رحلة محمد الحارثي الأخيرة

إبراهيم‭ ‬سعيد  |  06 أبريل 2020  |  

طالب‭ ‬الجيولوجيا‭ ‬بجامعة‭ ‬قطر،‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬طوَّحت‭ ‬به‭ ‬الحياة‭ ‬بعيداً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬مستقرّه‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬بلدته‭ ‬‮«‬المضيرب‮»‬‭ ‬شرق‭ ‬عمان‭.‬‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬مسقط،‭ ‬هذا‭ ‬العام،‭ ‬كان‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬المتأخِّر‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬حدث‭ ‬أدبي‭ ‬مهمّ،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الروحي‭ ‬لقرّائه،‭ ‬على‭ ‬الأقلّ‭. ‬هكذا‭ ‬استقبل‭ ‬القرّاء‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الراحل‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي،‭ ‬وهو‭ ‬رحلتان‭ ‬إلى‭ ‬سرنديب‭ ‬أو‭ ‬سيلان‭ ‬المعروفة‭ ‬بـ«سيرلانكا‮»‬‭ ‬اليوم‭.‬

كان‭ ‬الشاعر‭ ‬العماني‭ ‬المعاصر‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬مسوَّدة‭ ‬كتاب‭ ‬الرحلات‭ ‬الأخير‭ ‬هذا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬المرض‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬أدَّت‭ ‬إلى‭ ‬وفاته،‭ ‬وبقي‭ ‬العمل‭ ‬رهين‭ ‬حاسوبه‭ ‬الشخصي‭ ‬حتى‭ ‬تمكَّنت‭ ‬ابنته‭ ‬الفنّانة‭ ‬ابتهاج‭ ‬الحارثي‭ ‬من‭ ‬معالجة‭ ‬الحاسوب،‭ ‬واستخراج‭ ‬العمل،‭ ‬ثم‭ ‬عهدت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الروائية‭ ‬جوخة‭ ‬الحارثي،‭ (‬أوَّل‭ ‬عربيّة‭ ‬تحوز‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬مان‭ ‬بوكر»العالمية‭ ‬للرواية،‭ ‬لعام‭ ‬2019،‭ ‬عن‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬سيِّدات‭ ‬القمر‮»‬‭)‬،‭ ‬لتشرف‭ ‬على‭ ‬المراجعة‭ ‬النهائية‭ ‬للكتاب،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أطواره‭ ‬النهائية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه‭. ‬وهكذا،‭ ‬صدر‭ ‬الكتاب‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬مسعى‮»‬‭ ‬للنشر‭.‬

صدر‭ ‬لمحمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬عدّة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬الرحلات،‭ ‬كان‭ ‬أوَّلها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عين‭ ‬وجناح‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬حاز‭ ‬‮«‬جائزة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‮»‬‭ ‬في‭ ‬دورتها‭ ‬الأولى،‭ ‬ثمَّ‭ ‬صدر‭ ‬له‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬محيط‭ ‬كتمندو‮»‬،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬كتابه‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬فنّ‭ ‬الرحلات‭ ‬يصدر،‭ ‬أخيراً،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثّقافيّة‭ ‬العمانية‭ ‬أن‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬هو‭ ‬الابن‭ ‬البكر‭ ‬للشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬الحارثي‭ ‬المعروف‭ ‬بأبي‭ ‬الحكم،‭ ‬والملقَّب‭ ‬بشاعر‭ ‬الشرق،‭ ‬وكان‭ ‬أبو‭ ‬الحكم،‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬يمثِّل،‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الخليلي‭ ‬أمير‭ ‬البيان،‭ ‬فرسَيْ‭ ‬رهان‭ ‬الشعر‭ ‬العماني،‭ ‬بصبغته‭ ‬التقليدية‭ ‬المتوارثة‭ ‬للقصيدة‭ ‬العروضية،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬ديوان‭ ‬أبي‭ ‬الحكم‭ ‬صدر‭ ‬بجمع‭ ‬وتحقيق‭ ‬من‭ ‬حفيدته‭ ‬الروائية‭ ‬جوخة‭ ‬الحارثي،‭ ‬وقد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬نسل‭ ‬شاعر‭ ‬الشرق‭ ‬شباب‭ ‬وشابّات‭ ‬أثروا‭ ‬الحياة‭ ‬الفنّيّة‭ ‬العمانية‭ ‬خلال‭ ‬عقودها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬منهم‭ ‬جوخة،‭ ‬وابتهاج،‭ ‬إضافةً‭ ‬إلى‭ ‬الراحل‭ ‬كاتب‭ ‬القصّة‭ ‬القصيرة‭ ‬عبدالله‭ ‬أخضر،‭ ‬وكذلك‭ ‬الروائية‭ ‬والقاصّة‭ ‬أزهار‭ ‬أحمد،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الميراث‭ ‬الشعري‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬وحده،‭ ‬والذي‭ ‬أضاف‭ ‬إليه،‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬كتب‭ ‬الرحلات،‭ ‬ورواية‭ ‬واحدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬تنقيح‭ ‬المخطوطة‮»‬،‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الجمل‮»‬‭.‬

تجاوز‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي،‭ ‬مدفوعاً‭ ‬بحبِّه‭ ‬للشعر،‭ ‬الأطرَ‭ ‬التقليدية‭ ‬للشعر،‭ ‬وسما‭ ‬بتجربته‭ ‬إلى‭ ‬النبض‭ ‬المعاصر‭ ‬لقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربيّة،‭ ‬وشكَّلَ،‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬عمانيين‭ ‬غيره،‭ ‬كوكبةً‭ ‬شعرية‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬التي‭ ‬امتدَّت‭ ‬أصداؤها،‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فأصدر‭ ‬الحارثي‭ ‬ستّة‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية،‭ ‬منذ‭ ‬مجموعته‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬عيون‭ ‬طوال‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬نُشِرت‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬رحيله‭ (‬2018م‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬الناقة‭ ‬العمياء‮»‬،‭ ‬لتكون‭ ‬آخر‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وكأنما‭ ‬تتجسَّد‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬يتركها‭ ‬الشاعر‭ ‬تراثاً‭ ‬مشاعاً،‭ ‬بعد‭ ‬رحيله،‭ ‬لمسةً‭ ‬قويّةً‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬الحيّ‭.‬

مع‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬حنين‭ ‬الشاعر‭ ‬الابن‭ ‬لمثال‭ ‬الشاعر‭ ‬الأب،‭ ‬وذوقه،‭ ‬قد‭ ‬تمثَّل‭ ‬في‭ ‬جمعه‭ ‬وتحقيقه‭ ‬لواحد‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬شعراء‭ ‬عمان‭ ‬الكلاسيكيين‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وهو‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬مسلم‭ ‬البهلاني،‭ ‬فقدَّمها‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬للقرّاء‭ ‬مع‭ ‬مقدِّمة‭ ‬تفصيلية‭ ‬طويلة،‭ ‬نسبيّاً‭.‬

يلتحق‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭ ‬بتراث‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬ولكن‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬اليتم؛‭ ‬فالأب‭ ‬قد‭ ‬توفِّي،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬عليه‭ ‬الشاعر،‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2015م،‭ ‬يلاحظ‭ ‬القارئ‭ ‬الإشارات‭ ‬النهائية‭ ‬للروح،‭ ‬في‭ ‬لمحات‭ ‬خاطفة،‭ ‬لأن‭ ‬أسلوب‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي،‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الرحلات،‭ ‬أشبه‭ ‬بسيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬لكنها‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬في‭ ‬الأسفار،‭ ‬وهي‭ ‬الأسفار‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬مجاميعه‭ ‬الشعرية،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬مقطعه‭ ‬الشعري‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬غفوة‭ ‬صعبة‭ ‬المنال‮»‬‭:‬

‮«‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أعود‭/ ‬بصور‭ ‬فوتوغرافية‭/ ‬وحقيبة‭ ‬ظهر‭ ‬وقصائد‭/ ‬تتدلّى‭ ‬منها‭/ ‬أرقام‭ ‬الرحلات‭/ ‬وأخفاف‭ ‬حنين‮»‬‭.. (‬ص44‭. ‬قارب‭ ‬الكلمات‭ ‬يرسو‭)‬

حاز‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬على‭ ‬‮«‬جائزة‭ ‬الإنجاز‭ ‬الثّقافي‮»‬‭ ‬العمانية،‭ ‬عام‭ ‬2014م،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أعدَّه،‭ ‬وحرَّره‭ ‬الكاتب‭ ‬سعيد‭ ‬سلطان‭ ‬الهاشمي،‭ ‬روى‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية،‭ ‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬سؤال‮»‬،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬حياتي‭ ‬قصيدة‭ ‬وددت‭ ‬لو‭ ‬أكتبها‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬أجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السيرة،‭ ‬تتناثر‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬الشعرية‭ ‬ورحلاته‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬عدسة‭ ‬مكبِّرة‭ ‬مرفوعة‭ ‬على‭ ‬أزمنة‭ ‬أسفاره‭ ‬المتعدِّدة‭.‬

ينقسم‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬فصول‭ ‬قصيرة‭ ‬تجسِّد‭ ‬الرحلتين‭ ‬اللتين‭ ‬طاف‭ ‬فيهما‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬بأجواء‭ ‬سيرلانكا،‭ ‬وكشف،‭ ‬في‭ ‬طوافه‭ ‬ذاك،‭ ‬أوجهاً‭ ‬متعدِّدة‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬البلد‭ ‬والثّقافة‭ ‬واللّغة‭. ‬ولسيلان‭ ‬موقع‭ ‬أثير‭ ‬مع‭ ‬الرحّالة‭ ‬العرب،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نتذكَّر‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬به‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ (‬شيخ‭ ‬الرحّالة‭) ‬تلك‭ ‬الجزيرة،‭ ‬ممّا‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬غرامه‭ ‬بها،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬افتخاره‭ ‬بزيارته‭ ‬لجزيرة‭ ‬سرنديب‭ ‬أو‭ ‬سيلان‭.‬

بصدور‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬تكتمل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬الكثيفة‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬الناقة‭ ‬العمياء‮»‬،‭ ‬خاصّةً‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رحلة‭ ‬أخيرة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الشاعر،‭ ‬عام‭ ‬2017م،‭ ‬إلى‭ ‬سيرلانكا؛‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بعام،‭ ‬وكتب‭ ‬هناك‭ ‬نصّاً‭ ‬شعريّاً،‭ ‬أصبح‭ ‬النصّ‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬الناقة‭ ‬العمياء‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬نصّ‭ ‬يستعيد‭ ‬مكاناً‭ ‬آخر،‭ ‬للمفارقة،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬رحلة‭ ‬قديمة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬التسعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬أيَّام‭ ‬شبابه،‭ ‬إلى‭ ‬فيتنام،‭ ‬حيث‭ ‬التقى‭ ‬هناك‭ ‬بالفنّان‭ ‬الفيتنامي‭ ‬‮«‬نغوين‭ ‬ثانه‮»‬،‭ ‬واقتنى‭ ‬إحدى‭ ‬لوحاته،‭ ‬وظلّ‭ ‬محتفظاً‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬حياته،‭ ‬حين‭ ‬قرَّر‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬اللوحة‭ ‬غلافاً‭ ‬لمجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وأظنّ‭ ‬أن‭ ‬العنوان‭ ‬وُلِد،‭ ‬كذلك،‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬الأخيرة‭ ‬تلك،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تحرير‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬وتحرير‭ ‬كتاب‭ ‬الرحلة‭ ‬معاً‭.‬

نعرف،‭ ‬الآن،‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭ ‬أن‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬سعى،‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬السابقة،‭ ‬للقاء‭ ‬فنّان‭ ‬إنجليزي‭ ‬شهير‭ ‬مقيم‭ ‬في‭ ‬سيرلانكا،‭ ‬آنذاك،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬جورج‭ ‬بيفن‮»‬،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء‭ ‬الفنّي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرته‭ ‬لقاءه‭ ‬الفنّي‭ ‬القديم‭ ‬بالفنّان‭ ‬الفيتنامي،‭ ‬وألهمه،‭ ‬بقوّة‭ ‬الفنّ،‭ ‬استعادة‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬قاع‭ ‬الزمن‭ ‬الجارف،‭ ‬وتخليده‭ ‬في‭ ‬نصّ‭ ‬شعري‭. ‬هكذا،‭ ‬أصبح‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬القديم،‭ ‬واللوحة‭ ‬التي‭ ‬اقتناها،‭ ‬آنذاك،‭ ‬التي‭ ‬تتصدَّر‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬والعماء‭ ‬الذي‭ ‬ينسبه‭ ‬العنوان‭ ‬للناقة،‭ .‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬يجد‭ ‬تضاعيفه‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المسافر‭ ‬الأعمى،‭ ‬إذا‭ ‬تذكَّرنا‭ ‬مقطعاً‭ ‬شعريّا‭ ‬أقدم‭ ‬لمحمَّد‭ ‬الحارثي‭:‬

‮«‬يشرب‭ ‬قهوته‭/ ‬مسافر‭ ‬أعمى‭/ ‬أرسل‭ ‬عينيه‭ ‬إثر‭ ‬فراشة‭ ‬صعدت‭ ‬الباص‭/ ‬الذي‭ ‬سيعبر‭ ‬الجسر‭ ‬بعد‭ ‬قليل‮»‬‭. 

فكأنما‭ ‬عمى‭ ‬المسافر‭ ‬عماء‭ ‬أدبيّ‭ ‬مجازيّ،‭ ‬لأنه‭ ‬يخبط‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬بلاد،‭ ‬لم‭ ‬يرَها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ومهما‭ ‬رأى‭ ‬منها‭ ‬فرؤيته‭ ‬تبقى‭ ‬قاصرة،‭ ‬فإذا‭ ‬عدنا‭ ‬للطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬رحلاته‭ ‬الأوَّل‭ ‬‮«‬عين‭ ‬وجناح‮»‬‭ ‬فسنجد‭ ‬صورة‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬يقود‭ ‬ناقة،‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬الغلاف،‭ ‬وتذكِّرنا‭ ‬الصورة‭ -‬نوعاً‭ ‬ما‭- ‬بغرامه‭ ‬الأدبي‭ ‬بالرحّالة‭ ‬الكولونيالي‭ ‬الشهير،‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬الرمال‭ ‬العربيّة‭ ‬و‮«‬يلفرد‭ ‬ثيسجر‮»‬‭. ‬هو‭ ‬الرحيل،‭ ‬إذاً‭.. ‬والحياة‭ ‬هي‭ ‬الرحلة،‭ ‬والناقة‭ ‬العمياء‭ ‬هي‭ ‬الراحلة‭. ‬وهنا،‭ ‬نتذكَّر‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬أبعد‭ ‬من‭ ‬زنجبار‮»‬‭:‬

‮«‬يموتون‭/ ‬ثم‭ ‬يضحكون‭ ‬في‭ ‬أغلفة‭ ‬الكتب‭/ ‬يموتون‭/ ‬ويبكون‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬الكلمات‮»‬‭.‬

ما‭ ‬الحياة،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬إلّا‭ ‬أمثولة‭ ‬تولد‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬اللمحات‭ ‬الخاطفة‭. ‬هكذا،‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬الناقة‭ ‬العمياء‮»‬،‭ ‬يبصر‭ ‬القارئ‭ -‬بوضوح‭- ‬ظلال‭ ‬الموت‭ ‬الكثيفة،‭ ‬حيث‭ ‬أغلب‭ ‬النصوص‭ ‬مهداة‭ ‬لذكرى‭ ‬شعراء‭ ‬رحلوا‭ ‬عن‭ ‬الحياة،‭ ‬ولم‭ ‬يخلِّفوا‭ ‬غير‭ ‬قصائدهم‭. ‬والآن،‭ ‬بصدور‭ ‬كتابه‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬فلفل‭ ‬أزرق‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يشبه،‭ ‬في‭ ‬وصوله‭ ‬المتأخِّر،‭ ‬إشارة‭ ‬لما‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬من‭ ‬الغيب،‭ ‬نجد‭ -‬رغم‭ ‬ذلك‭- ‬رسالة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬وألوانها‭ ‬المتعدِّدة‭ ‬البديعة‭ ‬في‭ ‬منشور‭ ‬ضوئيّ‭ ‬هائل،‭ ‬يصعّده‭ ‬الحارثي‭ ‬بجماليّات‭ ‬البساطة‭ ‬ونكهات‭ ‬الوجبات‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬استلهم‭ ‬منها‭ ‬عنوان‭ ‬كتابه،‭ ‬والشخصيات‭ ‬الإنسانية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬يصنع‭ ‬منها‭ ‬أبطالاً‭ ‬روائيِّين‭ ‬في‭ ‬رحلته،‭ ‬مع‭ ‬نكهة‭ ‬محمَّد‭ ‬الحارثي‭ ‬الشخصي،‭ ‬وطرائفه‭ ‬ولمحاته‭ ‬ومعرفته‭ ‬وثقافته‭ ‬الواسعة،‭ ‬حيث‭ ‬تتكشَّف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغرائب‭ ‬الإنسانية‭ ‬واللمحات‭ ‬الصدفوية‭ ‬الغامضة،‭ ‬مثلما‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الشابّ‭ ‬اليمني‭ ‬الذي‭ ‬يتستَّر‭ ‬على‭ ‬ماضيه‭ ‬بلهجةٍ‭ ‬واسْمٍ‭ ‬لبنانيَّيْن‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخير‭ ‬إشراقةٌ‭ ‬روحية‭ ‬صغيرة،‭ ‬لم‭ ‬يهمل‭ ‬الحارثي‭ ‬تدوينها؛‭ ‬فعلى‭ ‬سكّة‭ ‬القطار‭ ‬البطيء‭ ‬بين‭ ‬‮«‬كولومبو‮»‬‭ ‬و«جفنة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تستغرق‭ ‬تسع‭ ‬ساعات،‭ ‬محطّة‭ ‬صغيرة‭ ‬تدعى‭ ‬‮«‬فافونيا‮»‬،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الراكب‭ ‬جالساً‭ ‬في‭ ‬العربة‭ ‬الأخيرة‭ ‬المسمّاة‭ ‬بـ‭(‬الشرفة‭) ‬يستطيع‭ ‬إلقاء‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬بيوت‭ ‬البلدة‭ ‬المحيطة‭. ‬في‭ ‬أحد‭ ‬تلك‭ ‬البيوت،‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2015م،‭ ‬كانت‭ ‬فتاة‭ ‬شابّة،‭ ‬بثيابها‭ ‬الملوَّنة،‭ ‬تنشر‭ ‬الثياب،‭  (‬لربَّما‭ ‬تذكِّرنا‭ ‬الفتاة‭ ‬بشخصية‭ ‬‮«‬خاتون‮»‬‭ ‬من‭ ‬سرنديب،‭ ‬في‭ ‬قصّة‭ ‬‮«‬سيف‭ ‬الملوك‮»‬،‭ ‬في‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭). ‬تحين‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬التفاتة‭ ‬جهة‭ ‬القطار،‭ ‬فتلمح‭ ‬الراكب‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬شرفة‭ ‬القطار،‭ ‬فتبتسم‭ ‬الفتاة‭ ‬لهذا‭ ‬المسافر،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬من‭ ‬هو،‭ ‬تلوِّح‭ ‬له،‭ ‬فيردّ‭ ‬التحيّة‭. ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬انطلاق‭ ‬القطار،‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تماماً،‭ ‬تبعث‭ ‬له‭ ‬قبلةً‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬كأنما‭ ‬روح‭ ‬الحياة‭ ‬حلَّت‭ ‬في‭ ‬جسدها‭ ‬الشابّ،‭ ‬وأرادت‭ ‬أن‭ ‬تحيي،‭ ‬بقبلتها‭ ‬تلك،‭ ‬قلب‭ ‬ذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬الرحّالة‭ ‬الذي‭ ‬أشرفت‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬النهاية‭.‬

‮«‬كما‭ ‬كان‭..‬

كما‭ ‬كنّا،‭ ‬دائماً،‭ ‬ننسى‭ ‬أرض‭ ‬الماضي،‭ ‬ونصغي،

ككلّ‭ ‬ليلة،‭ ‬لأمّ‭ ‬كلثوم‭ ‬وهي‭ ‬تنشد‭ ‬‮«‬كلّ‭ ‬ليلة‭ ‬وكلّ‭ ‬يوم‮»‬‭..‬

دمعاً‭ ‬استعصى‭ ‬علينا‭ ‬وعلى‭ ‬أبي‭ ‬فراس،

فيما‭ ‬نمضغ،‭ ‬من‭ ‬جديد،

عشبة‭ ‬الشِّعْر

التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي

كما‭ ‬لا‭ ‬ننتهي‭ ‬عنها،‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭ ‬وليلة،‭ ‬كما‭ ‬كنّا،‭ ‬دائماً،

لا‭ ‬ننتهي‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬أو‭ ‬النهار‮»‬‭

مواضيع مرتبطة

بعُيونٍ عَرَبيّة
بنيونس عميروش 10 نوفمبر 2022
أجاثا كريستي والعائلة.. الحقيقة الصامتة
حسن المودن 02 يناير 2022
«الفردوس» لعبدالرزاق قُرنح.. أوجاع الحيوات المتروكة
صبري حافظ 02 يناير 2022
دون كيخوطي.. من مجهول الكُتب إلى مجهول العَالَم
خالد بلقاسم 06 أكتوبر 2021
«النار ما تورِّث إلّا رماد»: هيمنة ثقافة المطابقة على المغايرة
ربيع ردمان 06 أكتوبر 2021
شادي عبْد السَّلام.. سينِما المُهَندِس المِعْماري
بنيونس عميروش 07 يوليو 2021
في نقد العباراتُ المسكوكة.. تصلّبُ اللّغة إفقارٌ للحياة
خالد بلقاسم 07 يوليو 2021
التشخيص والتجريد في تجربة الراحل رفيق الكامل
إبراهيم الحَيْسن 26 مايو 2021
عز الدين المناصرة.. الشعر في استجلاء التاريخ البعيد
خالد بلقاسم 26 مايو 2021
جماليّة الخيبات في رواية «حبس قارة»
رشيد بنحدو 26 أبريل 2021