رحيل إرنيستو كاردينال.. شاعر الثورة السندينية

| 08 أبريل 2020 |
في بداية مارس/آذار من هذه السنة رحل شاعر نيكاراغوا الأوّل إرنيستو كاردينال عن عالمنا عن عمر ناهز 95 عاماً، بعدما «أمضى أكثر من عام كامل من الأمراض والعلاجات في المستشفيات لم يتوقَّف أبداً خلالها عن كتابة الشعر ونشره» كما جاء في تصريح الكاتبة لوث مارينا أكوستا مساعدة كاردينال. وما بين الدموع والأحاديث الحزينة تجمع الناس ليودّعوا شاعر الثورة السندينية الذي كانت أشعاره الملتهبة والعميقة تتردَّد على الأفواه، ملهمة حماس شعب. رحل الشاعر وهو يقف في المواجهة ضد الطغاة جارحاً مثل شوكة في الحلق أعداء شعبه، فنال احترام العدو قبل الصديق، فقد أشار بيان الرئاسة الموقَّع من طرف دانييل أوتيغا وزوجته روساريو موريو: «إننا نعترف بإسهاماته في نضال الشعب النيكاراغوي، كما أننا نعترف أيضاً بجميع مزاياه الثقافية والفنِّيّة والأدبية، وبشعره الاستثنائي».
ولد إرنيستو كاردينال في غرناطة (نيكاراغوا) في 20 يناير/كانون الثاني 1925. وهو الوريث لتقاليد شعرية عريقة مع شعراء بارزين مثل: روبين داريو، كارلوس مارتينيث ريباس، بابلو أنطونيو كوادرا، كلاريبيل أليغريا، فرانسيسكو دي أسيس فرنانديث وجيوكندا بيلي…
درس كاردينال الأدب والفلسفة في ماناغوا وفي المكسيك، وتابع دراسات أخرى في الولايات المتَّحدة وأوروبا. في سنة 1965، تمّت تسميته «كاهناً» وفيما بعد سيستقر في أرخبيل سولينتينامي الواقع في بحيرة نيكاراغوا العظمى، حيث سيؤسّس مجتمعاً من الصيادين والفنَّانين البدائيين، وهو مجتمع سيصبح مشهوراً عالمياً. هناك سوف يكتب الشاعر كتابه الشهير «إنجيل سولينتينامي». ويعتبر هذا الأرخبيل محج أتباع الشاعر المخلصين. وقد كان إرنستو كاردينال يقضي عطلته في تلك الجزر، حيث كان يقرأ أعمال روبين داريو الكاملة، ويكتب أشعاره أو يترأس قداس عيد الفصح في كنيسة القرية الصغيرة التي ستصير أحد المعاقل الأساسية المعارضة لنظام سوموزا. من هنالك سيُطرد كاردينال ومجتمعه الصغير، من طرف حرس سوموزا الذي اجتاح الجزر الصغيرة، وهاجم ودمَّر كلّ ما شيّده الفلّاحون والصيادون والفنَّانون المتحلِّقون حول الشاعر... سيغادر كاردينال ليتحوَّل إلى لسان ناطق باسم الثورة السندينية في المحافل السياسية وفي المهرجانات الشعرية، بحيث سيلقي قصائده في كلّ من سنتياغو بالشيلي وبسان خوسيه بكوستاريكا وبالعديد من البلدان الأوروبية وغير الأوروبية، هكذا ستتردَّد على الأسماع قصائد ملتهبة بحمى الثورة، مثل قصيدة: «سماء مفتوحة» أو «سوموزا يزيح الستار عن تمثال سوموزا في ملعب سوموزا»… وكان الشاعر يدعم بشعره الحماسي السندينيين من خلال زياراته لجبهات القتال، وبإيصال صوت الثائرين في وطنه إلى باقي العالم فاضحاً تجاوزات دكتاتورية سوموزا وفسادها، وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان. وبعد انتصار الثورة وسقوط النظام العسكري السابق ورموزه تحمّل إرنيستو كاردينال مسؤولية وزارة الثقافة (1979 – 1987) في الحكومة السندينية لدانييل أورتيغا الأولى، وهو ما أجَّج غضب الفاتكان عليه باعتباره «كاهناً»، وجعل البابا يوحنا بولس الثاني يبعده سنة 1984 بالقانون الكنسي، لكن كاردينال واصل مشروعه التنويري ضمن حكومة نيكاراغوا الحرّة، إلى آخر محطَّاته.
ترجمت أشعار إيرنستو كاردينال إلى عدّة لغات نذكر من هذه الأعمال: «ساعة الصفر»، «إنجيل سولينتينامي»، «صلاة مارلين مونرو وقصائد أخرى»، «أهجيات»، «مزامير» و«هكذا في الأرض مثلما في السماء». وفي السيرة الذاتية ترجمت له: «حياة ضائعة»، «سنوات غرناطة»، «الثورة الضائعة» إلى أكثر من 20 لغة.
سنة 2018 بادرت مجموعة من المؤسَّسات الثقافية وشخصيات من عالم الفنّ والآداب والسياسة من أجل ترشيح الشاعر لجائزة نوبل للآداب، وكان الرئيس السابق للأوروغواي، بيبي موخيكا على رأس المروّجين لملف ترشيح إيرنستو كاردينال، فضلاً عن تبني مهرجان ميلانو الدولي للشعر للملف من خلال مديره ميلتون فيرنانديث، وكانت اللجنة الداعمة تتكوَّن من الطبيب جيوسيبي ماسيرا، والشاعر غيدو أولداني، والصحافية أندريا سيمليتسي، لكن هذا الترشيح تلاشى مع الفضيحة التي رافقت نوبل كمؤسَّسة، وكان كاردينال قد اقتُرِح من قبل رسمياً لجائزة نوبل عام 2010 من طرف الجمعية العامّة للمؤلِّفين والناشرين في إسبانيا، لكن الشاعر النيكاراغوي في تلك المناسبة أخبر وسائل الإعلام أن الجائزة لا تهمه. والواقع أن كاردينال ليس من الشعراء الذين يحتفون كثيراً بالجوائز الشعرية ويترصَّدونها، ومع ذلك فقد استلم من قبل على الأَقلّ جائزتين شعريتين مهمّتين هما: جائزة بابلو نيرودا سنة 2009، وجائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيروأميركي سنة 2012، وإبّان ترشيحه الأوّل لجائزة نوبل، كان الشعراء المشاركون في المهرجان الدولي السادس للشعر بغرناطة (2010) على لسان الشاعر الإسباني دانيال رودريغيث مويا، قد أقرّوا بقيمة الشاعر إيرنستو كاردينال باعتباره واحداً من أعظم الشعراء في أميركا اللاتينية وفي العالم، وهذه حقيقة لا يجادل فيها أحد لأن أميركا اللاتينية عرفت خلال تاريخها الحديث شاعرين أساسين، هما روبين داريو وبابلو نيرودا، اللذان عملا على ترسيخ قالب معياري للقصيدة الحديثة لم يستطع أي شاعر أن يزحزحه بعدهما قبل نيكانور بارا وإيرنستو كاردينال.
مختارات شعرية
هنا كان يعبرُ على قدميه في هذه الشوارع،
بلا عمل أو منصب وبلا مال.
وحدهم الشعراء والغاضبون…
عرفوا أشعاره.
لم يكن أبداً في الخارج.
كان سجيناً.
والآن قد مات.
وليس له أي نصب تذكاري …
لكن
تذكروه لمَّا تكون لديكم جسور خرسانية،
عنفات ضخ مَة، وجرارات، وحظائر من فضة،
وحكومات جيّدة.
لأنه صَفَّى في قصَائدِهِ لغَة شعْبِهِ،
التي في يومٍ ما سوفَ تُكتَبُ بها اتفاقياتُ التجارةِ،
الدُّستورُ، ورسائلُ الحُبِّ،
والمراسيمُ.
سوموزا يزيح الستار عن تمثال سوموزا في ملعب سوموزا
ليس أنني أعتقد أن الشعبَ أقامَ لي هذا التمثالَ
لأنني أعرف أفضل منكم أنني أصدرت الأمرَ بذلك بنفسي.
ولا أنني أدعي أن أنتقل عبرها إلى الأجيال القادمة
لأنني أعرفُ أن الشعب سوف يهدمُها ذات يوم.
ولا أنني كنتُ أرغبُ أن أرفعَ ذاتي منتصبا في الحياة
لأني لحظة سأموتُ لن ترفعوني: أنتم
لكنِّي نصبتُ هذا التمثال لأنني أعلم أنكم تكرهونه
الحرس الوطني يمضي بحثاً عن رجل.
رجل ينتظر هذه الليلة أن يصل إلى الحدود.
اسم ذلك الرجل غير معروف.
ثمّة رجال عديدون مدفونون
في خندق.
عددُ واسمُ هؤلاء الرجال ليس
معروفاً.
ولا يُعرفُ مكان ولا عدد
الخنادق.
الحرس الوطني يمضي بحثاً
عن رجل.
رجل ينتظر هذه الليلة أن يغادر
نيكاراغوا.
هكذا في الأرضِ كما في السَّماءِ
(مقطع)
كُلُّ ما خُلِق مِنَ الإلَهِ
مَعَنَا يَعُودُ إلى الإلَهِ
الكُلُّ مَولودٌ مِنْ اثْنَيْنِ
مَخْلُوقٌ مِنَ الحُبَّ
لَيْسَتِ النُّجُومُ فِي الأعْلَى
هِيَ ذَرَّاتٌ مِثْلَنَا
نَحْنُ المُوَلَّدُون مِنْ غُبَارِ النُّجُومِ
ومِنْ ذاكَ الغُبَارِ هِيَ أيْضاً
مَلايينُ النُّجُومِ مُدْرِكَةٌ
قَرابِينُهَا تَلْتَمِعُ خلالَ اللَّيْلِ كُلِّهِ
انفِجَارُ المُسْتَعِراتِ العُظْمَى
وَهِيَ تُعَلِّمُنَا كَيْفَ نَمُوتُ
الموتُ ضَرُوريٌّ لأجْلِ التَّطَوُّرِ
الجُرْثُومَةُ وهِيَ تنْقَسِمُ لا تَمُوتُ أبَداً
ولا تتطَوَّرُ
الزَّمَنُ فِي اتِّجاهٍ وَحِيدٍ
مِنَ المَاضِي السَّاخِنِ إلى الآتِي البَارِدِ
القَانُونُ الثَّانِي للدِّينَامِيَّةِ الحَرَارِيَّةِ
أنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحِبُ أنْ يَمُوتَ
غَرِيبٌ أنْ يَكُونَ ثَانِياً لِشَيْءٍ ما
قَانُونٌ أعْلَى سَمَّاهُ إدِينْغْتُون
انْبِعَاثُ المَوْتَى يَعْنِينِي
قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مُتَضَامِناً مَعَ المَوْتَى
إنْ كَانَ قَادِراً عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
ومَا أجْمَلَ أنْ يَكُونَ الكُلُّ قَادِراً
قادِراً ضِدَّ المَوْتِ
المَوْتُ حَقٌّ
لَكِنَّهُ ليسَ نِهَائِيّاً
لا يَمُوتُ كُلُّ شيْءٍ مَعَ المَوْتِ
أمَحْكُومُونَ بالتَّلاشِي الحَتْمِيِّ؟
وَهَلِ التَّلاشِي الكَامِلُ للكَوْنِ
هُوَ أنْ يَنْتَهِيَ الكُلُّ إلى عَدَمٍ؟
أمْ خُلِقَ لِكَيْ يَتِمَّ تَحْوِيلُهُ؟
الشَّمْسُ سَوفَ تُحْرِقُنَا
إنْ صَارَتِ احْمِرَاراً هائِلاً
وسَيَثِيرُ المَدْفُونونَ في الأرْضِ
دَفِينِي الشَّمْسِ
وبعدئذٍ سَوْفَ تَصِيرُ صغِيرَةً
قَزَمَةً بَيْضَاءَ
ولا كَوْكَبَ سَيَكُونُ قابِلاً للسَّكَنِ
هَلْ سَنَسْتَطِيعُ الهُرُوبَ إلى المرِّيخِ؟
وهُوَ ما يُمْكِنُ أن يَكُونَ مُجَرَّدَ تَأجيلٍ للنِّهَايَةِ
حَقّاً مَوْتُ الكَوْنِ
وقَدْ صَارَ بلا أرْضٍ وبلا شَمْسٍ وفَقَط
بَحْرٌ مِنْ نُجُومٍ مَيِّتَةٍ
بِدُونِ هِيدْرُوجِينٍ من أجْلِ نُجُومٍ أكثَر
كَوْنٌ بَارِدٌ فقط
مِنْ ثُقُوبٍ سَوْدَاءَ
ونُجُومٍ مَيِّتَةٍ
حينَ تَنْطَفِئُ نَجْمَةٌ
تغْرَقُ فِي ثُقْبٍ أسْوَدَ
وهِيَ أيْضاً نَجْمَةٌ سَوْدَاءُ
وَلَنْ تَكُونَ فَقَط نِهَايَةُ الشَّمْسِ
بَلْ أيضاً نِهَايَة كُلِّ الكَوْنِ
كلُّ شَيْءٍ بِبِدَايَةٍ لَهُ نِهَايَةٌ
كيفَ سَيَكُونُ الحَالُ بلا كَونٍ؟
هَلْ سَيَتأمَّلُ الإلهُ فِي هُدُوءٍ نِهَايَتَه؟
ويَكُونَ مَرَّةً أخْرَى المُتَوَحِّدَ الضَّجِرَ للأبَدِيَّةِ
لا
لنْ يُعِيدَ الكُلَّ إلى الفَرَاغِ الذي مِنْهُ أتى
سَوْفَ يَجْعَلُ خَلْقاً جَدِيداً قَالَ لنَا
عالماً جَدِيداً بِدُونِ دَرَجَةِ تَعَادُلٍ حَرَارِيٍّ
لَيْسَ ذَاكَ الذي فيهِ كُلُّ شَيْءٍ يُسْتَنْفَدُ
مُتَحَرِّرُونَ مِنَ الزَّمَنِ ذلكَ الوَهْمُ
الذي قالَهُ أينشتاين
فِي الحَاضِرِ المُتَأبِّدِ
مُتَحَوِّلُونَ عَبْرَ الحُبِّ
إلى أنْ نَصِيرَ نَوْعاً جَدِيداً
فِي انتظارِ خَلْقٍ جَدِيدٍ
سَانْتا تيريسا دي ليزيو
مَاتَتْ بِغِوَايَةِ هَرْطَقَةٍ
لَكِنَّهَا هَزَمَتِ الغِوَايَةَ بِقَوْلِهَا
حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُوداً فَأنَا أحِبُّكَ.