عمّ تدور روايات العدوى؟

| 01 أبريل 2020 |
أصاب الجنون سُكّان لندن حين اجتاح المدينة وباء الطاعون في العام 1665. طلبوا المشورة من المُنجمين والمُشعوذين والكتاب المُقدَّس. فتَّشوا أجسادهم بحثاً عن علامات أو إرهاصات الإصابة بالمرض: انتفاخات أو بثور أو بقع سوداء. استجدوا نبوءات واشتروا تنبؤات. صلوا وعولوا وأغمضوا عيونهم وسدّوا آذانهم. انفجروا بالدموع في الشوارع وقرأوا تقاويم مفزعة: «لا ريب أنّ هذه الكُتب أفزعتهم»؛ لهذا سعت الحكومة التي حرصت على احتواء حالة الذعر، إلى: «حظر طباعة مثل هذه الكُتب لأنّها تفزع الناس». هذا ما جاء في كتاب المُؤلِّف الإنجليزي «دانييل ديفو» Daniel Defoe الّذي حمل اسم «يوميات عام الطاعون»؛ وهو تأريخ كتبه «ديفو» بالتزامن مع كُتيِّب نصائح بعنوان «التحضيرات اللازمة للطاعون» صدر في العام 1722؛ وهو العام الذي شهد إصابة الناس بالخوف من احتمال أن يعبر المرض القناة الإنجليزية مرّةً أخرى، إذْ بعد أن انتقل من الشرق الأوسط إلى مارسيليا قد يتجه شمالاً على متن سفينة تجارية. كان «ديفو» يأمل أن يكون كتاباه ذا نفع: «لنا وللأجيال القادمة، رغم ضرورة أن ننجو من هذه الحصة من الكأس المريرة». لكن هذه الكأس المريرة خرجت من صوانها.
في العام 1665، فرّ مَنْ أصابهم الفزع إلى الريف؛ والحكماء أيضاً، أمّا المتلكئون فأصابهم الندم؛ ذلك أنّهم حين قرّروا المغادرة: «لم يكن يوجد جواد واحد يُمكن شراؤه أو استئجاره داخل المدينة كلّها»، كما يروي «ديفو»، وفي النهاية أُغلقت البوابات وباتوا محتجزين جميعاً. الجميع أساءوا التصرُّف، لكن الأثرياء كانوا الأسوأ. إذْ كانوا يرسلون خادماتهم الفقيرات لشراء المؤن بعد أن فاتهم تخزين ما يكفي. كتب «ديفو»: «جرّت حتمية الخروج من بيوتنا لشراء ما يلزم الخراب على المدينة بكاملها». لقي عشرون بالمئة من سكّان لندن حتفهم برغم الاحتياطات التي اتّخذها التجار؛ إذْ كان القصّاب يرفض تسليم قطعة اللحم للطباخة في يدها، بل كان عليها أن تنتزعها من الخطّاف بنفسها، وكان عليها في المقابل أن تضع القطع النقدية داخل دلو يمتلئ بالخلّ.
يكتب «ديفو»: «استقرّ الأسى والحزن فوق الوجوه». وأثبت تضييق الحكومة على نشر الكُتب التي تثير فزع الناس أنّه بلا طائل؛ إذْ كانت الشوارع تمتلئ بما تثير قراءته الفزع. ستقرأ ملصقات أسبوعية تُعلن أعداد المتوفين، أو تعدّ الجثث أثناء تكويمها في الأزقة، أو تقرأ الأوامر التي ينشرها عمدة المدينة: «سنُغلق المنزل الّذي يسكنه أي شخص يزور شخصاً آخر عُرف عنه إصابته بعدوى الطّاعون، أو يدخل عن طيب خاطر أي منزل مُصاب بالعدوى وغير مسموح بدخوله»، كما ستقرأ اللافتات فوق أبواب البيوت المصابة بالعدوى التي يحرسها خفراء، وعلى كلّ باب علامة صليب أحمر يبلغ طوله قدم كاملة، تعلوه عبارة مطبوعة بحروف كبيرة يُمكن قراءتها من مسافة بعيدة تقول: «ارحمنا يا الله!».
القراءة عدوى؛ تنقيب داخل الدماغ: فالكُتب تلوِّث مجازيّاً وميكروبيولوجيّاً أيضاً. كان قباطنة السفن في القرن الثامن عشر يقسمون على الكتاب المُقدَّس عند وصولهم إلى المرافئ أنّهم طهّروا سفنهم وغمروها بماء البحر. وأثناء المخاوف من مرض السلّ، كانت المكتبات العامّة تبخّر الكتب بوضعها داخل أحواض من الصلب مُحكَمة الإغلاق وغمرها بغاز «الفورمالديهايد». لكن الكتب تلعب أيضاً دور الدهان الملطِّف والسلوى. فخلال القرون الطويلة التي اجتاح خلالها وباء الطاعون أوروبا، كان الخاضعون للعزل الصِّحي يقرأون الكتب إذا حالفهم الحظّ وتوافرت لهم. أمّا إن لم تتح لهم، ولم يكونوا أصحاء بما فيه الكفاية، فكانوا يروون القصص. هكذا نرى في كتاب «الديكاميرون» للمُؤلِّف الإيطاليّ «جيوفاني بوكاتشيو»، الذي ينتمي للقرن الرابع عشر، سبع نساء وثلاثة رجال يتناوبون فيما بينهم رواية القصص على مدار عشرة أيام أثناء اختباءهم من الطاعون الأسود.
تتراوح الروايات التي تدور حول الأوبئة بين «أوديب ملكاً»، وبين «ملائكة في أميركا»، وبين «أنت الطاعون»، و«أعمى يحكي لأوديب». تقول إحدى شخصيّات كاتب المسرح الأميركيّ «توني كوشنر»: «ها نحنُ في العام 1986 وثمّة وباء يجتاحنا. أصدقاء أصغر مني سقطوا موتى، ولم أبلغ الثلاثين بعد من عمري». ثمّة أوبئة هنا، وأوبئة هناك، من طيبة إلى نيويورك، أوبئة فظيعة ومروِّعة، لكن ما من وباء واحد نزل بالجميع حتى قرَّرت الكاتبة الإنجليزيّة «ماري شيلي» أن تكتب تتمّة لروايتها «فرانكنشتاين».
«الرجل الأخير The Last Man» التي تدور أحداثها في القرن الحادي والعشرين هي أوّل رواية كُبرى تتخيَّل انقراض الجنس البشريّ بسبب وباءٍ عالمي. نشرت «شيلي» الرواية وهي في عمر التاسعة والعشرين، بعد أن مات كلّ مَنْ تحبهم تقريباً، وبعد أن تركوها حسبما تقول: «كرفات أخيرة من عرق محبوب؛ إذْ يسبقني رفاقي إلى الانقراض». نرى الرّاوي في بداية الكتاب راعياً إنجليزيّاً فقيراً وغير متعلِّم: رجل بدائي عنيف متمرِّد على القانون ومتوحِّش أيضاً. يهذبه ويعلّمه أحد النبلاء، فيترقَّى بسبب عصر التنوير ويُصبح مثقَّفاً مدافعاً عن الحريّة وجمهوريّاً ومواطناً عالميّاً.
ثم يأتي الطاعون في العام 2092، ويجتاح القسطنطينية أوّلاً. وسنة تلو الأخرى يغيب الوباء كلّ شتاء، ثم يعود في الربيع أشدّ خبثاً وأوسع انتشاراً، وتشرق الشمس بلون أسود علامة الموت. تكتب«شيلي»: «ثار ذعر مفاجئ عبر آسيا، من ضفاف النيل إلى شواطئ بحر قزوين، ومن الدردنيل إلى خليج عمان». وتظلّ طبيعة الوباء غامضة: «أطلقوا عليه وصف الوباء، لكن السؤال الأكبر ظلّ دون جواب بشأن الطريقة التي نشأ بها هذا الوباء وكيف تفاقم». ويتردَّد المشرعون في التصرُّف: فمن جهةٍ هم لا يفهمون طريقة سريانه، ومن جهةٍ أخرى تملؤهم ثقة زائفة: «لا تزال إنجلترا آمنة، ففرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا يحولون بيننا وبينه. الجدران التي تفصل بيننا وبينه لم تُخترق بعد». ثم ترد تقارير أنّ أمماً بأكملها سقطت، ولقي مواطنوها حتفهم، ويلجأ الخائفون إلى التاريخ بعد فوات الأوان، ويجدون في صفحاته، بل وفي صفحات «الديكاميرون» أيضاً، الدرس الخاطئ: «لقد تذكّرنا طاعون العام 1348 الذي حصد ثلث البشريّة. ولحدّ الآن لا زال غرب أوروبا لم تصبه العدوى، فهل سيظل الحال هكذا دائماً؟» لكن الحال لا يظل هكذا دائماً؛ إذْ يحل الوباء بإنجلترا في نهاية المطاف، لكن آنئذٍ لا تبقى أمام الأصحاء جهةٌ يقصدونها، حيثُ «لا ملجأ فوق الأرض»: لقد أصاب الوباء العالم بأكمله!
كان الحلم الكبير لعصر التنوير لا يزال يتقدَّم، والفزع الهائل من اندلاع وباءٍ ما يتراجع. لكن في الأدب الأميركيّ يحلُّ مثل هذا الخراب مصحوباً بمنعطف ديموقراطي في الغالب، تغدو فيه العدوى أداة المساواة الأخيرة. تدور الحكاية التي كتبها «إدجار ألان بو» في العام 1842 بعنوان: «حفل الموت الأحمر التنكري The Masque of the Red Death» في عالم قروسطي موبوء بمرضٍ مُعدٍ يقتل على الفور تقريباً. يكتب «بو»: «كانت البقع القرمزية التي تنتشر بالجسد، ولا سيما بوجه الضحية، هي علامة الإصابة بالعدوى التي تمنع عنه النجدة، بل وتعاطف رفاقه من البشر». وبشكلٍ خاص، لا يتعاطف الأثرياء مع الفقراء، فنرى أميراً متغطرساً يلجأ إلى جانب حاشيته من النبلاء والنساء للاعتزال في قلب إحدى قلاع الأمير المشيدة، وهناك يعيشون في ترفٍ فاسد إلى أن تصل في إحدى الأمسيات التي يُقام فيها حفلٌ تنكري، شخصيّة تلبس قناعاً: «مصنوع كي يُشبه لحدٍّ كبير ملامح جثة متيبسة، يعجز مَنْ يدقق فيها عن كثب عن اكتشاف الخداع». الزائر هو الموت الأحمر بنفسه، ويلقى كلّ مَنْ في القلعة موتهم تلك الليلة، حيثُ تخفق طبقة النبلاء في الإفلات مما يضطر الفقراء إلى ملاقاته.
يتحوَّل موت «بو» الأحمر إلى وباءٍ في رواية «جاك لندن» «الطاعون القرمزي The Scarlet Plague» التي صدرت مسلسلة في العام 1912. (نفس المرض حيثُ يتحوَّل كامل الوجه والجسد إلى اللون القرمزي في غضون ساعة). حلّ الوباء في العام 2013، وانمحت كلّ البشرية تقريباً؛ الثري والفقير، الأمم القويّة والضعيفة في كافة أرجاء العالم، وتُرك الناجون يقتسمون بؤسهم وتشرُّدهم بالتساوي. من بين الفئات القليلة التي نجت من الوباء عالمٌ في جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي، حيثُ كان يعمل أستاذاً للأدب الإنجليزيّ، اختبأ داخل مبنى الكيمياء حين عصف الوباء بالأرض، وتبيّن أنّ لديه مناعة ضد المرض. وهكذا يعيش وحيداً داخل فندق قديم في «يوسميتي» مستفيداً من متاجرها الممتلئة بالطعام المُعلَّب، إلى أن ينضم إلى فريق صغير ويعثر بينهم على زوجة. نرى الأستاذ في مستهل الرواية التي تبدأ أحداثها في العام 2073، وقد أصبح رجلاً عجوزاً يعمل راعياً يلبس ويعيش كأنه حيوان. يروي قصة الطاعون القرمزي لأحفاده وأبنائه الذين: «كانوا يردِّدون كلمات تتألَّف من مقطع واحد وعبارات متشنجة قصيرة أغرب من أن تكون لغة»، لكنهم بارعون في استخدام الأقواس والسهام. تُصيب بدائيتهم الأستاذ الجامعي بالغمّ، فيتنهّد ويلقي بنظره عبر ما كان في السابق مدينة سان فرانسيسكو.
كان «ألبير كامو» قد عرّف الرواية يوماً بأنّها المكان الّذي نتخلّى فيه عن البشر لصالح بشرٍ آخرين، أمّا روايات الأوبئة فهي المكان الذي يتخلّي فيه البشر عن كلّ البشر، فعلى خلاف أنواع روايات نهاية العالم الأخرى، حيثُ يمكن أن يكون العدو مادةً ما كيميائية أو بركاناً أو زلزالاً أو غازياً من كوكب آخر، فإنّ العدو هنا هو إنسانٌ آخر: لمسات أو أنفاس بشرٍ آخرين، وفي كثير من الأحيان- في معرض التنافس على الموارد المتناقصة- مُجرَّد وجود بشر آخرين.
الكاتب: جيل ليبور
ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر
المصدر:
مجلّة The New Yorker عدد 30 مارس 2020
* «جيل ليبور Jill Lepore» أستاذ التاريخ الأميركي بجامعة هارفارد. حصدت كتبها العديد من الجوائز، وتصدر هذا العام كتابها الرابع عشر بعنوان:
If Then: How the Simulmatics Corporation Invented the Future