عولمة الفزع

| 08 أبريل 2020 |
ربَّما ساهمت العولمة في هذا الانتشار المُثير للرعب والفزع، وربَّما ساهمت وسائل الإعلام أيضاً في ارتفاع حدَّة هذا الفزع في عالم تحوَّل إلى قريةٍ صغيرة. الدول والحكومات والساسة يفكِّرون عادةً في اتخاذ الإجراءات والتدابير في مثل هذه الحوادث قصد تقليص الخسائر إلى حدِّها الأدنى، مستعينين في ذلك بالمؤسَّسات الرَّسميّة والمجتمع المدني. أمّا المُفكِّرون والمُثقَّفون فإن اهتمامهم ينصرف إلى تحليل الأسباب وتقييم النتائج البعيدة المدى وتأثيرها على الوضع البشريّ في القادم من الأيام.
في أواخر سنة 2019 ظهر فيروس كورونا المُستجَد الذي أصبحت تسميته العلمية «كوفيد 19»، وانتشر بسرعة ليتحوَّل إلى وباء ضرب العديد من الدول الإقليمية، ثم تحوَّل إلى جائحةٍ مُعلَنة من طرف منظَّمة الصحَّة العالميّة، بعد أن غزا مختلف الدول والمناطق في العالم مطلع سنة 2020. صحيح أن البشريّة عاشت أهوال الأوبئة والجوائح غيرما مرّة، من قبيل «الطاعون الأسود» و«الأنفلونزا الإسبانية» وغيرهما، إلّا أن المُقلق والمخيف في هذا الفيروس الجديد هو سرعة انتشاره وقوة فتكه بالأجساد الضعيفة المنخورة بالأمراض المزمنة أو التي تنقصها المناعة الكافية.
وإذا كان من الصعب الإحاطة بكلّ ما يروَّج في عالم الفكر اليوم حول هذه الجائحة، فإن بعض النماذج يمكن أن تقدِّم لنا صورة عن واقع اليوم وسيناريوهات المستقبل. لذلك انفتحنا على مفكِّرين لهم علاقة وثيقة بعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس، وهي المجالات المعنية أكثر من غيرها الآن بهذه الجائحة العابرة للقارات، فلعلّها تمدّنا بإشارات إلى الطريق الذي يجب أن نسلكه مستقبلاً.
تبدو حالتنا اليوم على أنها حالة فزع الكلّ من الكلّ، حالة من الشك والريبة وانعدام اليقين إزاء المجهول؛ والسبب في هذا يعود إلى جائحة «كوفيد 19». إننا أمام فزع مُعولَم يدل على حجم الأزمة التي تعصف بصحّة البشر التي هي الخير الأعظم على حدِّ تعبير ديكارت. ومن أهمّ دروس هذه الأزمة الكبرى في نظر السوسيولوجي الفرنسي «إدغار موران Edgar Morin» أنه لا يمكننا الانفلات من الريبة واللايقين: نحن لا زلنا دائماً مرتابين بصدد إيجاد علاج لهذا الفيروس، وكذلك إزاء تطوُّرات ونتائج هذه الأزمة. بناءً على ذلك، يحدِّد موران مهمَّة أساسيّة للتربية، تتمثَّل في تدريس الريبة واللايقين. إلّا أنه من مفارقات هذه الريبة أنها تتضمَّن في نفس الوقت الخطر والأمل. نعتقد أننا نعيش تطوُّراً، بل تحوُّلاً جذرياً، لكن الفيروس يذكّرنا بأننا نعيش المغامرة؛ المغامرة أمام المجهول وداخله، المغامرة التي لم نسمع عنها من قبل بالنسبة للجنس البشريّ. ويبدو، في نظره، أن الفيروس يقتل النيوليبرالية ويقتلنا معها في نفس الوقت؛ ولذلك فإنه سيكون من المحزن جدّاً ألّا يخرج من هذه الأزمة فكرٌ سياسيٌّ يرسم طريقاً جديداً. من هذه الفكرة، أي ضرورة فكر سياسيّ جديد، ينطلق الفيلسوف والمُؤرِّخ الفرنسي «مارسيل غوشيه Marcel Gaucher»، معتبراً أن الأزمة التي نمرّ بها هي فرصة للحظة الحقيقة، الرهان فيها يتركز على علاقة كلّ مواطن بالجماعة السياسيّة. وينتقد غوشيه عبارة «إننا في حالة حرب»، لأنها بعيدة عن الواقع، وربَّما مجرَّد وصف مجازي لهول هذه الأزمة، مؤكّداً ذلك بقوله «لسنا في حالة حرب، أو إن الأمر يشبه الحرب الزائفة… تذكرون أنه خلال حرب 1914 – 1918 سقط أكثر من عشرين ألف قتيل في يومها الأوّل. نحن، لحسن الحظ، بعيدون جدّاً عن ذلك».
إن أهمّ ما كشفت عنه هذه الأزمة هو عودة ما هو سياسي(le politique) ، أي ما يضمن بقاء ودوام جماعة ما، وقاعدة مشتركة تلزم الجميع لأنها تهم حياة وموت كلّ عضو من الجماعة. ففي نظر غوشيه أن الدلالة العميقة لهذا الحدث تتمثَّل في صحوة البعد المُتعلِّق بما هو سياسي والذي نسيناه واعتقدنا أنه يمكننا الاستغناء عنه. ما هو سياسيّ يرتبط بحياة الجماعة، وهو الأهم حالياً؛ أمّا الانتخابات البلدية، فهي ترتبط بالسياسة (la politique)، وهي تهتم بمَنْ نجح أو خسر فيها، وهي تافهة حالياً، بل ومدعاة للسخرية والتهكم.
في تقدير غوشيه، أن «كوفيد 19»، رغم كونه يتطوَّر بشكلٍ تصاعدي، إلّا أنه لحد الآن، لم يصل بعد إلى هول الطاعون الأسود أو الأنفلونزا الإسبانيّة، وفي توقّعه وتساؤله معاً: أننا سنعرف في القادم من الأيام، إلى أي مدى ستتقلص أو تتمدَّد الفجوة بين الفرد والجماعة. يعني هذا أننا نعيش اليوم اختباراً سياسيّاً حقيقياً وعلى أعلى مستوى؛ فهل البعد الفرداني الليبرالي والخاصّ هو المُهيمن كلّيةً على مجتمعاتنا الغربية؟ سنكتشف هذا الأمر في المستقبل القريب. هذا هو ما يهم، وهذا هو الأساسي في هذه الأزمة على حدِّ تعبير غوشيه.
وعلى غرار إدغار موران، يرى غوشيه أن العولمة الليبرالية قد ماتت، وأن المبدأ القائل بأن «التجارة الناعمة» ستحلّ جميع المشاكل أصبح بائداً. وفي معرض الحديث عن مناعة الجسم السياسيّ، يقول بأنه ليس من البساطة والبداهة، في مجتمع يتكوَّن من أفراد، أن يضمن مناعته السياسيّة. ذلك أننا نطلب من الأفراد أن يبتعدوا عن بعضهم البعض قدر الإمكان (الحجر الصحي)، لكننا نقول لهم في نفس الوقت «فكّروا في الآخرين فقد تكونوا خطراً عليهم». هكذا يجد الأفراد أنفسهم بين شدٍّ وجذب، أي في حالة توتر بين المسافة الفردانية والالتزام الغيري. في الأخير، يؤكِّد بأن هناك رجّة فكرية وخلخلة أيديولوجية كبيرة وقويّة، ولا أحد يمكنه التنبؤ بخطورة الحدث وما سيترتب عنه، إلّا أننا في حاجةٍ ماسة إلى برنامج سياسيّ جديد.
وبالنظر إلى فرادة التجربة البريطانيّة في التعاطي مع أزمة «كوفيد 19»، ارتأينا أن ننفتح على بعض فلاسفتها الأكثر حضوراً إعلاميّاً، خاصّة على صفحات «الغارديان Guardian» وقناة الـ«BBC»، يتعلَّق الأمر بالفيلسوف الإنجليزي «جوليان باجيني Julian Baggini» الذي يتماثل للشفاء حالياً من أزمة التهاب رئوي. ما يبدو غريباً بالنسبة لنا جميعاً، هو تأكيد الوزير الأوّل «بوريس جونسون Boris Johnson» أن المملكة المتَّحدة لن تتخذ أي إجراء من قبيل إغلاق المدارس وفرض الحجر الصحي، إلخ. لكن بالنسبة لهذا الفيلسوف، يمكن فهم هذا الأمر بسهولة ووضوح بالنسبة لمَنْ يعرف طريقة تفكير الإنجليز. فقد حاول جاهداً في كتابه «كيف يفكّر العالم How The World Think» توضيح التشابهات القوية بين الخصائص المهيمنة على ثقافةٍ ما والنموذج الفلسفيّ الذي تجسده. ولعلّ الأزمة الحالية تجسيد واضح لهذه الفكرة. فهو يرى أن جونسون قدَّم استراتيجيته باعتبارها «أمبريقية empirique» في تعارض مع المثالية، إذ أوضح أن القرار الذي اتّخذه جاء بعد استشارة العلماء المرموقين حول الموضوع؛ وهؤلاء أقنعوه بأنه في مصلحة الشعب أن يطوِّر قدراته ودفاعاته المناعية (مناعة القطيع)، حتى لو كان ذلك يعني تكبُّد المزيد من الخسائر في البداية. بالإضافة إلى ذلك، إنها مقاربة ذرائعية. ومعلوم أن هذه الأخيرة تشير إلى مذهب فلسفيّ سياسيّ وأخلاقيّ، تبلور مع كلّ من «جيريمي بنثهام Jeremy Bentham» (1748-1832) و«جون ستيوارت ميل John Stuart Mill» (1806-1873)، ويقوم على مبدأ عام هو تجويد الوجود إلى أقصى حدٍّ لفائدة الأغلبية، حتى ولو ترتَّب عن ذلك إجحاف أو ظلم في حقّ بعض الأفراد، أي حتى ولو كان الأمر يتعلَّق بعدد من الوفيات في الحالة التي نتحدَّث عنها وهي الجائحة. يسعى باجيني من وراء كلّ هذا إلى توضيح أن الفلسفة الإنجليزية ليست عاطفيّة، إنها تريد أن تكون، عكس ذلك، هادئة وعقلانية، على حدِّ تعبيره. فالذرائعي الصارم والمُتشدِّد، لا يجب عليه فقط التقليص من عدد الوفيات، وإنما التساؤل أساساً عن عدد الذين سينعمون بإمكانية العيش المديد وبصحة جيّدة. بعبارة أخرى، إذا كان الأشخاص المُسنّون في البلد، هم مَنْ سيموت توّاً، فيما سيطوِّر الشباب مناعة ضد «كوفيد 19»، فالحساب جيّد؛ ولعلّ هذا الاستثناء يبدو إنجليزيّاً محضاً. يضاف إلى ذلك أن التقليد الليبرالي في المملكة المتَّحدة، يفرض على الحكومة اعتماد مبدأ المسؤوليّة الفرديّة وكأن الحكومة تخاطب الأفراد قائلة: ابقَ هادئاً وتابع طريقك. هذه هي الطريقة الإنجليزيّة في كيفية مواجهة الشدائد. وقد لاحظ باجيني أن تغيير نبرة خطاب الوزير الأوّل وبعض السياسيّين نابع من الشكّ في النموذج العلمي المعتمد في اتخاذ هذا القرار، والتخوُّف من عرض جثث الموتى بالآلاف في المستشفيات على مختلف وسائل الإعلام والتواصل. هذا التغيير يحرِّكه، في نظره طموحٌ سياسيٌّ شخصيّ وليس بدافع الغيرية. لكن يبدو أن المملكة المتَّحدة رضخت أخيراً لتتخذ نفس التدابير والإجراءات التي اتخذتها الدول الأخرى. وفي علاقة مع الأزمة الصحّية التي مرّ بها (التهاب رئوي) ودور الفلسفة فيها، انتقد الاعتقاد السائد عند الكثيرين في أن الفلسفة تجعلنا سعداء وتساعدنا على تخطي المصاعب، إلّا أنه يؤكّد في نفس الوقت أهمِّيتها: إنها تمنحنا فهماً أوضح لما نعيشه، وتحول دون انجرافنا مع الأهواء واللامعقول. وفي كلمةٍ أخيرة: ما هو أساسي، بالنسبة إليه، هو تقبل الجواز الذي يطبع الوضع البشريّ وكذا طبيعة الحياة العابرة.
ومن منظور يمتزج فيه التحليل النفسيّ بالنقد السياسيّ، خصص الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجيك Slavoj Zizek» مقالاته الأخيرة لتقديم آرائه حول جائحة (كوفيد 19). وقد ركّز بداية على طريقة ردود أفعالنا إزاء هذه الجائحة، معتمداً في ذلك على خطاطة الطبيبة النفسانية «إليزابيث كوبلر-روس Elisabeth Kübler-Ross» والتي عرضتها في كتابها «اللحظات الأخيرة للحياة». تتكوّن هذه الخطاطة من خمس مراحل هي: الإنكار، الغضب، المساومة، الإحباط والتقبل. في البداية كان الإنكار (الأمر ليس على هذه الدرجة من الخطورة)، ثم الغضب «بنبرات لا تخلو من عنصرية أو عداء للدول»: (مرّة أخرى الخطأ صادر عن هؤلاء الصينيين)، (حكومتنا ضعيفة وغير فعّالة)، بعد ذلك جاء دور المساومة (هناك طبعاً ضحايا، لكن يجب أن نكون قادرين على الحدِّ من الخسائر)، وإذا لم تسر الأمور في هذا الاتِّجاه سيظهر الإحباط (يجب ألّا نخدع أنفسنا، نحن جميعاً مدانون)؛ أمّا مرحلة التقبُّل فقد عبَّر عنها جيجيك بقوله (يجب علينا تقبُّل واقع أن الوباء سيأخذ حتماً بعداً عالميّاً، وأنه لا يمكن احتواؤه عن طريق الحجر والعزل ولا عن طريق أي تدبير وحشي ناجم عن الذعر والفزع. يتعلَّق الأمر إذن بتقبُّله، مع الوعي بأن معدل الوفيات منخفض نسبياً، وبشيء من الحكمة ستكون لنا فرصة للنجاة…). إلّا أن ما هو أعمق من ذلك، وما يجب تقبُّله، وما يجب علينا التوافُق معه، هو أن الحياة كانت دائماً قائمة على أساس الانتشار الغبي والمُتكرِّر للفيروسات التي، مثل أموات أحياء، تلقي بظلالها علينا، مُهدّدة بقاءنا. هكذا تذكّرنا الفيروسات في العمق بجواز وعدم أهمِّية وجودنا: مهما كان حجم الآثار العقلية الروحية التي أقامتها البشريّة، فإن طارئاً طبيعياً غبياً مثل فيروس أو كويكب يمكنه أن يدمِّر كلّ شيء. هذا دون الحديث عن درس الإيكولوجيا الذي يمكننا استخلاصه من هذا: إن الإنسانيّة، من دون قصد، تخاطر بتعجيل نهايتها. كما يؤكِّد بأن الخطوة الأولى نحو التقبُّل، تفترض حدّاً أدنى من الثقة بين سلطات الدول وشعوبها. لذلك ينتقد جيجيك الطريقة التي تعاملت بها الصين مع الدكتور «لي وينليانغ Li Wenliang» الذي كان هو أوّل من اكتشف الوباء المُنتشر، وتمَّ منعه وإخضاعه للرقابة بدعوى محاربة الشائعات والحدّ منها لتفادي الذعر والفزع. من جهةٍ أخرى، يرى جيجيك ضرورة اتخاذ تدابير يعتبر أغلبنا بأنها شيوعية، مثل التنسيق والمُواءمة بين الإنتاج والتوزيع خارج معايير السوق وبمعزل عنها. والواقع أن المهمَّة التي تنتظرنا هي في غاية الصعوبة والتعقيد: يجب علينا التخلّص من أي حنين إلى شيوعيّة القرن العشرين البائدة، وإبداع أشكال جديدة متمركزة حول المشترك الإنساني؛ وإنه لمن اليوتوبيا المُجنَّحة الاعتقاد في طريقةٍ أخرى للخلاص. في معرض هذا الحديث، أشار جيجيك إلى أن الوزير الأوّل الإسرائيليّ، ومن أجل الحدِّ من انتشار الفيروس، اقترح على السُّلطات الفلسطينيّة المساعدة والتنسيق، معلِّقاً على ذلك بقوله، إن هذا الاقتراح ليس بدافع الخير أو الإنسانيّة، وإنما بكلّ بساطة، لأن الفيروس لا يميِّز بين اليهود والفلسطينيّين. إضافة إلى هذا، فشعار «أميركا (أو أي دولة أخرى) أوّلاً» انتهت صلاحيته في ظلّ عولمة الفزع. وفي الأخير يذكّرنا بما قاله مارتن لوثر كينغ منذ ما يزيد على نصف قرن: «لقد قدمنا على مراكب مختلفة، لكننا اليوم جميعاً على نفس السفينة». وإذا لم نترجم هذه الأقوال إلى أفعال، فإننا نجازف بأن نجد أنفسنا على متن «أميرة الماس»، وهو اسم السفينة التي اجتاحها الوباء.