علوية صبح في “حبٌّ يتحدّى التصدّعات”

| 03 يناير 2021 |
في روايتها الرابعة (أنْ تعشق الحياة، دار الآداب، 2020)، تتشبّث علوية صبح بعاطفة الحبّ عنصراً محوريّاً في نسيج السّرد وتوجيه الفعل، لكنها تنقله إلى سياق إنساني واجتماعي بالغ التعقيد والتشابُك، جرّاءَ ما يعرفه العالم والفضاءُ العربي من تحوُّلات كابوسية تطمس الرؤية، وتخلخل السلوك…
في مطلع تجربة حبِّها الذي يكتسي طابع الافتراض، هذه المرّة، تكتب «بسمة»، من خلال حكْيها لحبيبها «حبيب اليوسفي»، وقائع عاشتها قبل أن تتعرَّف إليه من خلال التراسُل الإلكتروني، اتسمتْ بالمأسوية والحزن، لكنها استطاعت أن تواجهها بعشق الحياة والتشبُّث بالحبّ لمُواجهة المرض البدني والمرض النفسي، ورفض ما أصابَ المجتمع من اختلالات اجتماعية وسياسية انعكست على سلوك الأفراد.
تحكي «بسمة»، عبْر اثنيْن وعشرين فصلاً، لـ «حبيب»، دون أن تتقيّد بالتسلسل الزمني؛ لأنها في وضعٍ نفسي خاصّ يجعلها تتدفَّق في السرد، مُراوحةً بين التفاصيل واللحظات الشعورية المشتعلة، والحوارات الكلامية باللّغة الدارجة التي تحمل نكهة النطق اللبناني للكلام المتحدِّر من العربيّة الفصحى…
من ثمّ، أميل إلى أن أعتبر رواية «أن تعشق الحياة» صادرة عن رحِمِ «المحكيّ النفسيّ» الذي يسعى إلى استعادة الأحداث والذكريات والانفعالات والمواقف، من خلال سرد مُتدفِّق تتجاور فيه «رواية العائلة» مع التجربة العاطفية: مع أحمد، الكاتب الذي مات قبل أن تكتمل روايته، ثم مع يوسف، الرسّام المبدع الذي رسمها في تجليات رائعة قبل أن ينتكس ويهجر الفنّ والحبيبة، ليلتحق بطائفةٍ دينية؛ تتجاور أيضاً مع تجربة بسمة في مجال الثّقافة والفنّ والسياسة، إذْ رَاهنتْ، منذ بداية شبابها، على مُعانقة الحداثة والتحرُّر من وصاية ذكورة الرجل…
على هذا النحو، تبدو بسمة البؤرةَ التي تتجمّع عندها الخيوط لتصبح هي الشخصية-الأساس، ومركز المأساة التي تفجّر الأسئلة الشائكة المتدفّقة في المحكي النفسي المتنقّل عبْر اللحظات والذكريات، لاستجماع عناصر التجربة القاسية التي بدأت بالمَرض العضال الذي أصابها، وكاد أن يُحطِّم حياتها، ويُحوّلها إلى رماد. لقد عثرتْ بسمة على نقطة الارتكاز لمقاومة المرض، وفشل حبِّها ليوسف، في ما كان يردّده حبيبها الأوَّل الراحل: «موتُ حبٍّ لا يَضعُ نهاية لقدرتنا على الحبّ». وعندما بدأت تتحدّى المرض الذي شلّ بعض أعضائها، وأصابها بتشنّجاتٍ، حَارَ الأطبّاءُ في علاجها، ووجدتْ نفسها تسترجع مسار حياتها منذ الطفولة، وتنتقل من فترة إلى أخرى، بحسب تدفُّق الذاكرة: «.. ومن قال إن الكلام هو، دائماً، مستقيم حين نحكي عن حياتنا وذكرياتنا؟ الزمن هو نفسه دائري، بين الحياة والموت، ويبدو لي أنه يسير مُتعرّجاً أو مستقيماً، يهبط ويرتفعُ، يطلع وينزل، يُزوْبعُ أو يهدأ…» (ص 23).
مع انسياب الذاكرة، تأخذنا بسمة إلى طفولتها، وعلاقتها بأمِّها المتشدّدة في معاملتها للأب الذي كانتْ تحبُّه، وحزنتْ لانتحاره الذي خلَّف لديْها جُرحاً لا يندمل. واستطاعت بسمة أن تتحرَّر عندما ساعدها خالها المهاجر في أن تلتحق بمدرسة الرقص الحديث، حيث حققتْ نجاحاً كبيراً، ووجدت في الفنّ وسيلة للتعلُّق بالحياة والتشبُّث بها. وقد ازدادت تعلُّقاً بالحياة من خلال صداقتها مع «أنيسة» الروائية، وأمينة «العانس» الخاضعة للماضي. وبقدْر ما وجدتْ في أنيسة، سنداً أسْعفها على مقاومة المرض، كانت أمينة أنموذجاً لما ترفضه بسمة لدى المرأة. ومن هذه الزاوية، تبدو الصديقات الثلاث كأنهنّ نماذج أساسية في المجتمع الذي يرفضُ تَحرُّر المرأة… لكن العنصر الأساس، في تجربة بسمة، وفي تحدّيها للمرض ولردّةِ المجتمع الذي تعيش فيه، هو تجربة حبِّها مع يوسف الرسّام، لأنه أتاح لها أن تعيش تجربة عميقة تكلَّلتْ بالزواج، وعزفتْ خلالها سيمفونية العشق والوئام: «.. كيف أنسى يوسف؟ كان كلَّما ينهي لوحة يقول: أنا، فقط، أجمع نظراتي إليكِ في ألوانٍ يعشق بعضها بعضاً على القماشة كما أعشقكِ أنتِ. أنظر إليها ثمّ إليكِ وأقول لنفسي: أحتاجُ أن أنظر إليكِ أكثر.. أحتاجُ أن أحملكِ في عيني كيْ تصير اللوحة شبيهة بكِ» (ص 202). أصبح التناغمُ العِشقي بين بسمة ويوسف سفينة تُبحِرُ بهما إلى أجواء مُجتمع مُتوازن، يضمن للفرد الحرّيّة والاطمئنان. إلّا أن هذا الحلم لم يكتمل، إذ أجْهضَ الربيعُ العربي، واستعادت القوى الحاكمة والطوائف سُلطتها، وانتشر الإرهاب، وعادت الفتاوى لتحاصر النساء، وخيّمَ كابوسُ الخوف والعنف ومُصادرة الحرِّيّات… تستعيدُ بسمة ذلك المناخ، لأنه كان وراء تحوُّلِ يوسف، زوجها، من فنّان مُرهف العاطفة، عاشق لبسمة إلى مُتزمّت يأمرها بما عليها أن تفعل. تقول بسمة، بعد أن أصبح يوسف متقمّصاً شخصية الرجل المعادي لتحرُّر المرأة: «عندما أفكَّر بيوسف، يتأكّد لي أن موت الحبّ في علاقةٍ بين اثنيْن ليس هو الموتُ الأنجع، إنما هو الصعقة القاتلة التي تصيبُ الأوطان. مَنْ قال إن حكايا البشر وأجسادهم ليست كحكايا مُدُنهم، أوْ أن الأجساد لا تشبه مُدنها؟ كيف أصدّق أن جسدي باتَ عدوّي الذي يفتكُ بي؟» (ص 295).
يبدو، من هذا التحليل لثيمات الرواية، أن «بسمة» تضطلع بدوْر البطلة الإشكالية التي تتشبَّث بقيم الحرّيّة وحقوق المرأة… وهي، في سبيل ذلك، تقبَلُ الافتراقَ عن زوجها الذي تخلَّى عن قيَمِهما المشتركة، وَخَضَع لسطوة الجهات التي مارستْ تأثيرها السّلبي على قطاعات واسعة من الرأي العامّ، عبْر أداة التلفزيون التي تقوم بغسل الأدمغة؛ لذلك قرّرتْ أن تقاوم الردّة، وتقاوم المرض، وتبحث عن حبّ جديد يُعيد لها التوازن الداخلي، ويُعطي لحياتها معنى. تتحدّى بسمة كلّ تلك العقبات، مُقتديةً بتجربة صديقتها أنيسة التي استطاعت أن تتخلَّص من أنانية زوجها، وتستعيد حرِّيَّتها لكتابة روايتها…: بسمة وأنيسة كلتاهما، تخوضان معركة ضدّ مؤسَّسات المجتمع المُعاكسة لتحرّر المرأة، غير أن هذا الصراع لا يقف عند حدود ما هو اجتماعي وسياسي، بل يتعدّاه ليُلامس ما يتعلَّق بالمرض والموت وهشاشة الإنسان؛ من هنا تقترح علينا علوية صبح أن نعانق «عِشق الحياة» لكيْ نجدّد الإرادة، ونعود إلى مدار الوجود، ونبتدع لحظات السعادة على هذه الأرض قبل الممات. لا شيء يستطيع أن يحول بيننا وبين مُعاودة الحبّ والعشق والاستمتاع بالوجود؛ حتى مرض الطاعون لا يستطيع أن يحول بيننا وبين الاستمتاع بالحياة، كما قال صاحب رواية «الحبّ في زمن الكوليرا»: «يزدهر الحبّ في زمن الطاعون، ودقيقة زمنية من العتمة لا تجعلنا عُمياناً».
في «أن تعشق الحياة»، عناصر كثيرة تشدّ القارئ ليخوضَ المعركة التي خاضتْها بسمة وهي تواجه الفقر في طفولتها، والمرض في مطلع شبابها، والردّة الإيديولوجية وهي متزوّجة وفنّانة لامعة. ومن خلال تجاربها التي أسعدتْها، وإصرارها على أن تتشبَّث بالحبّ ولو في صيغته الافتراضية «لأن في الحبّ احتمالات كثيرة»، ترسم بسمة الطريق إلى ما هو قادر على رأب تصدّعاتها.
لقد استطاعت علوية صبح أن تعزف، من خلال روايتها «أن تعشق الحياة»، سيمفونية للعشق بوصفه وسيلة لمقاومة المصير البشري الخاضع لمجابهات، كثيراً ما تصيبه بالجروح والعطَب. وإذا كان المصير يبدو أقوى لأنه كثيراً ما يسند المؤسَّسات والجهلاء، فإن سلاح الحبّ والتعلّق بالحياة يظلّ قادراً على انتزاع لحظات متميّزة من بين فكَّي المصير الغشُوم..