عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح

| 10 نوفمبر 2022 |
للوهلة الأولى، يعتبر كأس العَالَم لكرة القدم حدثاً رياضياً كبيراً. للوهلة الثانية، وراء كل مباراة، هناك أيضاً جانب اقتصادي وثقافي وسياسي على المحك، يوضّح باسكال بونيفاس في كتابه «كرة القدم والعولمة». كرة القدم هي بؤرة العولمة وتناقضاتها. وعندما يتعلَّق الأمر بكرة القدم، وفي اليوم الذي ينطلق فيه كأس العَالَم، سيصبح الكاتِب بدوره مشجّعاً مثل أي شخصٍ آخر، بنفس القدر من الحماسة، وحتى الشوفينية. والكُتَّاب عبارة عن نداء منعش لهذه الرياضة وقراءة متعمِّقة لتطوُّرات الكوكب، في مرآة الملاعب غير المُحتمَلة، ولكن الكاشفة: العَالَم هو كرة القدم!
ساندرين تولوتي: أنت تحلل بحماس غزو كرة القدم للكوكب منذ نهاية القرن التاسع عشر. كيف يمكن أن ننظر بإعجاب لظاهرة هي أيضاً ثمرة الهيمنة الغربية على العَالَم؟
– باسكال بونيفاس: كرة القدم إمبراطورية، ويا لها من إمبراطورية! لا توجد ظاهرة عالمية تشبهها اليوم. بعد البحّارة والتّجار والصناعيين الإنجليز والجنود والمُستوطنين، جاءت كرة القدم وأسرت العَالَم. وانتشرت بعد أن هاجر الشباب من عدّة مجتمعات في الكوكب للدراسة في كليات جلالة الملك، ثمَّ عادوا إلى بلدانهم وكلهم شغف بكرة القدم ورغبة في ركلها… ثمَّ أكملت الإذاعة والتليفزيون هذا الغزو. إمبراطورية كرة القدم الآن تهيمن على العَالَم بأسره، حتى في البلدان غير المُتوقّعة مثل نيبال أو بوتان أو جزيرة مونتسيرات الصغيرة في جزر الهند الغربية. لكن هذه الإمبراطورية لم تُبن أبداً تحت الإكراه. لقد استولت على العقول والقلوب بسلاسة شديدة. في الحقيقة، إن العقول والقلوب هي التي تبنّت هذه اللعبة. وإذا كنا نتحدَّث عن القوة بشكلٍ مطلق، فإننا نتحدَّث عن «القوة الناعمة»، باستخدام مصطلحات عالم السياسة الأميركي «جوزيف ناي».
إنها بالتأكيد ليست مسألة غزو عسكري، لكن كرة القدم مع ذلك جسّدت شكلاً من أشكال الهيمنة الثقافية الغربية. حتى أنك تذكر كيف منع الاتحاد الأرجنتيني التحدُّث بالإسبانية…
– الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم، الذي تأسّس عام 1893، بدعوة من أستاذ من أصل إنجليزي، تبنّى جميع القواعد، بما في ذلك تلك الأكثر التزاماً بالروح البريطانية: أحد الأدلة الأولى لكرة القدم -على سبيل المثال- أشار إلى أن «اللاعب المُتضرِّر يمكنه قبول أعذار مَنْ اعتدى عليه شرط أن تكون صادقة وصياغتها باللّغة الإنجليزية السليمة»، ولا يسمح الاتحاد الأرجنتيني بالتحدُّث باللّغة الإسبانية خلال اجتماعات قادته. كان ذلك نتيجة لنخبوية الرياضة التي تبنّتها الطبقات الاجتماعية العليا، الحريصة على التقليد فيما يتعلّق بالحداثة التي تجسّدها أوروبا. لكن من الواضح أن هذه المرحلة النخبوية لعولمة كرة القدم لم تدم طويلاً.
في الحقيقة، وعلى غرار بقية الظواهر الثقافية، اكتسبت كرة القدم طابعها العالمي نتيجة للتطوير الذاتي عقب انتشارها في العديد من الشعوب والحضارات، مما أكسبها بمرور الوقت معنى مناسباً لاحتياجاتهم. على هذا النحو، فهي مرآة لتطوُّر المجتمعات، أكثر من كونها عنصراً دافعاً لها. منذ عام 2000، تنازلت لعبة البيسبول عن مكانتها كرياضة وطنية رائدة في اليابان إلى كرة القدم، بالنسبة لجمهور التليفزيون. وفقاً لعالِم أنثروبولوجيا ياباني، فإنّ هذه الظاهرة لها علاقة كبيرة بتنامي مذهب المُتعة في المُجتمع: بدلاً من الجهد المُستمر المطلوب للبيسبول، يفضّل اليابانيون اليوم كرة القدم المُباشرة.
تؤكِّد على الطبيعة السلمية لإمبراطورية كرة القدم. لكن لكل شيء جانب سيئ: غالباً ما تصبح الميادين مكاناً للتعبير عن المشاعر القومية الأكثر عنفاً…
– أنا عاشق صريح ولست أعمى. ترتبط كرة القدم بعلاقة متناقضة للغاية مع الهويّة الوطنية. وكيف يمكن أن تكون خلاف ذلك؟ لقد تطوَّرت في نفس الوقت الذي تمَّ فيه إنشاء وتوحيد الدول القومية في أوروبا. منذ البداية، تمَّ تكليف هذه اللعبة -والرياضة بشكلٍ عام- بمهمَّة ترسيخ الهويّة الوطنية. من خلال التكاتف معاً لدعم «فريقهم»، يعبِّر المُؤيدون بسهولة عن شعور مشترك بالانتماء. في الدول التي تمَّ تشكيلها بالفعل، سواء كانت حديثة أو قديمة، فإنّ المُباراة هي المُناسبة المُباركة لإعادة تأكيد الشعور الوطني.
بالنسبة للشعوب التي تطمح إلى نيل الاستقلال، فهذا شرط أساسي. غالباً ما يسبق المنتخب الوطني لكرة القدم تأسيس الدولة: كان هذا هو الحال بالنسبة لفريق جبهة التحرير الوطني الذي دافع من 1958 إلى 1961 عن ألوان الجزائر. ويشهد على ذلك وجود الفريق الفلسطيني المُنتسب إلى (الفيفا) منذ عام 1998. إلّا إذا اعتبرنا الشعور القومي في حدِّ ذاته خطأ، فلا يوجد شيء سيئ في هذا الأمر. كل ذلك يتوقف على العنف الذي يصاحب عملية الاستقلال، ولا علاقة له بالرياضة. يزعجني منظّرو المَجَرّة «المناهضة لكرة القدم»، الذين يلعنون الرياضة بأساليب لا علاقة لها بالأمانة الفكرية، على سبيل المثال، عالِم الاجتماع «جان ماري بروم» الذي وصفها بـ«الطاعون العاطفي».
كرة القدم لا تستحق هذه الإهانة المُبالغ فيها. هذا ما تصنعه الشركات ورجال الأعمال السياسيون. إنه ،على سبيل المثال، مؤشّر ممتاز لتفكّك الدول. ظهرت الشروخ الأولى في الاتحاد اليوغوسلافي خلال مباراة بين دينامو زغرب وريد ستار بلغراد في مارس/أذار 1990: أدّت الاشتباكات بين مشجعي الفريقين إلى إصابة أكثر من 60 شخصاً بجروح خطيرة. وبالمثل، فإنّ المُباريات بين سلوفان براتيسلافا المدعومة من السلوفاك وسبارتا براغ، رمز الهويّة التشيكية، أدت إلى تبادلات نشطة بين المُشجِّعين. في الحالة الثانية انتهى الأمر بـ«الطلاق المخملي». وفي الحالة الأخرى، كانت المجزرة. دون أن يكون لكرة القدم أي علاقة بذلك.
من وجهة نظري، تعمل كرة القدم، كما أوضح «نوربرت إلياس»، على توجيه المشاعر: «يمكن للمُشاهدين في مباراة كرة القدم تذوّق الإثارة الأسطورية للمُنافسة فوق الملعب وهم يعلمون أنه لن يتمَّ إلحاق أي ضرر باللاعبين أو بأنفسهم. على هذا النحو، فهي تخفِّف من مشاعر القوميات. تشجِّع بطولة كأس أوروبا لكرة القدم على تنمية الشعور المُشترك بالانتماء بين شعوب القارة التي مزّقتها الحروب الداخلية لقرون. ولا يقتصر الأمر على بقاء العداوات محصورة في الملاعب، ولكن المباريات بين الأندية الأجنبية تساعد على زيادة الوعي بوجود الآخرين. «إنها مجرد كرة قدم، وليست حرب». على خلاف المُفردات الأخرى: «قصَفَ أهداف الخصوم»؛ «فجّرَ الدفاعات»، «دكَّ شباك الحارس».. حيث تتكاثر استعارات المُحارِب. وبالتالي، فإنّ كرة القدم تمكِّن من التعبير عن شعور قومي كامن غير مضر بأي حالٍ من الأحوال.
بالطبع الصورة مختلفة إذا نظرنا إلى العلاقات الرياضية بين اليابان والصين. خلال كأس آسيا 2004، تحوّلت بكين إلى معسكر حقيقي بعد فوز اليابان في النهائي، مما أثار غضب المُشجِّعين الصينيين. لكن لا يبدو لي أن هذا انعكاس لَعْنَة ما على الشغف بكرة القدم. إنما هي ثمرة الذاكرة غير المحسومة للحرب العالمية الثانية والتنافس على السلطة بين العملاقين.
أودّ أن أقول نفس الشيء عن العنصرية التي يتمُّ التعبير عنها أحياناً في الملاعب. ولا أدافع بأي شكلٍ من الأشكال عن التطرُّف الفاشي لبعض المُشجِّعين الإيطاليين. لكن الملاعب هناك لا تحتكر العنصرية في شبه الجزيرة. وهذا ما يتضح من خلال النجاح الذي حقّقه كتاب الصحافية الشهيرة «أوريانا فالاتشي»، وكان تعبيراً عن إسلاموفوبيا محيِّرة للعقل، وبلغت مبيعات الكتاب مليون نسخة… يجب القيام هنا بتحليل للآثار المُعقّدة على المجتمع الإيطالي الذي سيشهد زيادة بمقدار خمسة أضعاف في عدد المهاجرين في البلاد في غضون عشرين عاماً. باختصار، كرة القدم ذريعة لمَنْ يتنصل من مسؤولياته! قالها «إدواردو غاليانو» بعبارةٍ جميلة: «الدموع لا تأتي من المناديل».
إذا لم تشعل كرة القدم الحروب، ألا تساهم القيم التي تحملها في تأجيج المشاعر السياسية الخطيرة؟
– كرة القدم ليست فقّاعة من الوداعة والأخوّة في عالَم يتسم بالعنف والتنافس. ومن حقّنا أن نحلم بعَالَم آخر. ومع ذلك، فإنّ كرة القدم يمكن تطويعها بالشكل الذي نريد. لقد خدمت الكرة نظام موسوليني ووفّرت للإيرانيين مكاناً للتعبير عن معارضتهم، عقب انتهاء المُباريات، عبر احتجاجات ضد الخميني في أوائل الثمانينيات. والمجلس العسكري الأرجنتيني يحتفظ بالذاكرة المريرة للحريّة في الملاعب: أراد أن يجعل كأس العالم 1978 واجهة جميلة لحكمه. لكنه واجه اتهامات غير مسبوقة!
وهكذا فإن النتائج إيجابية عموماً. كرة القدم هي أيضاً، وفوق كل شيء، تبدو لي، مساحة للمُصالحة. كانت الاستضافة المُشتركة لكأس العَالَم 2002 من قِبل اليابان وكوريا علامة بارزة للتقارب بين البلدين. بشكلٍ عام، عولمة كرة القدم تعزِّز الانفتاح على الآخرين، وعلى ثقافتهم، وتاريخهم.
رواتب اللاعبين، لعبة الانتقالات، المنافسة بين الأندية… أليست كرة القدم أيضاً مكاناً لاكتشاف اللامساواة، قانون الأقوى والأغنى؟
– بقدر ما هي تجسيدٌ مثالي للعولمة، فإنّ كرة القدم هي أيضاً انعكاس مثالي لعدم المساواة التي تولّدها. وأنا لا أخفي قلقي حيال ذلك. معسكر «أموال كرة القدم» يكتسب أرضية بشكل متزايد. تمتلك الأندية الكبرى اليوم استراتيجيات تطوير جديرة بالشركات متعدّدة الجنسيات الحقيقية، مع المُفردات والأساليب المُناسبة، حيث يصعب أحياناً تحديد أي ارتباط بقيم الرياضة. وصف رئيس ريال مدريد مؤخراً ناديه بأنه «الشركة العالمية الأولى في عالَم كرة القدم». بالطريقة نفسها، ينتشي رئيس نادي تشيلسي الثري بالحديث عن العلامة التجارية وحصة السوق. يصبح اللاعبون أصولاً، والأنصار في موضع المُستهلكين… تجميع أكبر الأندية الأوروبية في مجموعة 14 ومحاولة تجاوز (الفيفا) يثير قلقي. وبالمثل، فإنّ قانون بوسمان، الذي أصدرته محكمة العدل الأوروبية في عام 1995، الذي ينص على إلغاء كل القيود على انتقال اللاعبين داخل الاتحاد، يشجِّع على سلعنة الرياضة عبر السماح بتركيز المواهب في أغنى الأندية.
هذه المبالغ الطائلة من الأموال التي تُسكب في الملاعب هي بالتأكيد ثمرة النجاح. ولكن يمكن أن تقضي أيضاً على شغف كرة القدم في جميع أنحاء العَالَم. مَنْ الذي سيظلّ مهتمَّاً بالمباراة إذا تمَّ تحديد النتيجة من خلال ميزانية النادي؟ من وجهة النظر هذه، تطرح عولمة كرة القدم تحديداً نفس السؤال الذي تطرحه العولمة نفسها: كيف نعيد خلق الإرادة السياسية للتحكّم في الديناميكيات الاقتصادية؟ كيف يمكننا صياغة القواعد للتوفيق بين الكفاءة واحترام قيمنا؟
في الوقت الحالي، رغم هذه التجاوزات، تظلّ كرة القدم أحد المساحات المُميّزة للديموقراطية. إنها توفِّر فرصاً للاندماج والتقدُّم الاجتماعي لا نجد لها مثيلاً في فضاءات المُجتمع الأخرى. كرة القدم تسمح لنا بأنْ نصبح ما نحن عليه لا ما نشأنا عليه!
حوار: ساندرين تولوتي
المصدر:
https://www.scienceshumaines.com/la-planete-football-entretien-avec-pascal-boniface_fr_14616.html