عز الدين المناصرة.. الشعر في استجلاء التاريخ البعيد

| 26 مايو 2021 |
عاشَ الشاعر الفلسطينيّ عز الدين المناصرة (1946 – 2021) منفيًا عن أرضه مُبْعَدًا عنها، وهي المُفارقة التي تكشفُ عُمقَ الجُرح الفلسطينيّ بوَجه عامّ، وعمقَ غُربة الشاعر بوجه خاصّ. غربةٌ تردَّدت أصداؤها لا في نصوص الشاعر وحسب، بل أيضًا في حُلمه الأخير بأنْ «يُدفَنَ تحت دالية خليليّة قبالة البحر الميت»، كما لو أنّ النداء الذي به سمَّى مجموعته الشعريّة الأولى «يا عِنبَ الخليل» ظلّ مفتوحًا في الزمن، وممتدًّا بَعد الموت.
يكشفُ مسارُ الشاعر الراحل عز الدين المناصرة عن ثلاثة مَناحٍ مُتداخلة؛ أوّلها المنحى الشعريّ الذي به اقترنَ اسمُهُ بوَجه عامّ مُنذ ستينيّات القرن الماضي، وثانيها الانخراط في المُقاومة الفلسطينيّة إلى حدّ حمْل السلاح، في فترة مُعيَّنة، دفاعًا عن المُخيّمات وعن الجنوب اللبنانيّ، وثالثها الانشغال الصحافيّ والأكاديميّ، سواء في تحمُّل الشاعر لمَسؤوليّة التحرير في جرائد ومجلّات أم في اضطلاعه بمُهمّة التدريس الجامعيّ والتأليف النقديّ. لعَلّ هذا المسار، بمُختلف مناحيه وانشغالاته، هو ما جسّدَتْهُ، من جهة، تنقّلاتُ الشاعر في بلدان عديدة بعيدًا عن أرضه، وأضمرَتْه، من جهة أخرى، الأسئلة والقضايا الثاوية في إصداراته الشعريّة والنقديّة. وقد شهدَت هذه المناحي الثلاثة تفاعُلات حيَويّة سَرَتْ في وجهات نظره السياسيّة والثقافيّة وفي كتاباته الشعريّة، بل يُمكن عَدّ هذه التفاعلات عنصرًا مركزيًّا في فهْم رُؤيته للقضية الفلسطينيّة، وفي استجلاء تصوُّره الشعريّ وما أنجزتْه كتابتهُ الشعريّة وهي ترومُ تجسيدَ هذا التصوُّر نصّيًّا. فالبُعد الثقافيّ الذي وسَمَ مسارَ عز الدين المناصرة وشغلَ اهتماماته وتآليفَه شكَّل، إلى جانب قضية الأرض وفي تداخُل معها، مُوَجِّهًا رئيسًا للمَسلك الشعريّ الذي شقّتْهُ تجربتُه، إذ كان لهذا البُعد أثرٌ حيَويّ في تصوُّر عز الدين المناصرة للشعر، وفي اختياره المدارَ الذي اتّخذتْه قصائدُه في بناء الدلالة وفي المُقاومة من داخل الشعر. وكثيرًا ما تحوّلَ التوازي النقديّ والشعريّ في كتاباته، الذي جسّدتْهُ مُزاوَجتُه بين التأليف الأكاديميّ والكتابة الشعريّة، إلى تفاعل نصّيٍّ مُتشعِّب في ثنايا قصائده وطيّاتها، على نحو جعلَ هذه القصائد ذات حمولة ثقافيّة بيِّنة، بل إنّ المُوجِّه الثقافيّ فيها ذو امتدادات وتشعُّبات، حتى وإنْ ظلّ صامتًا وخفيًّا وراء الطابع الرّعويّ الذي وسمَ هذه القصائد.
لهذا التفاعُل، الذي شكّل عنصرًا بنائيًّا في شعر عز الدين المناصرة ملامحُ عديدة؛ منها المُحاورات النصيّة التي أقامتْها نُصوصهُ الشعريّة مع تجارب من الشعر العالميّ الحديث، ومع الثقافة العربيّة القديمة، ومع الأساطير الكنعانيّة والعربيّة بصورة خاصّة، على نحو حوّلَ علاماتٍ ثقافيّة وشعريّة وأساطيرَ كنعانية إلى مُرتكزات للبناء النصّي والدلاليّ في شعره، بما جعلَ هذا الشعرَ مُنطويًا على أصداء ثقافيّة عديدة. لعَلّ جانبًا من هذه المُحاوَرات هو ما تجلّى، مثلًا، في الحضور القويّ لاسْم امرئ القيس، ضمن أسماء أعلام أخرى عديدة في مُنجزَ الشاعر عز الدين المناصرة، انطلاقًا من حرْصِه على استدعاء هذا الاسم في سياقات عديدة بحمولات دلاليّة تقومُ على التحيين. غير أنّ الملمح الأقوى للتفاعلات النصّية في شعر عز الدين المناصرة تجسَّدَ بصورة واضحة في علاقةِ شعره بالتاريخ، وتحديدًا التاريخ الكنعانيّ، حتى ليُمكنُ اعتبار قصائد عز الدين المناصرة من المُتون الشعريّة التي تسمحُ لدارس الشعر العربيّ المُعاصِر بتعرُّفِ وَجهٍ من وُجوه الإشكاليّة المُعقَّدة التي تُثيرُها علاقة الشعر بالتاريخ، لأنّ نبرة عز الدين المناصرة الشعريّة تحدَّدَت بوَجه عامّ انطلاقًا من هذه المنطقة الكتابيّة، أي انشغال الشّعر بالتاريخ وبالحفْر في جذوره البعيدة، من جهة، واستثمار هذا الحفر، من جهة أخرى، في البناء النصّيّ، وفي بناء الرؤية إلى أرض فلسطين التي شكَّلت مدارَ العلاقة بين الشعر والتاريخ في نُصوص الشاعر.
لقد كانت المنطقةُ التي منها انتصرَ شعرُ عز الدين المناصرة للأرض مشدودةً إلى عُمق التاريخ الكنعانيّ الضارب في القِدم. من داخل هذا العُمق، كان الشاعر يَبني القصيدةَ، فيما هو يَبني، في الآن ذاته، الرؤيةَ إلى الأرض بوَصفها تاريخًا ذا جُذور مُوغلة في أدغال الزمن البعيد، ومُوغلة في أدغال الاجتماع الإنسانيّ بعلاقاته المُعقَّدة وتمثُّلاته. كانت اللغة الشعريّة في قصائد عز الدين المناصرة تبني صورةَ الأرض اعتمادًا على امتداداتها في الزمن وفق ما يُتيحهُ الشعُر لاستثمار هذا الامتداد، ولاستثمار جذور الاجتماع الإنسانيّ لأبناء الأرض، الذي يغدو هو الأرض نفسُها، لأنّها لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها. فقضيّة الأرض التي جمَعتْ على المُستوى الكتابي، في البدء، مَنْ عُرفوا بشعراء المُقاومة، حسب التوصيف الذي رسّخهُ غسان كنفاني، وشكَّلت نُقطة تقاطُعهم هي عينُها التي انطوَت على ما فرَّقَ بينهُم، لا فقط في تصوُّرهم للأرض ولاستشراف أفُقها، بل في طرائق بنائهم الشعريّ لقضيّتها، وفي الأسُس المعرفيّة لهذا البناء، وفي صيَغه الجَمالية. ضمن هذه الطرائق التي رسَمتْ لِمَنْ عُرفوا بشعراء المُقاومة سبُلًا شعريّة مُتباينة، شكَّلَ تاريخُ الأرض وما يَصلُها بجذورها البعيدة، التي تمتدّ قبل الميلاد بقُرون عديدة، المدارَ الكتابيّ الذي إليه انحازَ شعرُ عز الدين المناصرة، دون أن يكفَّ هذا الانحيازُ عن التبلْوُر والتوسّع في نصوص الشاعر منذ أن تبدَّت نواتُه في مجموعته الشعريّة الأولى أواخر ستينيّات القرن الماضي. إنّه المَدار الذي رسَم المسارَ الشعريّ عند عز الدين المناصرة في مُختلف الأطوار التي قطعتْها تجربتُه، إذ لم تنفصل هذه التجربة عن رهان شعريّ يستجلي التاريخَ الكنعاني الساري في أرض فلسطين، بما يُضيءُ الحضارةَ التي إليها تَنتسبُ هذه الأرض، ويستجلي عبر الصوَر الشعريّة هذا السريانَ في الموروث الشعبيّ لأبناء الأرض، وهو ما جعلَ قصيدة عز الدين المناصرة مُنطويةً على صيَغ عديدة لتفاعُل الماضي البعيد بالحاضر، وَفق ما يتطلّبهُ هذا التفاعلُ من معرفة بالتاريخ ومن قُدرة على تحويله شعريًّا، بناءً على ما يقتضيه الصَّوغ الشعريّ.
مُنذ مجاميع عز الدين المناصرة الشعريّة الأولى، بَدا حضورُ الأرض بصورة قويّة، لا في ثنايا القصائد وحسب، بل أساسًا في التسمية التي اعتمدَها الشاعرُ في وَسْم مجاميعه. بالأرض تسمَّت مجموعتهُ الشعريّة الأولى «يا عِنبَ الخليل»، 1968، وبما يُميِّزُ هذه الأرض تسمَّت مجموعتهُ الشعريّة الثانية «الخروج من البحر الميت»، 1969، قبل أن يتعدَّدَ هذا المُميِّزُ كي يَصيرَ تاريخًا مُمتدَّ الجذور، لن تكفَّ القصائدُ، على امتداد مسار الشاعر الكتابيّ، عن رَصْده في العلاقات الإنسانيّة لأبناء الأرض وفي مُتخيَّلهم وتمثلاتهم وأحزانهم وأحلامهم، بما يكشفُ عن التلاحم الرمزيّ بين الأرض وأهلها. لقد انحازَ شعرُ عز الدين المناصرة، مُنذ البدء، إلى الأرض، ولكن لا بوَصفها فضاءً جغرافيًّا، بل بوَصفها تاريخًا يَصونُ ذاكرَتهُ البعيدة في أشدِّ التفاصيل الحياتيّة لأهل الأرض، مُمتدًّا في لهجاتهم، وفي طقوسهم الحياتيّة، وفي علاقاتهم وتمثّلاتهم، التي اتّخذ منها الشاعرُ مادّةً لاستجلاء أصداء التاريخ وللحفْر فيه عبْرها. ومن ثَمَّ، بقدْر ما تُتيحُ قصائدُ عز الدين المناصرة الاقترابَ من أحَد وُجوه العلاقة المُعقَّدة بين الشعر والتاريخ، تُتيحُ في الآن ذاته مُصاحبةَ التداخُل والتشابك بين الجغرافيا والتاريخ والكيفيّة التي بها يَسري الثاني في الأولى لتكُفّ بامتداده فيها عن أن تكونَ مُجرّد مساحة أرضيّة. اِنطلاقًا من قضايا هذا التشابك، كانت قصيدةُ عز الدين المناصرة تبني عالمَها الشعريّ الذي ظلّت تتردّدُ فيه أصداءُ التاريخ الكنعاني البعيد. أصداء تجلَّت، عبْر الشعر، مُتجذّرةً في تفاصيل الجغرافيا وفي مَعيش مَن سَكنَها وسكنَتْهُ في الآن ذاته.
بين الجغرافيا والتاريخ من الوشائج ما يَجعلُ الأولى ذات ذاكرة تحملُها في كلّ مُكوِّناتها، فهو ما يَصنعُ ذاكرتَها وجذورَها الرمزيّة وتكوينَ مُتخيّلها، ويجعلُ ممّا يَصنعهُ في كلّ تفاصيلها مُقاومةً صامتةً لكلّ طمْسٍ يرومُ مَحوَ المُتجذِّر في هذه الجغرافيا، أي محو امتدادها في التاريخ وحتى في ما قبل التاريخ. فتجذُّرُ التاريخ في الجغرافيا هو ما يمنحُها صلابَتها الرّمزيّة ويمنعُ ما تجذَّرَ فيها من الاقتلاع والاجتثات، لأنّ ما تجذَّرَ فيها حياتيًّا ورمزيًّا هو ما يصنعُ تمثُّلات أبنائها وعلاقاتهم وأحلامَهم. من هنا تتكشّفُ المُقاومة التي يُتيحها التاريخ للأرض، ضدًّا على كلّ تحريف وتزوير. إنّها المقاومةُ بما تكوّنَ في الزّمن، وبما يَمنعُ الأرضَ من أن تُفصلَ عمّا تجذَّر فيها وعمّا يَجري في تفاصيلها، اجتماعًا وتمثُّلًا وألمًا وفرحًا وحُلمًا. لعَلّ هذا التصوُّر عمّا يَصلُ الجغرافيا بالتاريخ هو أسُّ الرّهان الثقافيّ الذي نهضَتْ به قصيدةُ عز الدين المناصرة وهي تختارُ بناءَ نبرَتها اعتمادًا على الحفْر في التاريخ الكنعانيّ المُحصِّن للسرديّة الفلسطينيّة من كلّ تَزوير ومن كلّ اختطاف، لأنّ ما يَعتمدهُ الاستعمارُ في سلْب الأرض ينطلقُ من طمْس التاريخ واختلاق سرديّة تنهضُ على الأكاذيب. إنّه التحصين الذي به آمنَ الشاعر عز الدين المناصرة وحرصَ على صَوغه شعريًّا عبْر تفاصيلَ اقتضاها عملُ القصيدة وهي تنْبَني على التاريخ، وبه تبْني، في الآن ذاته، الدلالة الشعريّة، أي الرّؤية الشعريّة إلى الأرض. فقد كانت المُقاومة الشعريّة التي اضطلعَت بها قصيدةُ عز الدين المناصرة ذات بُعد ثقافيّ راهنَ على التاريخ، إذ تحدَّدَت المسؤوليّة الشعريّة في هذه القصيدة انطلاقًا من العمَل على ترسيخ سرديّة تقومُ على الكشْف عن الجذور الكنعانيّة السحيقة لأرض فلسطين.
في ضَوء هذا التصوُّر العامّ لعلاقة الجغرافيا بالتاريخ، يُمكنُ قراءة رهان الشاعر عز الدين المناصرة على التاريخ الكنعانيّ في بناء قصيدته ورَسْم المنطقة الشعريّة التي منها أنتجَ المعنى ونحتَ نبرتَهُ الخاصّة. فقد ربطَ الشاعر عز الدين المناصرة قصيدته بمُقاومةٍ تستجلي الذاكرةَ البعيدةَ للأرض، وذلك بالحفْر في الجذور الكنعانية التي تمتدُّ حتى إلى ما قبل التاريخ. وهو المُوجِّه الذي يُفسّرُ انشغال قصيدته بالموروث الشعبيّ، بوَصف هذا الموروث سيرورةَ تكوينٍ تحقّق في التاريخ مُنذ زمنٍ ضارب في العتاقة، لذلك كانت أصداءُ هذه السيرورة أثرًا حرصت قصيدةُ عز الدين المناصرة على اقتفائه واستجلائه عبر دوالّها وصوَرها وإشاراتها. فقد كانت قصيدتهُ مُضمِرةً، حتى في غنائيّتها، لحفْر صامت في البعيد، لذلك كانت الأصداءُ التي تُسْمِعُها القصيدةُ قادمةً من البعيد السحيق الذي اتّخذَتهُ مكانًا للحفْر.
إذا كان شعرُ عز الدين المناصرة قد لفتَ قُرَّاءَهُ ودارسيه إلى نبرةٍ ثقافيّة تجلّت بوَجه عامّ في التفاعلات النصيّة وفي أصداء التاريخ الكنعاني، بما هو عنصرٌ حيَويٌّ استثمرَتْهُ القصائد في إنتاج المعنى وفي بنائها لصورة الأرض، فإنّه لفتَ، فضلًا عن ذلك، إلى خصيصة في بنية اللغة التي بها تحقّقَ هذا الشعر، تجلّت في إدماج الشاعر عز الدين المناصرة ألفاظًا عاميّة في شعره وحرصه على «تفصيحها». لم تكُن هذه الخصيصة عرَضيّةً في شعره، بل شكّلت عُنصرًا في بنية لغته، على نحو تبدَّى من سَريانها في مُعظم قصائده، بصورة تدعو إلى التأمّل والتأويل. إذا كان استثمارُ الكلمات العامية في شعر عز الدين المناصرة مُشْرعًا على دراسات دقيقة لاستجلاء وظائفه البنائيّة والدلاليّة، فإنّه يسمحُ، في سياق علاقة الشعر بالتاريخ واستثمارِ الأوّل للثاني، بتأمّله عبْر افتراض الوشيجة التي تَصِلهُ برِهان قصائد الشاعر على التاريخ الكنعاني. يتأتّى هذا التأمّل بالانطلاق من عدِّ العاميّة جُزءًا مِن الموروث الشعبيّ، على نحو يسمَحُ بالنظر إليها بوَصفها مُنطويةً على أصداء التاريخ البعيد مثلما تنطوي باقي عناصر الموروث الشعبيّ على هذه الأصداء. فاستثمارُ التاريخ في الشعر يَحتفظ بما يُميّزه، وبما يمنعُ التاريخ من أن يحضُر في القصيدة عبْر وقائع وأحداث أو عبر تسلسل كرونولوجيّ وإلّا كفّ الشعرُ عن أن يكون شعرًا، لذلك كان استثمارُ عز الدين المناصرة للتاريخ الكنعانيّ شعريًّا يمُرُّ عبْر الأساطير والعلامات، ويتحقّقُ اعتمادًا على إدماج الموروث الشعبيّ الذي هو الحافظ لصدَى ما تَغلغلَ في وجدان أبناء الأرض، وهو أيضًا ما يَمتدّ في اللغة العامية التي تحملُ في أصواتها الأثرَ الكنعاني البعيد. ومن ثَمَّ، كانت الكلمات العاميّة في شعر عز الدين المناصرة جُزءًا من بناءِ اللغة الشعريّة، وعُنصرًا لإسماع الصّدى الكنعاني البعيد في القصائد. إنّه الاستثمارُ الذي يَضمنُ للمُقاومة صفَتَها الشعريّة وبُعدَها الجماليّ.
إنّ اختيار الشاعر عز الدين المناصرة الوَشيجة التي تصلُ الأرضَ بالتاريخ منطقةً لإنتاج الشعر وإنتاج المعنى أتاح لهُ أن يَشقّ مسارَ كتابته اعتمادًا على ملمح شعريٍّ اقترنَ باسمه. وقد كانت المنطقة، التي منها كتبَ الشاعر، تُغْني تجربته وتخلقُ في نصوصه تفاعلات بين الحاضر والتاريخ، فيما هي تولِّد، في الآن نفسه، أسئلةً خَصيبة. لربّما ما أضاءَته تجربة عز الدين المناصرة الشعريّة هو الامتدادات التي كشفتْها في العلاقة بين التاريخ والأرض، إذ كشفَت أنّ الأرض ليست هي فقط المُتجذِّرة في التاريخ، بل هو أيضًا مُتجذِّرٌ فيها، لأنّ الإقامة في الأرض نَسبٌ تاريخيّ، لا ينفصلُ فيه الرَّمزيّ عن الماديّ. هكذا كان انشغال شعر عز الدين المناصرة بالمكوّن الكنعاني في الهويّة الفلسطينيّة مُقاومَةً تتصدَّى لتزييف التاريخ. مقاومةٌ اختارَت الموروثَ الشعبيّ بوصفه خزّانًا رمزيًّا للتاريخ، فيه تكفّ كلُّ عناصر الأرض عن أن تكون عناصرَ ماديّة وحسب، لتتحصّن بذاكرةٍ تسري في مختلف تفاصيل الحياة التي يعيشها أبناء الأرض. بهذا المعنى، تحضرُ عناصرُ الأرض في شعر عز الدين المناصرة مُتشابكة بالرَّمزيّ فيها؛ يَحضر الحجرُ والجبال والكروم والبحر الميت وغيرها من العناصر موشومةً بالرَّمزيّ السحيق، بل يحضرُ كلّ ما يَسِمُ قصيدةَ عز الدين المناصرة بصفةِ الرَّعويّ مُتشابكًا مع حياة الناس وأحلامهم، أي مُتشابكًا بما لا يقبلُ الاقتلاع.
لقد أنجزَتْ قصيدة عز الدين المناصرة مقاومتَها اعتمادًا على منطقة شعريّة تُنصتُ للسحيق وتقتفي السّلالات البعيدة في التفاصيل. من داخل هذه المنطقة الشعريّة، حرصَت قصيدتُه على استجلاء تجذُّر التاريخ في الأرض وتجذُّر الأرض في التاريخ، ترسيخًا لذاكرة الأرض وصَونًا لسرديّة مُستمدَّة من شرعيّةِ التاريخ السحيق. في الرهان على هذا التجذُّر المُضاعَف وفي صَوغه شعريًّا، عاشَ الشاعر عز الدين المناصرة منفيًا عن أرضه مُبْعَدًا عنها، وهي المُفارقة التي تكشفُ عُمقَ الجُرح الفلسطينيّ بوَجه عامّ، وعمقَ غُربة الشاعر بوَجه خاصّ. غربةٌ تردَّدت أصداؤها لا في نصوص الشاعر وحسب، بل أيضًا في حُلمه الأخير بأنْ «يُدفَنَ تحت دالية خليليّة قبالة البحر الميت»، كما لو أنّ النداء الذي به سمَّى مجموعته الشعريّة الأولى «يا عِنبَ الخليل» ظلّ مفتوحًا في الزمن، وممتدًّا بَعد الموت.