سياسات الطوارئ الثقافيّة في أوربا أماطت اللثام عن واقع مخيف

ترجمة: سهام الوادودي  |  21 يناير 2021  |  

الفَنَّانون في جميع أنحاء أوروبا يطالبون في الوقت الراهن، شأنهم في ذلك شأن أرباب المطاعم، بتراخيص تتيح لهم العودة إلى العمل مع احترام البروتوكولات الصحّية. لن يُعاد فتح دور السينما ولا المسارح ولا المتاحف تزامناً مع أعياد الميلاد في فرنسا. والأمر نفسه ينطبق على باقي البلدان المجاورة لنا في القارة الأوروبيّة. يكشف الوباء إذن عن نقص في المعرفة بقطاع الثقافة الذي لا يطالب بمُعاملة تفضيليّة، وإنما بمعاملة لا تغفل عن قيمته الحقيقيّة.

لن يكون هناك استثناء للحقل الثقافيّ في فرنسا، ففي ظلّ الأزمة الصحّية الراهنة ستبقى المسارح ودور السينما والمتاحف مغلقة إلى حدود السابع من يناير/كانون الثاني على الأَقلّ. ولذلك فقد بادر الآلاف من المهنيين والفَنَّانين الغاضبين برفع طلب مراجعة مستعجلة ضدّ قرار الحكومة هذا. فكيف يجري إذن تطوُّر الوضع الثقافيّ في باقي الدول الأوروبيّة؟ هذه بعض الأمثلة من إسبانيا وبريطانيا العُظمى وألمانيا وإيطاليا.

فنَّانو الفلامنكو الإسبان يشعرون بالمرارة لأنهم خارج الحسابات

منذ الثالث عشر من مارس/آذار 2020، لم تتَّخذ الحكومة المركزيّة لمدريد أيّة بادرة لفائدة «التابلاوس Tablaos»، وهي مسارح للفرجة على موسيقى ورقصة الفلامنكو تشتهر بصخبها وأجوائها المحمومة صنِّفت كتراثٍ ثقافيّ لا ماديّ للإنسانيّة في عام 2012. لا شيء أو تقريباً لا شيء. المُبادرة الوحيدة التي تبنَّتها مدريد كانت هي «خطة التأثير لفائدة الثقافة» التي تهدف إلى تعزيز برامج الفلامنكو على شاشة التليفزيون، ومصاحبة جمعيات الفلامنكو في عروضها عبر الإنترنت. ولكن بخلاف ذلك، لا توجد مساعدات مالية. والدعم الوحيد الذي حصل عليه هذا القطاع دفعته مجموعاتٌ مستقلّة لضمان دفع الإيجارات وتلافي أن يتمَّ طرد مستأجري «التابلاوس» إلى الشارع. وذكرت صحيفة «لوموند» مؤخَّراً «أن ست قاعات تابلاوس من أصل إحدى وعشرين الموجودة في مدريد قد أغلقت منذ بداية الوباء».

ولما كانت 90 % من جماهير الفلامنكو تأتي من الخارج فإنّ إغلاق الحدود وانخفاض الحضور السياحيّ في فصل الصيف قد هوى بهذه الواجهة المُهمَّة للثقافة الإسبانيّة. وقد كشف تحقيق جدّ مفصَّل أنجزته نقابة اتحاد فلامنكا، بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أن 42 % من المُوسيقيّين والمُطربين والراقصين الذين يعيشون من هذا الفَنّ ينوون ترك المهنة ما لم يعثروا على عمل بعد وقتٍ وجيز. هذا مع العلم أن الغالبية العُظمى من المهنيين، وفقاً للمصدر نفسه، لا يتلقَّون أيّة مساعدة (62.7 %). وقال فيديريكو إسكودير، رئيس الجمعية الوطنيّة لفلامنكو التابلاوس، مؤخَّراً للصحيفة الإلكترونيّة «فوز دي أميركا» إذا توقَّفنا عن العمل فإن جزءاً من الفلامنكو سيموت معنا».

وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول في إشبيلية، نظَّم أعضاء حركة «لونار أوف» عرضاً لأزياء الفلامنكا وهم في حالة حداد من أجل لفت انتباه الحكومة إلى موضة الفلامنكا. وفي مواجهة الوضع الحرج، يطلب هذا القطاع الاقتصاديّ والثقافيّ المُساعدة، كما يُطالب بالاعتراف به ضمن التراث العالميّ للإنسانيّة، كما حدث مع الفلامنكو (المُوسيقى والرقص والغناء) في عام 2016.

بريطانيا العُظمى: «نحن بحاجة إلى الفنون لكي نسمو بأنفسنا»

وإذا اتجهنا نحو الشمال من أوروبا، وجدنا فنَّانيّ صناعة المُوسيقى البريطانيّة في حالة من الغضب المُستمر، فلقد تُركوا، منذ فترة الحَجْرِ الأولى، بدون عمل وبدون أيّة موارد وبدون مساعدات. وبعد بضعة أشهر، أُجبر 30 % من المُوسيقيّين على تغيير مهنتهم في بريطانيا العُظمى. وفي بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، ندَّد المُوسيقيّ والمُنتج «ديمون ألبارن» في مقالٍ نشره في جريدة «الجارديان» بـكون «الحكومة لا تضع في اعتبارها مجال الفنون ولا تتعاطف مطلقاً مع المُشتغلين به».

وجهة النظر نفسها يعبِّر عنها «ألكسندر رايت»، مُخرج مسرحية «غاتسبي العظيم»، أحد العروض القليلة التي ما زالت تقاوم الأزمة، حيث يقول: «السلطات لا تفعل ما يكفي، بل يمكنني أن أقول إن القطاع الثقافيّ ككلّ لا يحظى بأي دعمٍ على الإطلاق من قِبل حكومتنا».

بيد أنه فى أوائل يوليو/تموز، وبعد أسابيع من الضغط الذي مارسه صنَّاع الترفيه في بريطانيا، أعلن وزير الثقافة «أوليفر دودن» عن خطة إنعاش اقتصاديّ قيمتها 1.57 مليار جنيه إسترليني. وقبل ذلك ببضعة أيام، كتبت 1500 شخصيّة بريطانيّة تضمُّ فنَّانين، من «بول ماك كارتني» إلى «رولينج ستونز» مروراً بمجموعة كولدبلاي أو ديبيتشي، رسالة مفتوحة إلى الحكومة يطلبون فيها إنجاز خطة طوارئ لصالح صناعة المُوسيقى.

ورغم أن مسارح لندن لا تزال في مأمن من القيود التي فرضت على نظيراتها في باقي البلدان الأوروبيّة إلّا أن من المُحتمل أن تغلق أبوابها مرّةً أخرى عمّا قريب، لأن العاصمة البريطانيّة تُعَدُّ الآن واحدةً من أكبر بؤر العدوى.

نتائج الخيارات السياسيّة

شهدت ألمانيا صدور قرارٍ سياسيٍّ حاسم بالفعل. إذ ستظل الأماكن الثقافيّة مغلقة هناك إلى حدود منتصف شهر يناير/كانون الثاني. لكن خطاب أنجيلا ميركل، التي كانت على وشك أن تجهش بالبكاء يوم السبت الخامس من ديسمبر/كانون الأول، وهي تتحدَّث عن حرمان مواطنيها من الأنشطة الثقافيّة يظهر كلّ التعاطف (الفريد من نوعه في أوروبا) الذي تشعر به المُستشارة تجاه القطاع الثقافيّ. حيث قالت: «نحن نفتقر إلى ما يمنحنا إياه الفَنَّانون، وإلى ما يمكنهم وحدهم أن يقدِّموه لنا»، ولم تكن تلك قطعاً مجرَّد أقوال…

فبُعيد خطاب أنجيلا ميركل، أعلنت مونيكا غروترز وزيرة الثقافة عن مساعدة مالية جديدة للمُنتجين، عبارة عن تعويض، بحدٍّ أقصى قدره 300000 يورو، سيستفيد منه كلُّ منتجي المُوسيقى أو المسرح الذين لم يعد لهم أي مدخول. هؤلاء المُنتجون وصفتهم الوزيرة بـ«العمود الفقري لحياتنا المُوسيقيّة وثقافتنا المسرحيّة». وهذه التدابير الجديدة ما هي إلّا جزءٌ من خطة «نيوستارت كولتور Neustart Kultur»، والتي هي مساهمة قدرها مليار يورو سنَّتها الدولة بسرعة خلال الربيع الماضي، تأتي كتكملةٍ للدعم الواسع الذي تقدِّمه اللاندات (التقسيمات الإداريّة الجهويّة في ألمانيا).

ويبدو أن إيطاليا لا تُولي المسألة الثقافيّة القدر نفسه من الاهتمام، حيث ما زال الجميع هناك ينتظرون بفارغ الصبر الحصول على منحة المُساعدات الأوروبيّة والتي يصل مبلغها إلى 200 مليار يورو. ولكن المسؤولين هناك يعتقدون بأنّ الثقافة لا تستحق سوى الفتات، إذ لن تخصّص سوى نسبة 1.5 % من هذا المبلغ إلى المجال الثقافيّ الإيطاليّ، الذي يتهاوى أيضاً على غرار باقي البلدان الأوروبيّة. إنّ وعود الحكومة بدعم هذا القطاع، الذي تصفه بأنه «ضروري»، ظلّت إلى الآن محصورة في إنشاء «صندوق تشاركيّ للثقافة» تغذيه الموارد الخاصّة، في شكلِ تمويلات صغرى، وإبرام عقود للرعاية…

ازدراء أم جهل؟

هناك إذن اتجاه ظهر بشكلٍ واضح تماماً في ضوء هذا الوباء، وهو أن الثقافة لا تدخل ضمن الأولويات. في ظلّ هذه الأزمة، يبدو أن ألمانيا هي البلد الوحيد الذي تعامل بشكلٍ مختلف مع المجال من خلال تفاعله ودعمه للفاعلين في القطاع الثقافيّ وما أبداه من حلولٍ إبداعيّة أيضاً، كما يشير إلى ذلك جان ماكس كولار، الناقِد الفنّي والمسؤول في مركز بومبيدو الوطنيّ للفَنّ والثقافة: «تمَّ توجيه بعض الأعضاء في مجموعات الرقص المدعومة إلى المُستشفيات لمُرافقة المرضى». حلٌّ مبدع دون شكّ، ولكن ذلك لا يكفي لإنقاذ عالَم الثقافة في أوروبا من الغرق. إن سياسات الطوارئ الثقافيّة السلبيّة أو غير الفعَّالة التي تمَّ تبنِّيها منذ بداية الوباء قد أماطت اللثام عن واقع مخيف.

هل يؤدِّي نقص المعرفة بعَالَم الثقافة اليوم إلى تهميش هذا القطاع؟ مع أنه قطاع ذو قيمة كبرى فيما يتعلَّق بالسياسة الخارجيّة… والاقتصاديّة. هل يتمُّ تقدير الدور الحقيقيّ الذي تلعبه الثقافة في المجال الاقتصاديّ؟ و«هل الثقافة مجال للإنفاق أم قطاع اقتصاديّ قائم الذات أم أنه ضرورة من ضرورات العيش؟» كما يتساءل عن ذلك «ماكس كولار» قبل أن يضيف: «لقد فهم بعض الفاعلين في الحقل الثقافيّ أنه لا ينبغي لهم أن يضيعوا الوقت في التسوُّل من أجل الحصول على إعانات…».

إن الفَنَّانين في جميع أنحاء أوروبا يطالبون في الوقت الراهن، شأنهم في ذلك شأن أرباب المطاعم، بتراخيص تتيح لهم العودة إلى العمل مع احترام البروتوكولات الصحّية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوليفيي بوجاد

العنوان الأصلي والمصدر:

La culture, une des victimes de l’épidémie.

https://www.franceculture.fr/societe/la-culture-une-des-victimes-de-la-pandemie-en-europe.

رابط تحميل العدد كامل

مواضيع مرتبطة

حكاياتٌ حول كأْسِ العَالَم
مصطفى كيسوس 10 نوفمبر 2022
بعضُ الأقوال حول كرة القدم
ترجمة: يحيى بوافي 10 نوفمبر 2022
عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح
ترجمة: مروى بن مسعود 10 نوفمبر 2022
كأننا لم نُترجِم إدوارد سعيد
شوقي بن حسن 07 سبتمبر 2022
باتريك موديانو: يمكن حذف عناوين رواياتي للحصول على كتاب واحد
ترجمة: مونية فارس 07 سبتمبر 2022
منصف الوهايبي: السجال حول «قصيدة النثر» بدأ قبل ظهور «قصيدة التفعيلة»
حوار: السيد حسين 07 سبتمبر 2022
إدغار موران: أصفُ نفسي باليقظ وحتى بالحَذِر وليس بالمُتشائم
ترجمة: يحيى بوافي 02 فبراير 2022
«أمازون» ابتكرت طرقاً لا حصر لها لتقسيم الرواية
ترجمة: عبدالله بن محمد 02 فبراير 2022
يورغن هابرماس: على الفلسفة أن تواصل التخصُّص دون توقف
ترجمة: يحيى بوافي 02 فبراير 2022
ميشيل مافيزولي: الإدارة بواسطة الخوف تؤدِّي إلى ترسيخ الفردانية
ترجمة: حياة لغليمي 02 يناير 2022

مقالات أخرى للكاتب

ديمون غالغوت: البوكر تفاجئك، في اللحظات الأخيرة، بخدعة غير لطيفة
02 يناير 2022

نشأ الروائي والكاتب المسرحي الجنوب إفريقي «ديمون غالغوت»، ذو السابعة والخمسين عاماً، في مدينة «بريتوريا»، بجنوب إفريقيا، في أوج زمن الفصل العنصري. كتب روايته الأولى في سنّ السابعة عشرة، وتمَّ إدراج اسمه، مرَّتَيْن، ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» الدولية....

اقرا المزيد
كازوو إيشيغورو: أنا كاتب منهك، ومن جيل منهك فكريّا
26 أبريل 2021

في هذا الحوار، الذي أجريناه عبر منصّة (زوم)، يحكي «كازوو إيشيغورو» الروائي، عن روايته «كلارا والشمس» الصادرة في مارس/آذار الماضي. وللمرّة الأولى، بدأ الحائز على جائزة «نوبل» للآداب، يخشى على المستقبل، ليس من عواقب تغيُّر المناخ فحسب، بل من القضايا الأخرى...

اقرا المزيد