عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام

| 15 ديسمبر 2021 |
إذا كان لعَالَم «ألف ليلة وليلة» عجائبه، وغموضه، فإن لعَالَم الحكاية في زمنها المُعاش تأمُّلاته والتباساته أيضاً. مؤلَّفات عبد الفتاح كيليطو تتخلل العَالَمين، ومع ذلك يبدو للوهلة الأولى أن كتاب الليالي هو الأكثر إثارة للاهتمام، بصورة تسائلنا ما إذا كان هذا الاتصال بكتاب أَزَلِيّ يبقى ضرورياً وكافياً حتى وإن تعلَّق الأمر بقراءة عميقة ومضاعفة؟ بشكلٍ أو بآخر يجيب كيليطو بأن: الليالي معين لا ينضب للإبداع الأدبي، لكن بشرط الابتعاد عنه بقدر الاقتراب منه.
يصرح كيليطو بأنه «مؤلِّف كتاب واحد لا ينفك يُعاد ويعود»، وكقُرَّاء أو نقَّاد، لطالما أوقفتنا تلك العودة إلى مؤلَّفاته السابقة، ذلك الصدى الذي يخلفه: «مرور الراوي من عَالَم أليف إلى عَالَم غريب». على هذا النحو يأخذنا كيليطو، في روايته «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» الصادرة حديثا عن منشورات «المتوسط»، إلى عَالَم سردي عجيب، ينتهي«في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام».
وباعتباره كاتِباً باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، تأسَّست للأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو قاعدة واسعة من القُرَّاء العرب والأجانب، تجعل كل إصدار جديد له بمثابة حدث أدبي بارز يدعونا للتوقُّف عنده.
في هذا الحوار، يجيب كيليطو عن أسئلة الأستاذ خالد بلقاسم التي يمكن عدها قراءة مضاعفة تنضاف إلى سلسلة قراءاته السابقة:
اتّخذَتْ روايتُك الأخيرة «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» عتبةً لها قولة «كافكا» التالية: «ما كان ينبغي أن أعيشَ على هذا النّحو». لربّما يَسمحُ النّدمُ الذي يَتخلّلُ القولة باستحضار صَدَى كتابك السابق على هذه الرواية، الحامل لعُنوان «في جوّ من الندَم الفكريّ»، وبذلك يَغدو القارئُ أمام ندَميْن غير مُنفصليْن. أيتعلّقُ الأمرُ في هذه العَتبة بندَمٍ يَخصّ مَصيرَ حَياة ما والمَنحَى الذي اتّخذَهُ مَن عاشَها؟ وما مُسوّغُ ذلك؟ فالندّمُ الفكريّ أمرٌ مُستساغٌ لأنّه شَرطُ الفكر، لكنّ الندمَ على الحياة التي عيشتْ يَظلُّ أمرًا مُبهمًا. ما العلاقةُ بين الندميْن، خُصوصًا أنّ القارئ يَعرفُ أنّ الحياةَ التي تحدّثَ عنها كيليطو، في مُجمَل تآليفه، لم تكُن مُنفَصلةً إطلاقًا عن الحَياة بين الكُتُب ومع الكُتُب، بحيثُ يتمنّعُ الفصلُ بين الندميْن؟ فحتّى رواياتُك لا تتحدّثُ إلّا عن الكُتب.
– العلاقة بين خطاب العتبة في «والله»، وعنوان «في جو من الندم الفكري»، مقصودة ومخطط لها. بصفة عامة، أحاول ربط اتصال بين كتبي بهدف تكثيف الدلالة العامة وإثرائها. كلّ كتاب لي يحمل صدى لسابقيه، وفي النهاية أرى أنني مؤلِّف كتاب واحد لا ينفك يعاد ويعود.
عَطْفًا على السّؤال السابق، يَبدو أنّ الكتابَ كان حاسمًا في مَصير الحَياة التي عاشتْها شَخصيّة «حسن ميرو» في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». فقراءتُه لرواية «عُصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم هي التي رَسمَتْ هذا المَصيرَ وَفقَ ما تُقرّ به الروايةُ ذاتُها في نهايَتها، وهو ما حاولَ الراوي أنْ يَربطَهُ بالمَصير الذي عاشهُ حسن البصري في «ألف ليلة وليلة»، دُون أنْ نَنسى أيضًا تجلّيات هذه المَوضوعة في الرّواية؛ مَوضوعة الكتاب المُحدِّد لمَصير حَياة ما، سواء تعلّق الأمرُ بتجلّيها في الدّور الذي اضطلعَ به كتاب «مثالب الوزيريْن» للتوحيدي في تَوجيهِ العلاقة بين الشخصيّات، أو بتجلّيها في تَحديد حكاية حسن البصري لمَصير حياة يوليوس موريس. ما مَعنى أن يكونَ الكتابُ حاسمًا في مَصير حياة ما؟ وهل يَمتلك الكتابُ كلّ هذه القوة في تَوجيهِ الحياة؟
– واضح أننا حين نقرأ رواية نندمج مع جوها فنشاطر شخوصها حياتهم، مشاكلهم ومشاغلهم، ننسى أنفسنا وباندماجنا معهم، نتقمَّص هويّات جديدة نسكنها طيلة مدة القراءة. وغالبًا نشعر بحزن عندما ننهي القراءة ونعود إلى أنفسنا. هذا ما كنت أحس به بشدّة حين كنت صغيرًا. كنت طبعًا أتوق إلى نهاية الرواية التي أقرؤها وفي ذات الوقت أتمنّى أن تؤجّل.
مَوضوعة الكتاب أصيلةٌ في نُصوصك، وقد أعادَت رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» تناوُلَ هذه الموضوعة من زاوية «الكتاب المَلعون» التي سبقَ أنْ قارَبْتَها في كتاباتك السابقة، وهي الزاوية التي تحكّمَتْ في جعْل كتاب «مثالب الوزيريْن» للتوحيدي بَطلًا في الرّواية. أبعادُ هذه اللعنة المُصاحِبَة لسُمعة الكتاب تتكشّفُ من قضايا عديدة، منها الخَوف من القراءة، والحِرْص على حمايةِ مَصير الحَياة من لعْنةِ الكتاب، وتحوُّل القلق من مَشاغل الحَياة العادية إلى قلق نابعٍ من أسرار الكُتب ومُقترنٍ بها. غير أنّ اللافتَ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» ربْطُها لهذه اللعنة بالشائعة، وبالدّور الذي يُمكنُ أن تُؤدّيَهُ الشائعةُ في تَوجيهِ مَصير الكتاب. ما دورُ الشائعة، الأستاذ كيليطو، في تاريخِ القراءة بوَجهٍ عامّ؟
– الكتابة اليوم في متناول الجميع، لكنها في غابر الأزمان كانت موقوفة على طبقة محدودة وتكتسي صبغة أسطورية وقد ترتبط بطقوس سحرية، كما تكون محل ريبة غامضة. وإلّا لماذا اعتُبر الكتاب في بعض تجلياته شيئًا رهيبًا قد يؤذي ويؤدّي إلى الهلاك؟ تدور رواية «والله» حول كتاب ملعون، موضوع فرض نفسه عليّ وكان نقطة انطلاق، ثمَّ مرّ بمنعرجات مختلفة ومتشعبة إلى أن بلغتُ الخاتمة. سبق أن تطرقت إلى هذا الموضوع، بصيغة مختلفة، في «العين والإبرة»، عندما درست حكاية في «الليالي» عن كتاب مسموم يميت مَن يقلب أوراقه. والمُثير للانتباه أن كتاب «الليالي» نفسه قِيل إن مَن يقرأه بالكامل يُصاب بأذى. غير أن هذه الشائعة لم تثبط عزيمة القُرَّاء الذين أقبلوا عليه بنهم، لم يكن لها تأثيرٌ ولم يُروَ فيما مضى أن شخصًا أصيب بمكروه إثر قراءته. وعلى العكس فإن «مثالب الوزيريْن» لأبي حيان التوحيدي حصل بين يدي شخص متميِّز، ابن خَلِّكان، صاحب «وفيات الأعيان»، فأعلن أنه عانى الأمرَّين بعد قراءته، وأضاف أن العديد من معارفه تضرَّروا بسببه. لم يسبق حسب علمي أن تناول المُؤلِّفون هذه الشائعة. وعودة إلى «الليالي» فإن بورخيس في إحدى قصصه وصف آلام شخص قرأها في الترجمة الألمانية لِـ«غوستاف فايْل»، وكانت نهايته مأساوية.
مِنَ المَوضوعات الرّئيسَة في مُعظَم كُتُبك مَوضوعة «الباب» و«العتبة»، وقد كان لمَوضوعة الباب حُضورٌ لافتٌ في كلّ أطوار الرواية، لأنّ لهذه المَوضوعة دورًا حَيويًّا في حكاية حسن البصري التي شكّلتْ طِرْسًا رئيسًا لروايتك، ولربّما هذا الحُضورُ هو ما تحكّمَ في عَنونةِ أحد فصول الرواية بـ«قدَر المفاتيح». لعَلّ المُثيرَ في الرواية هو التّماهي الذي تحقّقَ بين «الباب» و«الكتاب». ما العلاقة التي تربطُ بين الباب والكتاب؟
– إنه المرور من العالم الأليف إلى العالم الغريب. حين نفتح كتابًا لا ندري أي أرض سنطأ فنشعر برهبة مكتومة لأننا نجهل أين ستقودنا خطواتنا وهل سيكون في مستطاعنا الاندماج مع أجوائه ومع ساكنيه؟.. إنها رحلة إلى بلاد أجنبية لها طقوسها ومقومات وجود خاصة بها. قد يتيسر الاندماج حالًا وقد لا يحصل إلّا بعد بذل مجهود، كما هو الشأن مع روايات بَلْزاك. وأحيانًا يفشل اللقاء بصفة مروعة رغم محاولات متكرِّرة للانخراط في العالم الموصوف. ذلك ما حدث لي مع رواية «أسفل البركان» لِـ«مالكُوم لُوري» التي أثارت الاهتمام وأشاد بها النُقَّاد. بشيءٍ من الخجل أضيف أنني لم أستطع قراءة «الأمير الصغير»، كتاب «سان إكزوبيري» الذي أعجب به الملايين من القُرَّاء أيما إعجاب.
تسمحُ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، وهي تُدمجُ في بنائها روايةَ «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، بإعادة قراءة رواية الحكيم في ضَوء حكاية روايتك. وإذا جازَ أن نربط رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بكتاب «مَن نَبحثُ عنه بعيدًا يَقطنُ قربنا»، باعتبار النّسَب الذي يَجمعُهما، أيُمكنُ القول إنّ روايتك ترومُ، من بين ما ترومُه، إضاءةَ حكاية حسن البصري اعتمادًا على رواية «عُصفور من الشرق»؟ خُصوصًا أنّ رواية الحكيم كانت، من جهة، قائمةً على علاقة مَنذورة للانفصال لأنّ شخصيّة سوزي كانت تتحيّنُ لحظة بغاية «التحليق»، كما شكَّلت الأبوابُ في الرواية، من جهة ثانية، أهمّيّةً بالغة، وشكّلت فيها مَوضوعة التحليق، من جهة ثالثة، عُنصرًا محوريًّا على نحو ما تبدَّى من عُنوانها، ومن هَديّةِ مُحسن لسوزي لمّا اختارَ أن يُهديَها طائر الببّغاء.
– أظن أنني قرأت في فترة من حياتي جلّ ما ألّف توفيق الحكيم، كنت مولعًا بما صنف، وعلى الأخص برواياته. كان لا بد أن أختار في روايتي الحديث عن «عصفور من الشرق»، التحليق والطيران، لانسجامها مع الجو العام لما قصدت. ذكرتها في المكانين المهيمنين في الكتاب، أي في البداية والنهاية. وغني عن القول إنه لم يكن من المُمكن الاعتماد على «عودة الروح» أو «يوميات نائب في الأرياف».
مُنذ حكاية المُستَنبِح، في كتابك «الكتابة والتناسخ»، اتّخذَ الحيوانُ حيّزًا حيويًّا في بنائك للمَعنى وفي تَمديد الخيال. وهو الحيّز الذي لم يكُف عن التنوُّع، ففي كتابيْك «الغائب» و«لسان آدم»، كان للحَيّة دورٌ رئيسٌ في التأويل، وفي روايتك «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» يَعثرُ القارئُ على السّلحفاة، والنمل، والضفدع، واللقلاق، والخطاطيف، وهو ما يجعلُ حُضُورَ الحيوان في كتاباتك حُضورًا أصيلًا، دون أن نَنسى مُصاحبَتك الطويلة لـ«كتاب الحيوان» للجاحظ. لماذا هذا الحرصُ على إدماج الحيوان في التأويل وفي الحَكي؟
– المُدهش في الحيوان أنه رغم كونه لا يتكلَّم فإن له لسانًا نفهمه فنتواصل معه إلى حدٍّ ما. إنه يجعلنا وجهًا لوجه مع اللّغة ويحثنا على كشف بعض أسرارها، وذلك ما حاولت الإشارة إليه في حكاية المُستَنبِح التي أشرتَ إليها. أحد الأصدقاء كان له كلب من نوع شْناوْسَر. اختفى فجأة ذات يوم وانقطع خبره، ثمَّ عاد بعد ثمانية شهور وكأن شيئًا لم يكن. منذ ذلك الوقت والصديق يسعى إلى تجاذب الحديث معه في محاولة يائسة لمعرفة أين كان طيلة تلك المدة. كان الكلب ينظر إليه بحزن وكأنه متأسف لكونه لا يستطيع أن يجيب، أن يروي ما جرى له. بالرجوع إلى «والله»، يلاحظ أنها تبتدئ بذكر طيور مختلفة الأنواع وتنتهي بالإشارة إلى سلحفاة، حيوان غريب يحمل مسكنه على ظهره، يختفي لمدة طويلة ثمَّ يظهر من جديد، لا يزعج أحدًا وشعاره التستر والقناعة والصمت.
يُثيرُ الشعرُ في حكاية حسن البصري أسئلةً بشأن اختراقه الكبير للحكاية، وهو أمرٌ عرَضتْ له رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» في استقصائها للصِّلات المُمْكنة بين حسن البَصري وحسن ميرو، وقد أقرّ الراوي وهو يتأمّلُ وضعيّة الشعر في حكاية حسن البصري أنّ الأبيات الشعريّة كانت مُتاحة على الدوام، لذلك كان تأليفُ أبيات جديدة «خارجَ أُفق الحكاية». لا يَعثرُ القارئ في رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» على أبياتٍ شعريّة، خلافًا لما وردَ في روايتك «أنبئوني بالرؤيا»، علمًا أنّ طِرْسَ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» يقومُ بصُورةٍ لافتةٍ على الشعر الذي كان حاضرًا على امتدادِ الحكاية. لِمَ لمْ تُدْمجِ الرّوايةُ الشعرَ في إعادَةِ كتابةِ طِرْسها؟
– لا تحتمل الرواية الشعر ولا تطيقه، فلا يرد فيها، إنْ ورد، إلّا خلسة المختلس. ذلك ما قد يلاحظ في «أنبئوني بالرؤيا»، حيث وصفت شاعرًا وذكرت بعضًا من شعره. وعلى العكس فإن مقامات بديع الزمان والحريري تدمج النظم بالنثر، وفي «الليالي» تتخلّل الحكايات مقاطع شعرية قد لا يتوقَّف عندها القارئ المُتسرِّع لأنه يكون راغبًا في معرفة ما تؤول إليه الأحداث المُتتالية.
مع أنّ الشعر في الرواية لم يكُن محوريًّا في إعادة كتابة حكاية حسن البصري، فقد كان صَداه ساريًا انطلاقًا من أقوال مُكثّفة صاغتْها الرواية بعُمقٍ كبير، منها تَحديد الشعر بوَصْفه فزعًا من الكون (ص. 24)، وتَحديد القصيدة بوَصفها أرضًا أجنبيّة (ص. 125). أيُمكنُ، الأستاذ كيليطو، أن تُضيءَ أكثر هذيْن القوليْن المُكثّفيْن؟
– يتعلّق الأمر بسر الوجود وحتمية الموت، كما يظهر ذلك جليًّا في ملحمة «جلجامش». ويبدو لي أن «لزوميات» أبي العلاء تدور حول السؤال المحير: لماذا الوجود وليس العدم. وقد يكون هذا هو المعنى العميق لعبارة «لزوم ما لا يلزم»، إنها مفارقة مذهلة.
يُمكنُ عدّ رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، في تَرجيحٍ قرائيٍّ، تأويلًا من داخل الحَكي لحكاية حسن الصائغ البصري في «ألف ليلة وليلة»، حتى ليُمكن للقارئ أن يعتبرَ شَخصيّة «نورا» تجسيدًا لشخصيّة «منار السنا» في حكاية الليالي، غير أنّ نهاية الرّواية قائمةٌ على انفصال وفَقْد، بخلاف ما انتهَت به حكاية الليالي التي انتهَت باستعادَة حسن البصري لزَوجته بعد تجشّم الأهوال من أجل ذلك. في روايتك، حلّقَتْ «نورا» بصورَة نهائيّة دون عَودة. وهو ما شدّدَ عليه الراوي في المَشهد الأخير من الرواية الذي افتتحَهُ بعبارةٍ تتجاوَبُ مع ما وردَ في مُستهلّ الرواية. يقولُ الراوي في افتتاح المَشهد الأخير بنَبرة تحرَّرَت من الارتياب: «ومع ذلك، فإنّ المَرأة المُجنّحة تُوجدُ فوق السطح»، أي في فضاء التّحليق. أبسَبَب هذا الفَقْد لمْ تَنشغل روايتك إلّا بالقسم الأوّل من حكاية حسن البصري؟ لِمَ اقتصَرتْ الرواية على هذا القِسم الأوّل دون الثاني؟ ألِلْأمر صلةٌ بضَمير المُتكلّم المَوجود في عُنوان الرواية؟ وما مُسَوِّغُ الحَذف في التأويل؟ خُصوصًا أنّك اخترتَ في مُجمَل كتاباتك التأويلَ بالحَكي أو الحكيَ اعتمادًا على أسُس تأويليّة.
– تروم «والله» إعادة كتابة قصّة حسن البصري، وترتب عن ذلك الانتقالُ من زمن الحكاية إلى زمن الرواية، من سياقٍ إلى سياقٍ آخر، ومن لغةٍ إلى لغةٍ مختلفة. وفي هذا الصدد ترد مسألة الترجمة، مفارقة الترجمة ومآلها، فلقد قام حسن ميرو بترجمة «حسن البصري» إلى الفرنسيّة، كما شرع «يوليوس موريس» في ترجمة «مثالب الوزيريْن» إلى الإنجليزية. وفي كلتا الحالتين تصبح الترجمة مستحيلة فتتوقَّف أو تظلّ مشروعًا لا ينجز إلّا جزئيًا. ثمَّ إن ما يصدق على الحكاية لا يصدق على الرواية، فأحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام.
ظلّت حكايات «ألف ليلة وليلة»، إلى جانب المقامات، مدارَ انشغالك مُنذ كتابك الأوّل «الأدب والغرابة» الصادر مَطلع ثمانينيّات القرن الماضي. لقد خصّصتَ لهذا الانشغال، الذي ظلّت أطيافُهُ سارية في كلّ ما كتبْتَه، كُتبًا بعيْنها، هي «العين والإبرة»، و«أنبئوني بالرؤيا»، و«مَن نبحثُ عنه بعيدًا يقطن قربنا»، و«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي». وفي كلّ عودة إلى كتاب الليالي، يَتناولُ كيليطو موضوعةً من موضوعات هذا الكتاب أو حكاية من حكاياته، وبذلك يُمكنُ القول إنّ الليالي، ومعها المقامات، شكّلت نصّك اللانهائيّ الذي لا ينفكّ يَعودُ بصورة مُتجدِّدة في كتاباتك. لِمَ هذا «العود الأبديّ» المُتجدِّد لحكايات «ألف ليلة وليلة» في أعمالك؟ ألأنّ الكتابَ يَتمنّعُ على الكتاب الواحد، أم لأنّك اختَرتَ وَفقَ ما سَمّيتَهُ أنتَ نفسُك، استهداءً بمونطيني، باعتماد التفكير بالقفز والوثب خَلفيّةً لمُقارباتك؟ أم لأنّ كتاب الليالي ذاتَه لا يَستقيمُ تأويله إلّا بناءً على التفكير فيه بالقفز والوَثب أم أنّ الأمرَ أبْعد من ذلك؟ ألا يُخفي هذا الأمْرُ رَغبةَ كيليطو في كتابةِ نصّ ليليّ ذي نسَب إلى كتاب الليالي ومُختلفٍ عنه في الآن ذاته؟
– «ألف ليلة وليلة» كتاب يستدرجك للحديث عنه والتعليق على حكاياته، حتى مَن لا يقرأه يخوض في الحديث عنه. لكلّ مَن يكتب عنه أو يستلهمه قصّة خاصة معه، إنه معين لا ينضب للإبداع الأدبيّ، بشرط الابتعاد عنه بقدر الاقتراب منه.
حكاية مَن هذه الحكاية التي اعتمدَتْ صيغة القسَم في عُنوان الرواية كي تُحدّد نِسْبَتَها، التي ظلّتْ مَفتوحةً على ضَمير مُتكلّمٍ مُبْهَم؟
– تحيل العبارة الواردة في العنوان إلى شهريار، في إحدى طبعات «الليالي» المعروفة بطبعة هابخت. فخلافًا للنسخة المُتداولة والتي تعود إلى طبعة بولاق، فإن نسخة هابخت تتميَّز بكون شهرزاد تحكي في النهاية لشهريار قصته، أي ما ورد في افتتاحية «الليالي». والغريب أن الملك لا ينتبه إلى ذلك إلّا والحكاية على وشك الانتهاء، فيصرخ: «والله إنّ هذه الحكاية حكايتي». إنها خاتمة عجيبة تتفوَّق في نظري على النهاية الواردة في طبعة بولاق. ولقد سبق أن أشرت إليها في كتاب «في جو من الندم الفكري». لا يكاد يخلو حديثنا اليومي من عبارة «والله»، نردّدها بلا كلل، وفي الغالب دون أن ننتبه إلى ذلك. وحين يستعملها شهريار فلإقناع نفسه أن الحكاية حكايته، وبفعله هذا يتملّكها بعد أن ضاعت منه لمدة طويلة. فكأنه يسترجع ذاكرته. وبالجملة فإن ما فاه به يفتح آفاقاً متعدِّدة للتفكير.
في روايتك «أنبئوني بالرؤيا»، كان اسمُ إحدى الشخصيات الأستاذ (ك). وفي رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»، تعودُ هذه الشخصية، وَفقَ ما يُمكنُ أن يُرجّحَهُ التأويل، للظهور من جديد، ولكن تحت اسم الأستاذ (ع). أيتعلّقُ الأمرُ بالشخصيّة ذاتها؟ خصوصًا أنّ لهذه الرواية وشائجَ كثيرةً تربطها برواية «أنبئوني بالرؤيا». وما علاقة هذه الشخصية بكيليطو نفسه؟ لا سيما أنّ الشخصيّة تسمّت في «أنبئوني بالرؤيا» بالحرف الأوّل من اسمك العائليّ، وفي رواية «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي» بالحَرف الأوّل من اسمك الشخصيّ.
– ذلك ما يُسمَّى مفعول الواقع، عدم ذكر الاسم كاملًا أمارة توهم القارئ بأنه يتحرَّك في الواقع وبأن ما يقرأ ليس وليد الخيال.