سيزا قاسم: تمرّ شهور طويلة دون أن نقرأ عملاً نقديّاً واحداً

| 03 يونيو 2020 |
في هذا اللقاء الخاص، ترى صاحبة ”بناء الرواية.. دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ“ الدكتورة والناقدة الكبيرة سيزا قاسم، بأن وسائل التواصل الاجتماعي تتحكَّم في المشهد الثقافي؛ لذلك تجد روايات منعدمة القيمة تتصدَّر أعلى الكتب مبيعاً، وهذا الأمر، في نظرها، مؤسف للغاية، لأنه يشير إلى ضعف الثقافة.
أهديت، كتاب «بناء الرواية»، بالتعبير الآتي: «إلى أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي، التي ندين لها، أنا وهذه الدراسة بكثير من الفضل». ما رأيك أن نستعيد معك أكاديمياً وثقافياً بعضاً من تفاصيل هذه المرحلة التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وتأثيرها في مسارك العلمي، فيما بعد؟
– بالطبع، لأستاذتي المبدعة سهير القلماوي الكثير من الفضل في ما وصلت إليه الآن؛ فقد كانت ملهمتي التي أستمدّ منها طاقتي، وكانت قدوتي التي أفتخر بها دائماً، وكانت النور الذي أستدلّ به عندما أتعثَّر، فأعود لأقف من جديد أقوى من السابق. لا أنسى أنها كانت صاحبة الفضل في التحاقي بجامعة القاهرة، إذ أقنعت والدي بذلك. ولم يقف مشوارها معي عند هذا الحدّ، فقد أقنعتني، بعد تخرجي، بدراسة الماجستير في الدرس المقارن، وكنت- حينها- قد اخترت الأدب الفرنسي، وهي رفضت ذلك بشدّة، وحذرتني من ذلك؛ معلِّلة أن هذا القسم سيعزلني عن الواقع والأدب المصري، ولم تتركني حتى حصلت على الدكتوراه. ظلَّت خلفي، دائماً، تدفعني نحو الأمام. لقد أحببتها، بل أحببتها كثيراً، وأحببت شخصيَّتها. كانت جميلة ورائعة في كلّ نواحي الحياة.
في كتاب «بناء الرواية»، أيضاً، تساءلت: هل يمكن لكاتب أن يكتب، في منتصف القرن العشرين، «رواية واقعية»، يمكن أن نساويها بأعمال منتصف القرن التاسع عشر؟. على ضوء متابعاتك للأعمال الأدبيّة العربيّة في زمننا المعاصر، ماذا عن مشروعية هذا السؤال، وقابليَّته لتحليل نصوص زمن الحداثة والعولمة والثورة المعلوماتية؟
– في ظلّ العولمة والثورة المعلوماتية، أصبح من الصعب مواكبة الزمن الحالي برواية تستطيع منافسة أعمال منتصف القرن التاسع عشر والأعمال الأدبية والروائية التي صدرت حينها. وسائل التواصل الاجتماعي اجتاحت حياتنا، كما أنها تتحكَّم في المشهد الثقافي؛ لذلك تجد روايات منعدمة القيمة تتصدَّر أعلى الكتب مبيعاً، وهذا الأمر مؤسف للغاية، لأنه يشير إلى ضعف الثقافة، وأن هذه الأخيرة تسير في منحنى صعب وخطير.
برأيك، ما الذي تبقّى من نجيب محفوظ، الآن؟
– لا يمكننا حصر ما تبقّى لنا من نجيب محفوظ، الذي استطاع أن يحفر اسمه في تاريخ الأدب، بحروف من ذهب، وسيظلّ لآلاف السنوات؛ فهو مبدع استثنائي ترك بصمة في تاريخ الأدب والثقافة العربيَّيْن، ومن الصعب أن يتكرَّر. كان يملك جينات إبداعية.
كيف يمكن قراءته من جديد؟
– كان نجيب محفوظ قد وهب حياته للكتابة، فخصَّص، للمقال الفلسفي والقضايا الكبرى في حياة الإنسان، جزءاً كبيراً من كتاباته، دمج بين الفلسفة والأدب العربي وتاريخه، فاستطاع أن يحتلّ مكانة كبيرة بين أدباء جيله والأجيال اللاحقة. سيبقى إبداعه لفترات في المستقبل، ويمكننا قراءة أدبه، باستمرار.
فَتَنكِ ابن حزم منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها (الطوق) في السبعينات. وفي دراستك للكتاب، خلصت إلى إمكانية استحضار هذا الأثر في زمننا المعاصر. نملك تراثاً غنيّاً، لكن السؤال المطروح: ما الذي سنفعله بهذا التراث؟
– تعتبر رؤية ابن حزم الفلسفية من أساسيات قراءة التراث العربي؛ فقد كان أوَّل وأفضل من قدَّم منهجاً نقديّاً للعهد القديم. كانت رؤيته الفلسفية عميقة، ومنهجه نبذ التقليد، وتحرير الاتِّباع؛ وهذا ما يجعلنا نصنِّف تراثه في دائرة الأدب، الذي يمكننا استحضاره والاستفادة به في أيّ زمان، وأيّ مكان.
شاركت بمقالة مترجمة عن لـ«يوري لوتمان» ضمن الكتاب الجماعي «جماليّات المكان». نقرأ في المقالة: «هناك أماكن جاذبة تساعدنا على الاستقرار، وأماكن طاردة تلفظنا» بين حالتَيّ الاستقرار والطرد، كيف ترى سيزا قاسم حالة المكان العربي؟
– مع الأسف، حالة المكان العربي والمنطقة، بأكملها، تدفعنا- بشكل كبير وغريب- إلى الطرد. لا يشعر الكثيرون بالاستقرار في ظلّ ما تعيشه المنطقة العربية. وعلى الرغم من التراث الحضاري الذي يتمتَّع به العالم العربي، لم تعد المنطقة العربية منطقة جاذبة أو مستقرّة.
كيف تستشرفين مستقبل الإنسان في مكانه، ومن خلال انتقاله؟
– في ظلّ الطفرات الحديثة للتكنولوجيا، لابدّ أن نشعر بالقلق على مستقبل الإنسان؛ فعلى الرغم من أهمِّية التطوُّر التقني والعلمي، لكلّ شيء إيجابيّات وسلبيات، وأهمّ هذه السلبيات تهميش الأدباء والشعراء. التطوُّر يأخذ الإنسان إلى منعطف مجهول يجعل من الصعب استشراف مستقبله في ظلّ السباق التكنولوجي، والطفرة التي تطرأ على العالم.
القضية المركزية، في علاقتنا الثقافية بالغرب، أصبحت أكثر من أيّ وقت مضى، مرتبطة بالهجرة، وتداعياتها السياسية تؤثِّر في مضمون قراءة المجتمع الغربي لنا. كيف يمكن، في نظرك، أن تكون الهجرة مرآة إيجابية؟، وما الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقَّف العربي في هذا المجال؟
– يعتمد ذلك، بشكل كبير، على الثقافة الفردية لكلّ مهاجر. يمثِّل الوعي، هنا، عاملاً مهمّاً وفعّالاً للغاية. فتأثير المجتمع الغربي في شخص ذي ثقافة ووعي محدودَيْن يكون غير تأثيره في شخص مثقَّف وواعٍ. يشكِّل المثقَّفون، في هذا الصدد، أداة نقل للثقافة إلى الغرب، ونستطيع القول، أيضاً، إن الهجرة مرآة إيجابية تنقل للشرق ما هو بحاجة إليه.
آراء عديدة تذهب إلى أن الجامعات، في عالمنا العربي، منفصلة عن المجتمع. هل أنت متَّفقة مع هذا الرأي؟ وكيف يمكن للجامعة أن تتَّصل بقضايا المجتمع، بشكلٍ مصيريّ؟
– بالطبع، أتفق- تماماً- مع هذا الرأي، فالجامعات في عالمنا العربي منفصلة كثيراً عن المجتمع، ولا تستطيع مواكبة مشكلاته وإيجاد حلول لقضاياه. أتمنّى أن تتطوَّر الجامعات في يوم من الأيّام، وتجد طريقاً ونهجاً للتطوير والتطوُّر.
في حوار مع القاصّ أحمد الخميسي، نُشِر، مؤخَّراً، بمجلّة «الدوحة»: قال الخميسي: ليس لدينا حركة نقدية، وإنما لدينا علاقات نقديّة. ما تعليقك على هذا الحكم؟
– هذا صحيح، فالحركة النقدية تحتاج، كما ذكرت من قبل، إلى متابعة دائمة للأعمال الأدبية، وهذا ما لم يحدث بشكل منظَّم ومنتظم. يحتاج كلٌّ من الإبداع والنقد إلى الآخر، لكن معظم الكتّاب لا يدركون أو لا يقدرون ذلك. والحركة النقدية في عالمنا العربي تحتاج إلى كثير من التطوير والدعم.
ما تقييمك للحركة النقدية الأدبية؟
– الحركة النقدية الأدبية تشه د تراجعاً كبيراً، إذ تمرّ شهور طويلة دون أن نقرأ عملاً نقديّاً واحداً. الناقد مثل المبدع، لابدّ أن يكون في حالة مزاجية معيَّنة لكي يقدِّم نقداً بنّاءً مكتمل الأركان، وهذه المزاجية تجعله يختار عملاً ما، ويتجاهل الآخر؛ نحن لا نملك حركة نقدية متواصلة .
ما تقييمك لجوائز الأدب العربية؟
– عندما تُمنح جائزة لعمل ما، فإن ذلك يدعم الكاتب، ويشجّّعه. ولكن، هناك تساؤل يُطرح دائماً: هل يستحقّ الفائز تلك الجائزة؟ يبقى الجانب الإيجابي، في الجائزة، هو المساهمة في انتشار الأدب بين الجمهور.
هل يمكن اعتبار الأعمال المتوَّجة بجائزة ما أنموذجاً للنصّ الجيِّد؟
– بالطبع، لا! وليست الجائزة مقياساً، خاصّة في عالمنا العربي؛ فمن الممكن أن تتوَّج أعمال أدبية وروايات بجوائز، دون أن تكون بالقدر الكافي من الاستحقاق.
إذن، ما جدوى منح الجائزة لرواية ما؟
– هناك أعمال تستحقّ الجائزة. ولكن، في النهاية، ليست الجوائز المعيار الذي يقاس به النجاح، كما أن هناك تجارب نمجّدها، ونقوم بتكريمها دون أن تستحقّ ذلك.
تُمنَح جوائز للدراسات النقدية، كذلك. ما تعليقك دكتورة سيزا؟
– تكون الجوائز جيِّدة عندما تُمنح لمن يستحقُّها، وللأعمال الجيِّدة التي تستحقّ القراءة. في هذه الحالة، تقوم الجوائز، بدورها، في تشجيع مؤلّفيها، ومنحهم ما يستحقّونه من تقدير، كما تعطي العمل الأدبي الجيِّد الفرصة الكافية للوصول إلى القارئ.
تمّ حجب «جائزة نوبل للأدب»، في دورتها ما قبل الأخيرة، لأسباب أخلاقية. كيف تلقَّيت هذا الخبر؟ وما تأثيره، بالنسبة إلى الجائزة الأعرق في الأدب العالمي؟
– لقد تمّ حجب «جائزة نوبل» سبع مرَّات، من قبل، ولم أندهش كثيراً، لكنه- بالطبع- شيء مخزٍ، للغاية، سبب الحجب هذه المرّة. كان لابدَّ من أن يقوم القائمون والمسؤولون، داخل الأكاديمية السويدية، بحلّ أزماتهم بشكلٍ يعيد الثقة، وحينها سيكون في مقدرتهم الاستمرار في منح الجائزة، وتخطّي تلك الأزمة.
هل ستنشرين سيرتك الذاتية؟ وما الذي ستحمله من أسرار ومفاجآت؟!
– لم أتخذ، حتى الآن، قراراً نهائياً بهذا الشأن. وبالمناسبة، لا تحمل سيرتي الذاتية أسراراً، بالكلمة المتعارف عليها. عند اتِّخاذي قراراً بشأن سيرتي الذاتية، سأعلنه على الفور.