عبد الوهاب عيساوي: أنتمي إلى جيل لا يهتم بالتاريخ كثيراً

| 02 يونيو 2020 |
عبد الوهاب عيساوي، روائي جزائري (مواليد 1985)، مهندس دولة الكتروميكانيك، يعمل بمهنة مهندس صيانة. فازت روايته الأولى «سينما جاكوب» بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية، العام 2012. وفي العام 2015، حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر، عن رواية «سييرا دي مويرتي». وفي العام 2016، شارك في «ندوة» الجائزة العالمية للرواية العربية (ورشة إبداع للكُتّاب الشباب الموهوبين). فازت روايته «الدوائر والأبواب» بجائزة سعاد الصباح للرواية (2017). كما فاز بجائزة «كتارا» للرواية غير المنشورة، العام 2017، عن عمله «سفر أعمال المنسيين». وفي 14 أبريل 2020، فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية في طبعتها الثالثة عشرة، عن روايته «الديوان الإسبرطي» الصادرة عام 2018، عن «دار ميم» بالجزائر، قبل أن تصدر في عدة طبعات عربية، ليكون أوّل جزائري يفوز بالجائزة. في هذا الحوار، يتحدث عيساوي، إلى مجلة «الدوحة»، عن روايته المتوجة بالبوكر، وعن النقاط التي أثارتها، وعن تجربته في كتابة الرواية التاريخية، وأسباب اِهتمامه بالتاريخ واستحضاره وتوظيفه سردياً، مؤكداً، في هذا السياق، أنّ راهنَ الإنسان العربي يُجبرنا على العودة إلى التاريخ من أجل إعادة قراءته، وأنّ الرواية تجيدُ وبشكلٍ كبير، هذه القراءة.
أوّل كاتب جزائري يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية، «بوكر» دورة 2020، عن روايتك «الديوان الإسبرطي»، كما فزتَ -سابقاً- بجوائز أدبية مُهمة، سواء على المستوى المحلي أو العربي. لكن جائزة البوكر جاءت لتتوّج تجربتك. كيف اِستقبلت هذا التتويج؟ وكيف تنظر إلى الجوائز؟، وما الّذي تُضيفه هذه الأخيرة إلى مسار الكاتب؟
– كما هي التتويجات، دائماً. بكثير من الفرح، هذه المرّة، اِستقبلتُ تتويجي الأفضل بجائزة «بوكر»؛ لقيمتها الأدبية، ولكونها إضافة مختلفة تَمنح الروائي قدراً مُهماً من الاِنبثاق والتألق، وتُثمِّن المشروع الروائي للكاتب، بعد سنوات من المُمارسة والاِشتغال والبحث.. الأكثر من ذلك، هي تُقدّمك للقارئ العربي والقارئ العالمي على أحسن صورة، من خلال التوظيف الإعلامي المُمنهج، والمُتابعة المُستمرّة التي لا تنتهي باِنتهاء حفل التتويج لأنّها تفتح باباً فعلياً لقراءة النّص بلغات مُختلفة، من خلال الترجمة الاِحترافية للعمل الفائز مستهدفةً قارئاً مُختلف الثقافة والرؤية، ومُجسِّدة صورةً مُثلى عن محمولاتنا الثقافيّة لدى الآخر، بكلّ تمثلاته.
الرواية ركزت على الحيز الزمني المُمتد من 1815 إلى غاية 1833، مُتكئةً على وجهات نظر لخمس شخصيات روائية مختلفة ومتعدّدة في اِنتماءاتها وأفكارها، وفي مواقفها وقراءاتها وقناعاتها. هل يمكن القول إنّ هذا الحيز الزمني تناول حقبة إشكالية، غفلَ عنها السرد أو المتن الروائي الجزائري، ولهذا واجهتْ الرواية بعض الاِنتقاد؟
– لم تحظَ الفترة الأخيرة من حُكم العثمانيين، في الجزائر، وبدايات الاِستعمار الفرنسي، بقراءات روائية عربية (على الأقلّ، فيما أعرفه)؛ من هنا، تُعتبر الفترة أرضية خصبة يتكئ عليها أي روائي من أجل قراءتها قراءةً روائية تخييلية، مُستعيناً بالتاريخ، لكنّه لا يقوله، ولا يقدم حُكماً نهائياً وإلاّ فسيصير مُؤرخاً! بالتأكيد، سيكون هناك تباين في المواقف، عند تلقّي النّص، بين مؤيد ومعارض، غير أنّ الموضوعة التاريخية -بوصفها معاملاً فنّياً- تُتيح للسارد مُمارسة فِعل التخييل، والتأثيث، والمناورة، بعيداً عن التقيّيد التاريخي الصارم.
إنّ طبيعة الموضوع حساسة، خصوصاً في المُتخيل العربي، لكنّ تسليط الضوء على هكذا أحداث، من منظور فنّي، يجعل العمل محطّ الأنظار، ومن الطبيعي أن يُثير كثيراً من الأسئلة، وكثيراً من «التجنّي»، أيضاً، لكنّه يبقى -في النهاية- عملاً فنّياً بعيداً عن «الأدلجة» والأحكام المُسبقة، فالرواية عملٌ حكائي يُحرض على فتح الأسئلة، وكشف «المسكوت عنه»، وتقديم وجهات النظر كلّها دون تحيُّز إلى جهة، فليست الرواية كِتاب تاريخ.
وجهات نظر مختلفة طرحتها شخصيات الرواية. بعضها تمّ اِلتقاطها أكثر، ووظّفَتْ بشكل مُساءلة أو بشكل إدانة لكَ، بصفتك كاتباً. كيف تُفسر هذا الاِلتقاط، وهذا التوظيف المُدين، والمُسائِل؟
– تُروى رواية «الديوان الإسبرطي» على لسان خمس شخصيات: شخصيتان فرنسيتان، وثلاث شخصيات جزائرية، من بينهم اِمرأة مغلوب على أمرها، عبّرت عن شهادتها اِنطلاقاً من ثقافتها الشعبية البسيطة، بينما عبرّ (ابن ميار) عن رؤيته التي تتبنى وجهة النظر العثمانية، بوصفه رجلاً من الأعيان مُقرباً من البلاط، بالإضافة إلى الشخصية الثالثة لشاب من الوسط الشعبي، يرفض أن يحكمه حاكم غير جزائري، سواء أكان عثمانياً أم كان فرنسياً. كلّ شخصية، في الرواية، عبّرت عن وجهة نظرها باِقتناع، إذ يجد القارئ نفسه مُقتنعاً بوجهة نظره الشخصية، فيتعاطف معه، ويتبنى رأيه إلى غاية اِنتقاله إلى الشخصية التي تليها. هذه الطريقة في البناء، الّذي يَقترب أكثر من المحاورات، تُعطي الفن مصداقية (وجهة نظري، على الأقل) في طرح كلّ الأفكار، سواء التي نتفق لها أو نختلف؛ هناك، دائماً، تقاطب مبنيّ على: مع أو ضد، أو -ربَّما- القول تضادات أو توافقات مفاهيمية بين الشخصيات. كُتبَ النصّ قصداً، بهذه البنية الكورالية أو البوليفونية، ليحتمل الحدث أكثر من رواية، ويُنظر إليه من زوايا مُتعددة، فالحقيقة ليست واحدة، ومفهوم الشيء يختلف من المنظور الّذي يُرى منه؛ ومن هنا يكون الروائي، في هذا البناء، مثل «مايسترو» يُنسق بين أصوات الكورال، دون السماح بالنشاز، أو أن يتجاوز أي صوت حجمه الّذي يخلق الاِنسجام الكلي للنصّ.
الكثير من القُراء لديهم لَبْس بين الروائي والشخصية الروائية، ويقرأون الرواية مثل الكِتاب التاريخي، فيضعون الكل في كفة واحدة، بالإضافة إلى سيطرة الكثير من الأيديولوجيات، كلٌّ يحاول أن يُؤدلج الرواية، مُؤوِّلاً إياها حسب وجهة نظره، رغم أنّ الرواية اِنفتحت على جميع وجهات النظر، ولم تُغفل أي جهة؛ هي رواية تستوعب الكل مثل الحياة، ولم تغلِّب جهة على أخرى، حتى وجهات النظر الغربية، كانت متقاطبة، بين شخصيتين لا تكادان تتفقان حول نقطة واحدة، في علاقتهما بموضوع الرواية. أظن أنّ التضييق السياسي أسهم، أيضاً، في جعل الكثير من الشعوب تعتقد (لا شعورياً) بالرؤية الواحدة، وأصبح الاِختلاف مثار شك، أو حالة سوء فهم دائم.
هل بناء شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً أنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل؟
– قبل أن تُبنى الشخصية الروائية، يُفصل في المفهوم الّذي تحمله، ورأيها في الأحداث التي سترويها في الرواية؛ من هنا، اِنطلاقاً من هذا المفهوم، يبدأ الروائي في بناء هذه الشخصية، باحثاً عن أخرى حقيقية تُوازيها، أو تتبنى موقفها، ومن عديد الشخصيات الحقيقية تتشكل الشخصية التخييلية. بالتأكيد، ستبقى هناك فراغات، يملؤها الروائي بِمَا يُناسب رؤيتها، اِنطلاقاً من أبحاثه أو توثيقه حول طبيعة المرحلة التي يكتب عنها، والناس الذين عايشوها، والظروف الاِجتماعية، والسياسية لتلك المرحلة. أمّا الكتابة عن شخصية حقيقية، فهذا أمرٌ مُختلف، إذ يكون الروائي أقل حريّةً، وستواجهه الكثير من الحدود التي يصعب عليه تجاوزها، مثلما لم تسلم رواية كُتبت عن شخصية حقيقية، من النقد.
في «الديوان الإسبرطي»، كما في رواياتك السابقة، تُعيد تحيين الأسئلة من خلال التاريخ. إلى أي حد يمكن للكاتب أن يُوَفَّق في هذا التحيين، وفي إسقاطه على الراهن؟
– الرواية تُرهِّن المفاهيم لا الأحداث، وفي الأخير يبقى التاريخ مُتكأً؛ وذلك للعلاقة القائمة بين الرواية والتاريخ (كلاهما سرد يقدم معرفة)، غير أنّ الرواية تختلف عنه في النظرة المُتعددة، فهي لا تؤمن بيقين واحد، بينما يُكتب التاريخ وفق وجهة نظر تكاد تكون أحادية، وتستفز الرواية على القراءة المتعددة، لأنّها تؤمن بالاِختلاف. نحن نفتقر إلى الكثير من الحرية السياسية والفكرية في الحياة، والرواية تحاول الاِشتغال على بثّ هذا المفهوم في القارئ، بوصفه حالة قابلة للتلقّي والتفاعل، الأمر كله منوط بحرية القراءة والتفكير بعيداً عن الأدلجة.
اعتمدت الرواية على تجميع مصادر وأرشيف وخرائط ومذكرات الوجود العثماني في الجزائر، لكن عنصر التخييل حاسم في سرد حكاية. كيف كان الاتصال والانفصال بين ما هو توثيقي وما هو تخييلي، في أثناء الاشتغال على هذا العمل؟
– يستدعي بناء عالم حكائي مُقنع الاِستعانة بالوثائق والخرائط، فالمفاهيم لا تتجول، بحرية، في النصّ، بل تحملها شخصيات مُتخيلة، يجب أن تكون أكثر إقناعاً لدى القارئ، وكلما كانت الشخصية مُقنعة في علاقتها بالزمن الّذي تعيشه، وحيّة في المكان الّذي تملؤه، وحقيقية تجاه الأحداث التي تشهدها، يكون خطابها مُبرراً، ووجهة نظرها معقولة لدى القارئ، ويبقى الخيال للتوليف بينها وبين خطاباتها، وملء الفراغات التي لا يمكن للتاريخ الرسمي أن يشملها؛ أقصد تلك التفاصيل الهامشية، والاِجتماعية، والنفسية من حياة الناس، أو ما يمكن تسميته (التاريخ الاِجتماعي للإنسان).
هل يمكن إعادة الوهج للتاريخ، من خلال السرد؟
– يصوغ الروائي العالم حسب وجهة نظر شخصياته، ولا يكتب تاريخه الرسمي، بل رؤية أخرى موازية، وهو إمكانٌ قد يتحقق أو لا يتحقق، هي فكرة أقرب منها إلى الفلسفة، يمكن قراءة رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ كتاريخ اِجتماعي لشخصياته البسيطة، وليس كتاريخ رسمي. في الأخير، ذلك ليس بحثاً عن مجد يبتغيه الروائي، بل هو محاولة لإبراز المُغيّب من الحقائق التاريخية، خصوصاً الاِنتصارات الوهمية، والهزائم المفبركة.. لأنّ تاريخنا العربي، في كثير من محطاته، كَتبه المستشرقون، أو -بعبارة أخرى- المنتصرون.. وقد تكون الرواية تاريخاً للمهزومين.
ما الّذي يدفع الجيل الجديد للاِشتغال على التاريخ وتوظيفه، واِستحضاره، واِستثماره في الرواية؟
– ربّما، لأنّنا لم نفصل، بعدُ، في علاقتنا بالتاريخ، أو -بالأحرى- لم نُحدد علاقتنا به، واعتقدنا أنّ كلّ أسئلتنا الراهنة هي راهنة بالفعل، بالرغم من أنّها قد طُرحت قبل مئات السنين، ولم تُحسم، بعدُ، الإجابة عنها، يضطر الروائي، حينئذٍ، إلى العودة إليها، في الزمن الّذي تولدت فيها، يفلسفها في فضائها الأوّل، محاولاً إيجاد قراءات مختلفة لما يحدث اليوم.
المُلاحظ، في تجاربك الروائية، أنّها تتكئ على التاريخ. لماذا هذا الاِستنطاق، وهذا النبش من كاتب شاب ينتمي إلى جيل (الميديا)، بكلّ حمولاتها وطفراتها؟
– ربّما، أنتمي إلى جيل لا يهتم بالتاريخ كثيراً، ولكني -بصفتي روائياً- أرى أنّ الأمر يختلف؛ لأنّ راهنَ الإنسان العربي يُجبرك على العودة إلى التاريخ من أجل إعادة قراءته. أشياء كثيرة بقيت على حالها، وأسئلة راهنة عميقة تتعلق بالكثير من الصراعات الهوياتية، واللغوية، والحضارية (خاصة في الجزائر) تطفو كلّ يوم، ويُعاد تحيينها، ولكن في شكل جدالات متواصلة. الأمر ليس اِختياراً، بل هو اِنسياق معرفي/سوسيولوجي، وربّما وجداني، أيضاً، فقد علمتني الرواية الحفر في المُضمر والمُغيّب، مهما كانت الموضوعة؛ فما بالك إذا تعلق الأمر بالتاريخ؟ إنّ الفضول «الروائي» –إن صحَّ التعبير– يدفعني، دائماً، إلى البحث عن أجوبة لكثير من الأسئلة العالقة، الأسئلة التي لا يمكن مناقشتها إلاّ في نصّ روائي منفتح على رؤى متعددة، ومُستوعب للكل، دون تحيّز.
هل من مهام الروائي مُساءلة التاريخ واستنطاقه؟
– ليس من مهام أحد مُساءلة التاريخ أو «محاكمته»، طبعاً. حتّى المؤرخ له مناهج تحكمه، ووثائق لا ينبغي له تجاوزها أو القفز عليها، إلاّ أنّ الرواية هي التي تتّسم بها بالمرونة كما الفنون الأخرى، بوصفها عملاً تخييلياً يتمتّع بهامش أكبر للحرية، يمنحها مساحةً أوسع للإيغال في هكذا نقاط ظلّ. فالرواية التاريخية -بتعبير المغربي عبد اللطيف محفوظ- لا تحفل كثيراً بإبعاد شُبهة المزج بين الواقعي والتخييلي، ولا تحفل باِلتزام الأمانة، لأنّ طبيعتها تفرض المراوحة بين الواقعي والمُحتمل..؛ من هنا يمكنني القول إنّ النقاط التي أثارتها روايتي «الديوان الإسبرطي» لا ينبغي أن تخرج عن هذا الإطار الفنّي، بعيداً عن الشحن الإيديولوجي، والإعلامي، فالفنّ معادلٌ للحرية، وليس من شأنه أن «يتأدلج» أو «يتسيّس» أو«يحاكِم» التاريخ إلاّ بِمَا تقتضيه العملية الفنّية، فحسب.. والروائي في هذا «الزّخم» يُمثل عنصر الحياد، بعيداً عن كلّ تأويل.