رفعة الجادرجي.. رحيل ببيان فلسفيّ

بنيونس عميروش  |  03 مايو 2020  |  

رحل المهندس المعماريّ العراقيّ رفعة الجادرجي مساء يوم الجمعة 10 أبريل/نيسان 2020 في العاصمة البريطانية لندن، عن عمر ناهز 93 عاماً. ويُعَدُّ الراحل، كمُواطِنَيْه محمد مكية (1914 – 2015) وزها حديد (1950 – 2016)، من أبرز المعماريّين العرب الذين تقاطعوا بمنجزاتهم وأفكارهم مع كبار المعماريّين العالميّين أمثال: (غاودي Gaudi، لوكوربيزييه Le Corbusier، غروبيوس Gropius)، إذ لم يدخروا جهداً في البحث عن المُقوِّمات الإبداعية والتقنية والجماليّة الكفيلة بتهذيب العمارة والمَدينَة العربِيَّتيْن ومنحهما بعدهما الحديث والمُعاصِر، وفق الصِّلات العضويّة بطبيعة المجتمع وشروطه لإعطاء الحضارة جسماً صَرْحِيّاً دالاً وخاصاً.

هؤلاء وطاقاتٌ أخرى، ولو بدرجاتٍ مُتبايِنَة، من أمثال حسن فتحي (صاحب كتاب «البناء مع الشعب»)، وعبد الواحد الوكيل، وجعفر طوقان، وعبد السلام فراوي، ورشيد الأندلسي، وعبد الواحد منتصر، وغيرهم قليل، يشكّلون النُّدْرَة، بل نُدْرَة النُّدرة، التي طالما أهملناها، كأفراد ومؤسَّسات، وتركناها في معزل عن اهتمامنا وثقافتنا وفكرنا. بينما هؤلاء الرُّؤْيَويّون يُصِرّون باستمرار على إمدادنا بالمعنى الملموس للأرض التي نقف عليها والحواضر التي نقيم فيها، ويقربوننا من حِسِّنا الوجودي في الفضاء، بينما يُرَوِّضون أبصارنا ويمنحون الهوية المكانية لأجسادنا الفيزيقية في تَنَقّلِها الداخلي كما الخارجي.

حصل الجادرجي على دبلوم الهندسة المعمارية من جامعة «هامرسمث للحرف والفنون» البريطانيّة، وعمل منذ تخرجه في مكتب «الاستشاري العراقي» الذي أسَّسه في 1952 وتابع فيه نشاطه إلى غاية 1978 ليتفرغ للبحث الأكاديمي، ثم دَرَّس كأستاذ زائر بجامعة هارفارد بين 1984 و1992 وبجامعة لندن بين 1982 و1992، حيث حاضر في فلسفة الفنّ والعمارة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. كما أسّس «مركز أبحاث الجادرجي» للبحث في فلسفة ونظريّة العمارة، وذلك إلى سنة 1999 التي أسس خلالها «مؤسسة الجادرجي» بالاشتراك مع نقابة المعماريين في بيروت ورابطة المعماريين.

عُرِفَ الجادرجي بنمطه البِنائي في عشرات المشاريع المعماريّة المُنجَزة، ومن بينها مبنى الاتحاد العام للصناعات، ومبنى نقابة العمال، ومبنى البدالة الرئيسية في السنك، ومبنى البرلمان العراقي. ففي تَبَنّيه المَدّ الحداثي، ظلّ يبحث عن مخارج شكليّة وفضائيّة وتزيينِيَّة لاستنبات النَّبْر العربيّ الإسلاميّ عبر إيجاد مخارج تكوينِيَّة متوازنة تنعكس على الواجهات Les façades بالتوليف المنسجم لتوازي التقويس وتوزيع الظلال، مع التغليف المدروس للجدران الخارجية بالطابوق الطيني العراقي المرسوم بوحدات زخرفيّة من صميم التراث التقليدي. على هذا المنوال الذي يحفر عميقاً في استدراك سبل الإدماج والتناغم بين البُعْدَيْن الحديث والمحلّي، استطاع شحذ أشكالٍ جديدة في التأليف المعماريّ وطرق التشييد التي تخضع لطبيعة البيئة والمجتمع مع تجَنُّب التَّنْميط والعمل على ابتكار تراكيب جماليّة تمس المنظر الخارجي الذي يعكس بدوره توافق العلاقات الفضائيّة في الداخل. هذا المسار المُتصاعد في الإبداعية المعماريّة سيُمَكِّنُه من نَيْل جائزة آغا خان للعمارة عام 1986. 

ساهم الجادرجي في إنجازات صرحية خاصّة بالفضاءات العمومية: «نصب الجندي المجهول» الذي تمَّ انتزاعه من ساحة الفردوس في 1982، كما صمَّم قاعدة Socle وواجِهَة «نصب الحرّيّة» للفنَّان جواد سليم، إذ تُشَكِّل الواجهة – الخلفية للنصب مساحة مسطحة لإدماج 14 وحدة نَحْتِيَّة بارتفاع ثمانية أمتار من المَصْبوبات البرونزية المُنْفَصِلة، تم تثبيتها على طول الخلفية Le fond، وهي الواجِهة الإسمنتية المُغَلَّفَة بالمرمر، والمُعَلَّقة على ارتفاع ثمانية أمتار لتجعل النصب بين فراغَيْن، بين الأرضي والسماوي. بدأ إنجاز الصرح في 1959 بساحة التحرير في قلب بغداد، كنتيجة للتجاوب الإيجابي والفَعَّال الذي لاقَتْه «جماعة بغداد للفنّ الحديث» التي تأسّست في 1951 بقيادة الفنّانَيْن جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد، وذلك بعد أن تحَدَّد الرصيد الفنّي للحركة التشكيلية في العراق، حيث «في الحين الذي أرست فيه جماعة من الفنّانين تقاليد التوجُّه إلى مواضيع البيئة المحلّية لتُصَوِّر الأوضاع المألوفَة في المدينة والريف، قام فنّانون آخرون بإعطاء هذه البيئة المعنى الحضاري، إذ لم تعد البيئة عندهم كقيمة بصرية جميلة وحسب، بل كتركيب يُعاد بناؤه طبقاً لامتداداته التراثية، والأهمية هنا تكمن في أن الأسلوب الفنّي نفسه، وبعض متطلَّباته التقنية ذات صلة، سيُعاد اكتشافها من خلال التراث»(1). من هذا المنظور نُلامس التعاون المُثْمِر والفَعَّال للجادرجي الذي وجد ضالته في أفكار وأساليب الفنّانين التشكيليين الذين صار ينتمي إليهم بالفعل والقوة. 

يعتبر كتاب الجادرجي «شارع طه وهامرسمث: بحث في جدلية العمارة» الذي أصدره في 1985 ثمرة أطروحته التي حرّرها في 1951 ونقّحها في سنة 1958، وباتت تشكل بيانه الفلسفيّ الذي يجمع بين النظريّة والتطبيق في مُجمل إنجازاته المعمارية على الدوام، كما في عديد كتبه التي تبَنَّت غِنى التصوُّرات القائمة على التنظير الفلسفيّ للعمارة بالاستناد إلى طبيعة البيئة التي تمس مختلف الأطروحات المُتَناوَلة: «الأخيضر والقصر البِلَّوري: نشوء النظريّة الجدلية في العمارة، 1991»، «حوار في بنيوية الفنّ والعمارة، 1995»، «دور المعمار في حضارة الإنسان، 2018»، «مقام الجلوس في بيت عارف آغا: دراسة أنثروبولوجية للعلاقة بين تكوين الهويّة واستعمال مُصَنَّعات الجلوس، 2001». كما صدر له عن مركز دراسات الوحدة العربيّة: «في سببية وجدلية العمارة، 2006» الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورة 2008، و«صفة الجمال في وعي الإنسان: سوسيولوجية الإستطيقية، 2013» و«دور المعمار في حضارة الإنسان، 2018». كما أصدر «صورة أب: الحياة اليومية في دار السياسيّ كامل الجادرجي، 1985»، ذلك أن رفعة الجادرجي هو ابن السياسيّ والوزير الشهير زمن الحكم الملكي كامل الجادرجي، ويُعدُّ من مؤسّسي الحزب الوطنيّ الديموقراطيّ عام 1946 بمشاركة رجل الاقتصاد محمد حديد والد المعمارية زها حديد. فضلاً عن كتاب «جدار بين ظَلْمَتَيْن، 2003» بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة، يسردان فيه سيرتهما الذاتية الواقِعِيَّة لمرحلة الاعتقال التي دامت عشرين شهراً. 

يُلَخِّص المعماريّ والفنَّان التشكيلي رفعة الجادرجي رؤيته الفلسفيّة المُنبثقة من تجاربه الموصولة بالتجاوب السَّلِس بين المِهَنيّ والنَّظَريّ بالقول: «كان اهتمامي منصباً على إيجاد أسلوب ملائم لمعمار عربيّ معاصِر، وكانت نقطة الانطلاق هي اعتماد الحوار المستمر بين المعماريّين والرسامين والنحاتين والمُفكِّرين العرب. وكان السؤال عمّا إذا كان من الضرورة أن يظلَّ الفنّ المعماريّ عندنا عرضة للأفكار الغربيّة الأوروبيّة أم أن عليه أن يتأثر بالبيئة المحلّية والتقاليد الطبيعيّة والمواد المُتَوافِرَة. وبالنسبة لي فقد بدأت أتعلّم من المعمار التقليديّ وأحاول أن أتوصل إلى المُواءَمة ما بين الأشكال التقليديّة والحضور الحتمي للتكنولوجيا الحديثة. كان هدفي ينحصر في خلق معمار ينسجم مع الواقع المكاني الذي يُشَيَّد فيه، وألّا يسمح بالتضحية بشيء جوهري لصالح الإمكانيات التكنولوجية الحديثة. وفي الوقت نفسه كنت مُهتماً بفهم وتحليل التفكير القائم في الطرق التقليديّة للسيطرة الطبيعيّة»، مضيفاً: «إن اهتمامي الحالي ينصب على الرغبة في تطوير أكثر للنزعة التجريديّة في الأشكال التقليديّة المحلّية والقوميّة وقِيَمها الجمالية بمعزل عن المفهوم الإنشائي». ومن ثمّة، يؤكِّد على العلاقة الكامِنَة بين التنظير والممارسة، ما جَعَله يحُثُّ المعماريّ على جَدارة تسخير التنظير في التصميم، ذلك أن رؤيتنا لأي شيء إنما تحصل عن طريق المعرفة السابقة، إذ في انعدام التنظير تبطل العلاقة التفاعلية بين المتلقي والمعماريّ، وحينها تصبح العمارة رتيبةً وسقيمةً إذا لم تعتمد على فهم الزمان والمكان والإطار البيئيّ والجغرافيّ، في الحين الذي يلح فيه على كون الممارسة هي في حدِّ ذاتها استجابة لتفاعل بين الفكر والمطلب الاجتماعيّ منذ تكوين نظريّته «جدلية العمارة» في 1952، باعتبارها أساس التنظيم في العمارة.

بروح معاصِرة، حافظ رفعة الجادرجي على إيقاع الغوص في البحث والنهل من شتّى المعارف والعلوم الإنسانيّة التي تخدم المعمار على أكثر من صعيدٍ فكريّ وإجرائيّ دون إغفال استغوار صور الوجدان ومدارجه، واضعاً أمامه أسئلةً دقيقة طالما واظب على إيجاد أجوبةٍ صريحة لها دون كلل.


هامش:

1 – سهيل سامي نادر، «شاكر آل سعيد: البحث عن أثر داخل الثقافة»، فنون عربيّة، دار واسط للنشر، المملكة المتحدة، لندن، ع7، المجلد الثاني، السنة الثانية، 1982، ص 67.

رابط تحميل العدد كامل

مواضيع مرتبطة

حكاياتٌ حول كأْسِ العَالَم
مصطفى كيسوس 10 نوفمبر 2022
بعضُ الأقوال حول كرة القدم
ترجمة: يحيى بوافي 10 نوفمبر 2022
عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح
ترجمة: مروى بن مسعود 10 نوفمبر 2022
كأننا لم نُترجِم إدوارد سعيد
شوقي بن حسن 07 سبتمبر 2022
باتريك موديانو: يمكن حذف عناوين رواياتي للحصول على كتاب واحد
ترجمة: مونية فارس 07 سبتمبر 2022
منصف الوهايبي: السجال حول «قصيدة النثر» بدأ قبل ظهور «قصيدة التفعيلة»
حوار: السيد حسين 07 سبتمبر 2022
إدغار موران: أصفُ نفسي باليقظ وحتى بالحَذِر وليس بالمُتشائم
ترجمة: يحيى بوافي 02 فبراير 2022
«أمازون» ابتكرت طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية
ترجمة: عبدالله بن محمد 02 فبراير 2022
يورغن هابرماس: على الفلسفة أن تواصل التخصُّص دون توقف
ترجمة: يحيى بوافي 02 فبراير 2022
ميشيل مافيزولي: الإدارة بواسطة الخوف تؤدِّي إلى ترسيخ الفردانية
ترجمة: حياة لغليمي 02 يناير 2022

مقالات أخرى للكاتب

بعُيونٍ عَرَبيّة
10 نوفمبر 2022

ضمن تجارب دول الخليج العربي، يظلّ الفَنّ القطري من بين التجارب التشكيلية التي دأبت على رسم مسارها بعزم وتُؤَدة، بناءً على وعي فنانيها بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم من حيث الدور الموكول للإبداعات البصرية كممارسة فعالة في تقوية البناء الحضاري، وفي تدعيم...

اقرا المزيد
شادي عبْد السَّلام.. سينِما المُهَندِس المِعْماري
07 يوليو 2021

مِن عبق المسار الأركيولوجيّ، تنبعث روح شادي عبد السلام لتظلّ حاضرةً بالفعل والقوة على الدوام، إذ ألَّف أَبْلَغ الصور التي تنسج العلاقة العضوية بين السينما والتاريخ عبر أعماله السينمائيّة، وخاصّة منها مُنجزه المُفارق «المومياء» الذي بات يتصدَّر أهمّ الأفلام...

اقرا المزيد
فرج دهام.. على مِحَكِّ المُعاصَرة
01 يناير 2021

إنّ الحديث عن الفَنّ الحديث والمُعاصِر في قطر، لا بدّ وأن يحيلنا بدايةً على عددٍ من الأسماء المرجعيّة التي تمثِّل الريادة بالنظر إلى تجاربها البحثيّة الناجِعة في توطيد العمل التشكيليّ كمتنٍ تعبيريّ يندمج في صيرورة الإنتاج الثقافيّ المحليّ والعربيّ والدوليّ...

اقرا المزيد
في رحيل آدَم حَنين.. وَريثُ الصَّلابَة
18 يونيو 2020

افتقد المشهدُ التشكيليّ مؤخَّراً أحد أبرز نحاتيّ العَالَم العربيّ المُعاصِرين في القرن العشرين، برحيل النحَّات المصريّ آدم حنين (اسم الميلاد: صمويل هنري)، الذي وافته المنية صباح يوم الجمعة 22 مايو/أيار 2020 عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً بعد صراعٍ مريرٍ...

اقرا المزيد
كريستو فلاديمير.. فنان فوق العادة
18 يونيو 2020

عُرِفَ الفنَّانُ الأميركيّ – البلغاري كريستو فلاديمير جافاشيف (Christo Vladimir Javachef (1935 – 2020 بتدخُلاته الفخمة عن طريق تغليف وتحويل المساحات والصروح المعماريّة باعتماد كميّات كبيرة من الأقمشة والحبال وغيرها من المواد، ضمن اختيارات دقيقة ومدروسة لمواقع بعينها،...

اقرا المزيد