غالب هلسا.. الكتابة بالحُلم

| 01 يوليو 2020 |
مِنَ الحُلم جاءَ غالب هلسا إلى الكتابة، التي انجذبَ، مُنذ الطفولة، إلى أسرارها. ما دوّنَهُ في هذا الانجذاب الطفوليّ الأوّل، الذي يَحتفظُ، دوماً، بغُموضه في حياةِ كلّ كاتب، كان مُستمَدّاً مِمّا رآه في الحُلم قبْل أنْ يَمزجَهُ، في البدْء، برَغبات الطفولة، وبما أمْلتْهُ، في وقت لاحق، مَرجعيّاتُه ومُنطلقاتُهُ الفكريّة ومُيولاتهُ السياسيّة، التي جعَلت الحُلمَ يَكبرُ ويتشعّبُ، ويأخذُ بُعدَه المعرفيّ والفكريّ والإبداعيّ، ويتلوّنُ بملامح تفاعُله مع تعقيدات الحياة، كما جعلتْ هذا الحُلمَ يُضمرُ خيْباته باعتبارها جُزءاً مِن الحياة العربيّة التي انخرطَ غالب هلسا في قضاياها المصيريّة؛ نضالاً وكتابةً، مُنذ خمسينيّات القرن الماضي إلى نهاية الثمانينيّات التي فيها كانت وفاته.
لقد ظلّ الحُلم، حتّى وهو يَبتعدُ عن صُورته الطفوليّة الأولى التي قادَت غالب هلسا إلى الكتابة، نواةً صُلبةً في كلِّ أعماله، وفي تصوّره، بوَجه عامّ، للكتابة بوَصفها مُقاوَمةً مِن أجْل الحُلم. لذلك تنطوي صلةُ الكتابة بالحُلم، في مُمارَسة غالب هلسا الأولى للكتابة، على قوّتها التأويليّة، وعلى ما تُهيّئهُ مِن مُصاحبَةٍ لحُلمِ الكتابة، وهو يَتشكّلُ لديه ويَنمو ويتشعّبُ وَفق الأسُس الفكريّة والنقديّة والإبداعيّة والسياسيّة التي صارَت الرّوافدَ الرئيسَة لتجربةِ غالب هلسا الكتابيّة.
في النصّ الأوّل المُعنوَن «الزير سالم»، من كِتاب «أُدباء علّموني.. أُدباء عرفتهم» لغالب هلسا المنشور بَعد مَوته، بمُبادرة مِن ناهض حتر الذي جمعَ الكتابَ وحقّقه، يقول غالب هلسا وهو يُشدِّدُ على مَصدر الانبثاق الأوّل للكتابة: «بدأتُ مُمارَسة الكتابة وأنا صغيرٌ جدّاً. لا أذكرُ السّنّ بالتحديد، قد تكونُ العاشرة. كنتُ أستيقظُ مُبكّراً جدّاً، قبْل استيقاظ التلاميذ في المَدرسة الداخليّة، وأجلسُ لأكتُبَ أحلامي. كانَت أحلاماً جَميلة، ولكنّني وأنا في داخلها، كنتُ أعرفُ أنّني أحلمُ». لم تكُن الكتابةُ في انبثاقها الأوّل، وهي تتّخذُ مِن الحُلم مادّةً لها، سوى تمديدٍ له، لأنّ غالب هلسا الطّفل لم يكُن يَفصلُ الكتابةَ عن الحُلم الذي قادَهُ إليها. إنّه أمرٌ شديدُ الدّلالة أنْ تتحقّقَ الكتابة، مُنذ صُورَتها الأولى في مُمارَسة هذا الكاتب، مِن قلب التداخُل بين الرّؤى والحُروف، وأن تعملَ، في هذا التحقّق، على توسيع الحُلم، الذي غدا لهُ، لاحقاً، معنى آخَر بَعد أنْ صارَ ما يُشكّلهُ مُستمَدّاً، لدى غالب هلسا، مِن الوقائع الملموسة والصراعات المُعقّدة، ومِن انشغال وُجوديّ بالتغيير وبالتصدّي لِما يَعوقُ الحياة الحُرّة. لقد كان الحُلمُ، وهو ينفصلُ عن مَصدره الأوّل، يتلوّنُ بمُوَجِّهات كتابات غالب هلسا وبنضاله من أجل القضيّة الفلسطينيّة التي جعلها أسَّ هذا الحُلم ومدارَه. إنّ ما لهُ اعتبار، في الإمكان القرائيّ الذي تُهيّئُهُ الطفولةُ لتأويل تشعُّبات المَسار الذي شهدَتهُ حياةُ غالب هلسا، هو أنّ الوَشيجة التي تحقّقَت، في البدْء، بين الحُلم والكتابة بنَتْ، بمَعنى ما، جانباً مِنْ تصوّره للكتابة التي مارَسَها، في مُختلف أطوار هذا المَسار، بوَصفها حُلماً وبناءً لحُلمٍ في الآن ذاته، ما جعلَ الحُلمَ، وهو يَتمدَّدُ في الكتابة وبها، يَتوسَّعُ مُنفصِلاً عن صُورته الأولى، ومُتعدِّداً، في الآن ذاته، مِن حيث دلالته.
لم يكُن تَمكينُ الحُلم مِن الامتداد، عبْر ما تُتيحُهُ الكتابةُ، مُنفصلاً عن الوَجه الآخَر للحُلم، أي عن الخيال، الذي هيّأتْهُ القراءةُ لغالب هلسا في سنّ مُبكّرة. لقد كان خيالُ القراءة في هذه السّنّ، وتشعّباتُ هذا الخيال اعتماداً على ما تُغذّيه الطفولةُ، لقاءً بين الكتابة والقراءة مِن مَوقعِ الحُلم، ذلك أنّ القراءةَ مكّنَتْ هي- أيضاً- مِنْ تمديدِ الحُلم، عبْر ما أتاحتْهُ لغالب هلسا الطفل مِن خيالٍ وتمثّلات واستيهامات. فرُؤى المنام، التي تسلّلَت إلى الكتابة الأولى وشكّلَتْ بَذرةَ مُمارَستِها عند غالب هلسا، تشابَكت مع شُخوص مقروءاته الأولى، التي انفتحَ فيها، مِن بَين ما انفتحَ عليه في الوقت ذاته الذي انجذبَ فيه إلى الكتابة، على روايات الكاتب الفرنسيّ «موريس لوبلان – Maurice leblanc» مُبدع شخصيّة «أرسين لوبين – Arsène lupin»، وعلى روايات «روبير لويس ستيفنسن»، وحكايات «ألف ليلة وليلة». هكذا اضطلعَت القراءةُ، التي باشرَها غالب هلسا هي- أيضاً- في سنّ مُبكرة، بتأمين امتدادِ الحُلم وَفق ما تَهَبُهُ القراءةُ في الطفولة مِن أخْيلةٍ شبيهةٍ بما يَحصلُ في المنام، ووفق ما يُتيحُهُ هذا المقروءُ القائمُ أساساً على الخيال والإمكان والاحتمال. ثمّة في لقاء غالب هلسا الأوّل مع الكتابة والقراءة، تشابكٌ دالٌّ بين الحُلم والخَيال، على نحو مكّنَهُ فيما بَعد مِن تحصين رُؤيته للواقع مِن كلِّ تضييق، بل إنّ التشعّبَ الذي شهدَهُ هذا التشابُك مُضيءٌ لقُدرةِ غالب هلسا على الجَمْع بين النضال والكتابة دون أن يُحوِّلَ الثانية إلى مُجرّد أداة، إذ ظلّ، في الغالب العامّ، يُحصِّنها بمُتطلّباتها المعرفيّة، وبما يَستلزمهُ سُؤالُ الشّكل فيها من أساس نظريّ، وبما يَحتاجهُ النقد الذي يُغذّيها مِنْ خلفيّة فكريّة؛ فليس سَهلاً، من الناحية المعرفيّة والإبداعيّة، على أيِّ كاتب أنْ يُؤاخي بين النضال والكتابة ويؤالفَ بينهما، دون أن تتحوّلَ الثانية، في مُنجزه، إلى مُجرّد أداة.
إنّ ملامحَ التكوين الثقافيّ الأوّل في طفولة غالب هلسا يَسمحُ باستثمار أمرَيْن في تأويل مَساره؛ وهو نفسه كان يُولي طفولةَ الكتّاب أهمّية في القراءات التي أنجزَها عن بَعضهم، ويُولي- أيضاً- طفولتَهُ الشخصيّة اهتماماً بالغاً انطلاقاً مِنْ حرصه على استحضارها في تأمّلاته وفي رواياته. أوّل هذيْن الأمرَيْن، المَجيء إلى الكتابة من الحُلم، أي المَجيء إليها من منطقة لا حَدَّ لاتّساعها، على نحو منذور لأنْ يَجعلَ مَنْ كانَ الحُلمُ نواةَ كتابته طَموحاً ومُتطلِّباً، ويجعلَ، في الآن ذاته، علاقتَهُ بالواقع دائمةَ التوتّر والمُساءلة، ومحكومة، في الآن ذاته، بالرّغبة في الاستشراف والتغيير، وهو ما انطوَت عليه، بوَجه عامّ، حياةُ غالب هلسا وكتاباتُه وسجالاته. ثاني الأمريْن، قراءةُ الخيال الإبداعيّ على أنّه واقعٌ حيّ والتفاعُل معه، في القراءة الطفوليّة، على أنّهُ فعـــلاً كذلك، وقد حكى غالب هلسا، لمّا استحضرَ قراءاتهِ الطفوليّة الأولى، في بداية كتابه «أُدباء علّموني.. أُدباء عرفتهم»، أنّهُ لمْ يَستَوعب إطلاقاً أن تكون شخصيّة «أرسين لوبين» خياليّة، بَعد أنْ تماهَى مع مُغامَراتها. لقد أتاحَت لهُ هذه القراءة الطفوليّة رُؤيةً حيَويّةً كان لها امتدادُها الخفيّ في مُقاربَته للأشياء، وهي الرؤية التي تحقّقَت له مِنْ طريقةِ فَهْمه الأوّل لسيرة «الزير سالم» ولحكايات «ألف ليلة وليلة»، إذ فهمَها انطلاقاً ممّا كان يَعيشهُ في حياته اليوميّة، أي انطلاقاً من واقعه؛ بما هيّأ لهُ التفاعُلَ مع الشخوص بانفصالٍ تامّ عن السياق التاريخيّ، على نحو لا يُمْكنُ إلّا أنْ يقودَ إلى خَلْطِ الأزمنة والأمكنة، ويَمنحَ الخيالَ اتساعاً يجعلُ التاريخَ حاضراً في اليَوميّ.
لعلَّ هذا التشبُّعَ الأوّل بالخيال، والتماهي معه على أنّه واقعٌ حيّ، هو ما احتفظَ بوَجه خاصّ لعلاقةِ الكتابة الإبداعيّة بمَوضوعاتها، في مسار غالب هلسا، بالانفتاح الذي أمّنَ للخيال حصّتَهُ في فهْم الواقع مِن أمكنة مُختلفة، وإلّا لِمَ انشدّ غالب هلسا إلى الكتابة الروائيّة؟. يقولُ عن قراءاته الطفوليّة التي كانت تتمُّ دُون التقيُّد بسياق الأحداث والوقائع: «رُبّما كانت تلك ميزةُ فُقدان السياق التاريخيّ؛ إذ يَنطلقُ الخيالُ دُون حُدود، ونعيش التاريخَ بكلّ تحيّزاته ومآسيه كأنّهُ تحقّقَ «الآن وهُنا»». لابدّ من التشديد على حيَويّة هذه الطريقة الأولى في اللقاء المُبكّر مع القراءة لدى كاتب صارَ السياق التاريخيّ، لاحقاً، مفهوماً مَركزيّاً في قراءاته ودراساته وتآويله، انسجاماً مع مرجعيته التي أمْلَت عليه أنْ يُوليَ اهتماماً منهجيّاً للسياق التاريخيّ والاجتماعيّ، وأن يستندَ إلى مفهوم الصراع الطبقيّ في تفسير الظواهر. لقد كانت القراءةُ من خارج السياق، التي ترتّبَت على خيال الطفولة وعلى نمط النصوص التي تَهيّأ للطفل الاطّلاع عليها، تحصيناً صامتاً للقراءات والدراسات اللاحقة، وهي تتّخذُ من السياق مفهوماً رَئيساً في التحليل والتأويل، مِن كلّ ضيق أو انغلاق. تحصينٌ يَصعبُ تحديدُ تجلّياته في كتابة غالب هلسا، غير أنّ قارئ أعماله باختلاف حُقولها المعرفيّة يلمسُ ظلالَ هذا التحصين سارياً في كتابةٍ لم تتخلّ عن إدماج السؤال في تآويلها وعن الاستناد إلى المعرفة، إدراكاً منها باتّساع الاحتمال وبنسبيّة الأشياء. وقد أشار غالب هلسا نفسهُ إلى أنّ التداخل بين الواقعيّ والخياليّ لازَمَ رُؤيتَهُ للوقائع والأحداث، إذ يقول في سياق حديثه، ضمن نصّ «الزير سالم»، عن هذا التداخل الذي تحقّقَ له في قراءته الطفوليّة: «مُنذ تلك اللحظة وحتّى الآن وأنا أعيش ذلك اللَّبْس بين الواقع وإمكاناته الخياليّة. الواقع يُخفي سرّاً على الدوام، وهو ما يَجعلهُ مُتأهِّباً، في كلّ لحظة، لأنْ يكشفَ عن عالمه السّريّ الغرائبيّ».
كان الحُلمُ الذي قادَ غالب هلسا إلى الكتابة حيَويّاً، وهو يتغذّى في البَدء بالخيال القرائيّ، لكنّه لم يبْقَ حُلماً طفوليّاً، إذ أخذ، فيما بَعد، مَنحييْن مُتداخليْن. في المَنحى الأوّل، عملَ غالب هلسا على أنْ يجعلَ الحُلمَ خليقاً بالانتساب إلى الكتابة، وحَرصَ، في المَنحى الثاني، على أن يَستنبتَ الوشائجَ التي تَصِلُ الحُلمَ بالرّؤية التي تبنّاها، وَفق قناعاته الفكريّة والسياسيّة، في التحليل والمُساءلة والاستشراف. كان غالب هلسا واعياً أنّ الانتسابَ إلى الكتابة لا ينفصلُ إطلاقاً عن إدمان القراءة، لأنّ بها يتّسِعُ هذا الحُلمُ، وبها يُسائلُ دلالتَه ويُجدِّدُها على مُستوَييْن؛ مُستوى جعْل الحُلم في الكتابة ذا سَنَدٍ معرفيّ، أي مُرتبطاً بما أرْسَتْهُ الكتاباتُ التي راهنَتْ على الحُلم، ومُستوى بناءِ الحُلم اعتماداً على تحليل علميّ للواقع، وعلى مُساءلةٍ مُتجدّدة لسَيرورة الأحداث العالميّة والعربيّة. بشأن المُستوى الأوّل، مثلاً، يقولُ غالب هلسا في سياق حديثه عن تشعُّب عوالمِ حُلمه الأوّل الذي قادَه إلى الكتابة: «حين قرأتُ كافكا، فيما بَعد، انفجرَت عوالمُ الحُلم في داخلي، ولهذا كنتُ أفهمُ جيّداً عبارة ألبير كامو: «كافكا دائماً بإزائي». هكذا صارَ الحُلمُ في الكتابة، مثلما صارَت الكتابةُ بالحُلم، جُزءاً من حُلم أكبر؛ هو السَّعي إلى امتلاك تقنيات الكتابة الأدبيّة، والتمرُّس على عناصر بناء الشكل الكتابيّ، والتمكّن من الصّوغ الجَماليّ. وهو ما أدركهُ غالب هلسا، من داخل انشغاله بالقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، وحرَصَ على تعلّمه وتَطويره. تبدّى هذا الحرص من مقروئه، بوَجه عامّ، وهو ما صرّحَ به لمّا تساءلَ عن الغاية من حديثه عمّن علّمهُ مِنَ الأدباء الأجانب والعرب، إذ أجاب بما يُفيدُ وعيَهُ بمُتطلّبات الكتابة، وبمُتطلّبات الرُّؤية التي تَبْنيها الكتابة، قائلاً: «لقد علّموني كيف أرَى العالمَ مِنْ حولي بشكل جديد، وكيف أضَعهُ في سياق العمل الروائيّ، بمعنى أنّني لولاهم لمَا أصبحتُ كاتباً». بقراءة أعمال هؤلاء الأدباء، تحقّق حُلمُ الكتابة بَعد أنْ كانت الكتابة، في البَدء، مُحاولةً لتمديد حُلمِ المنام. فحُلمُ الكتابة تسنّى لغالب هلسا، كما يُصرِّحُ هو نفسهُ، في حديثه عن الأدباء الأجانب والعَرب في الكتاب المُشار إليه سابقاً، ممّا تعلّمَهُ من «هيمينغواي»، بشأن علاقة الأدب بالواقع، وبشأن مُتطلّبات البناء الروائيّ، وأهمّية تكثيف اللغة عبْر الإيجاز والتركيز، وممّا تعلّمَهُ مِن «دوس باسوس»، على مُستوى الشكل الكتابيّ، ومن «فوكنر» في استعادةِ الحياة الخاصّة، وإعادة صَوغ تجارب الطفولة. غير أنّ هذا المَنحى في الكتابة، الذي يفرضُ الالتزامَ بتقنيات بناء الشكل، لم يكُن ليُشفي، تماماً، حاجة غالب هلسا إلى تصريف مواقفه ورُؤاه المُستمدّة من نضاله العمليّ، ومن انخراطه في الثورة الفلسطينيّة. لذلك ظلّت كتاباتهُ السياسيّة والصحافيّة تُحقِّقُ لهُ ما لا يَتمُّ بالوَتيرة ذاتها في الكتابة الإبداعيّة، التي يَحتفظ زمنُها وعناصرُ بنائها على ما تختلفُ به هذه الكتابة عن المُتابَعة الصحافيّة والسياسيّة.
في كتابة غالب هلسا الصحافيّة والسياسيّة، تبدّى الحُلمُ بوصفه مُقاوَمةً على جبهات عديدة، وبوَصفه- أيضاً- استيعاباً للخَيبات والانكسارات. لعلّ ذلك ما يُستشفُّ من مقالاته عن القضية الفلسطينيّة التي كانت امتداداً لنضاله في المَيدان. مقالاتٌ كان ينشرُها في صُحف ومجلات مُختلفة، وهي التي جمعَ بعضَها- أيضاً- ناهض حتر، بَعد موت غالب هلسا، في كتاب اختارَ لهُ اسماً دالاًّ، استمدَّهُ من عُنوان إحدى المقالات التي سمّاها غالب هلسا «اختيار النهاية الحزينة»، وهو عنوانٌ يَعكسُ نهاية حُلم آمَنَ به. في هذا الكتاب، يَرتسمُ تصوّرُ غالب هلسا للقضية الفلسطينيّة ولتعقّداتها الداخليّة والخارجيّة، ويتكشّفُ وجهُ هلسا المناضل والسياسيّ والصحافيّ. فقد انبنَت مقالات الكتاب على نقد شديد للسياسة الفلسطينيّة، وفي ثنايا هذا النقد وتقويةً له، قاربَ هلسا مفهوم الثورة، والسلطة، والمُثقَّف، وشِبه المُثقَّف، والصراع الطبقيّ، وغيرها من المفاهيم التي كانت موضوع صراع زَمنئذ، كما كشفَ عن إيمانه بمُقاوَمة الكادحين، وبمُقاومة المُخيّمات، وبمُنظمة «فتح – الانتفاضة» التي انتمَى إليها، وراهنَ عليها قبل أنْ يُعلن مَوقفهُ ممّا سمّاهُ «نهايتها الحزينة».
وبالجُملة، لقد مارس غالب هلسا الكتابة، بوصفها مُقاومةً غيرَ منفصلةٍ عن حُلم شاسع، مِن مواقعَ مُختلفة، واحتفظ لتحقّقاتها، حتى في صُورتها الصحافيّة والسياسيّة، بسنَدها المعرفيّ والفكريّ. ذلك أنّ غالب هلسا لم يكُن يتردّد حتى في تناوُله لموضوعاته السياسيّة عن إدماج صَوت الفلسفة والفكر والأدب في استجلاء المعنى وبناء المَوقف. ومن ثمّ، تتطلّبُ قراءةُ أعماله ودراستُها الحفرَ، في تعدّدها وتنوّعها، عن الخيوط التي تُعيدُ بناءَ الحُلم الذي صبَا إليه، انطلاقاً من إضاءةِ ما يَصلُ الكلمة بالفِعل عنده، وما يَصلُ الفكر، والنقد، والإبداع بالحياة في أشدّ تفاصيلها تعقّداً.