة المركزية الأوروبيّة أو وضع أيّة اعتبارات لسياقات التلقيّ واستجابات القارئ الغربيّ، ومن ثَمَّ أكسبت تأمُّلاته نوعاً القبول والمصداقية. ويتبدَّى ذلك على سبيل المثال في تشخيصه للظروف المأساوية التي يعيشها المجتمع اليمني نتيجة لحالة الاحتراب المُتجدِّدة، فهو لا يرجع ذلك إلى مؤثِّرات تتَّصل بالعرق أو الثقافة أو الدين، بل إلى غياب الحكم الرشيد في وجود دولة مركزية قويّة تحفظ للبلاد استقرارها وأمنها.
أمّا الجانب الشخصيّ فيمكن ملاحظته في العديد من المواقف التي يسردها وتبين عن حالات التعاطف ودفء العلاقات الإنسانيّة التي أقامها مع مضيفيه ومرافقي رحلته، وربَّما يعود جانب من نجاحه في إقامة هذه الصلات إلى إتقانه اللُّغة العربيّة ومهارته في استخدامها نطقاً وكتابة، دون أن نغفل حقيقة أن بوتا كان شخصيّة اجتماعيّة سوية متزنة فيما يصدر عنها من تصوُّرات وأحكام، ناهيك عن قدرته على التكيُّف مع المحيط الاجتماعيّ الجديد والتواصل معه بنجاح.
الكاتب: ربيع ردمان