غالب هلسا.. سرديّة المغترب الأبدي

| 01 يوليو 2020 |
في وسط البلد، في ستّينيّات القاهرة وسبيعينيّاتها، حيث كان العالم أكثر رحابة واستيعاباً للاختلاف والتنوّع الثقافي، التقى غالب هلسا بكلّ من يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، وعبد الحكيم قاسم، وبهاء طاهر، وعبد الرحمن الأبنودي، وأبو المعاطي أبو النجا، وعلاء الديب، وسليمان فياض، وعبد المحسن طه بدر وغيرهم الكثير من كُتَّاب تلك الحقبة التي كانت محتشدة بروائيين، وشعراء، ونقَّاد، ومفكِّرين، ومترجمين، وصحافيين من طراز متفرّد، كما كانت محتشدة- أيضاً- في الوقت ذاته، بشعارات السرديّات الكبرى والأحلام الثورية التي تترقّب عالماً أكثر عدلاً وأكثر حرية.
– 1 –
عندما أفكّر في غالب هلسا (1932 – 1989)، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو عبد الرحمن منيف، أو أهداف سويف، أو ليلى أبو العلا، أو من شابههم، أجدني أتساءل بالضرورة: هل يمكن للكاتب العربيّ، أي كاتب، اختيار الهويّة التي ينطلق من مرجعيّاتها في تأسيس نصوصه وعوالمه الإبداعية؟ أم أنه لا سبيل للكاتب، أي كاتب، لممارسة أي درجة من درجات الاختيار عندما نفكّر في «الهويّة». فالهويّة كما يتصوّرها الكثيرون بعيدة كلّ البعد عن مجرَّد اختيار من بين بدائل مطروحة. الهويّة قدَر لا فكاك منه، يُشبه علاقتنا بأعراقنا التي ننتسب إليها، ولغتنا الأم التي نتحدَّث ونتواصل بها. من زاوية أخرى، ثمّة سؤال سوف تصوغه هذه المقدمة (المنطقية) يتمثَّل في طبيعة المنظور الذي تنظر منه شريحة بعينها من الكُتَّاب والفنَّانين إلى علاقة الأنا بالآخر، وقضايا الهويّة والوجود، وسبل التفاعل بين الثقافات والهويّات. أقصد، على وجه التحديد، مجموعة الكتَّاب المنفيّين أو المغتربين طوعاً أو قسراً (على اختلاف المساحات المفهومية بين المنفى والغربة والاغتراب من ناحية، أو اختلاف المساحة التمثيلية- أيضاً- بين المنفيّين والمغتربين واللاجئين والمنبوذين، أو اختلاف حالات نزوحهم، وقدرة كلّ منهم على التعايش مع الأوطان البديلة التي وضعتهم فيها أنظمة سياسية قمعية، أو ظروف اجتماعية، أو اقتصادية طاردة في أحسن الأحوال وأسوئها). في كتابه (صور المثقَّف: محاضرات ريث سنة 1993) يصف إدوارد سعيد «المَنْفَى» كأحد أكثر الأقدار مدعاةً للكآبة. وفي أزمنة ما قبل العصر الحديث كان الإبعاد عقاباً مرعباً؛ لأنه لم يكن يعني، فقط، أعواماً يعيشها الإنسان تائهاً دون هدف، بعيداً عن الأسرة وعن الأماكن المألوفة، بل يعني- أيضاً- كما يقول سعيد: أن يكون أشبه بمنبوذ دائم، لا يشعر، أبداً، كأنه بين أهله وخلّانه، لا يتفق البتّة مع محيطه، لا يتعزّى عن الماضي، ولا يذيقه الحاضر والمستقبل إلّا طعم المرارة. فالمنْفِيّ يعيش حالة وسطى، لا ينسجم، تماماً، مع المحيط الجديد، ولا يتخلّص كلياً من عبء البيئة الماضية، تضايقه أنصاف الحلول، و«هو نوسْتَلْجِيّ وعاطفي من ناحية، ومقلِّد حاذق أو منبوذ لا يعلم به أحدٌ، من ناحية أخرى». ما يريد إدوارد سعيد التأكيد عليه هنا هو أن تجربة النفي تُلقِي بظلالها على الإنسان المنْفِيّ، من حيث هو كائن منبوذ، دائماً، يحيا في زمان ومكان غريبين عنه، وإلى جوار بشر آخرين يلفظونه ولا يألفهم.
لكنّ الواقع العربي المعيش يقول إن ثمة كُتَّاباً بأعينهم اختاروا أوطاناً أخرى، أو مجتمعات بديلة، اندمجوا فيها دون إحساس بالنفي المباشر، ولم تعبّر مرويّاتهم عن المنفَى بتمثيلاته السياسية المباشرة، بل راحت تقدّم وجوهاً شتّى للاغتراب المكاني أو الوجودي، إلى جوار تمثيلات سردية وثقافية أخرى مثل أغلب نصوص غالب هلسا، وأهداف سويف، مثلاً، في روايتيها «في عين الشمس – In the Eye of the Sun» و«خارطة الحب – The Map of Love»، وغيرهما من الكتّاب والأدباء. لذا، فقد استطاع غالب هلسا أن يخلق ما أطلق عليه فخري صالح اسم «الجغرافيا التخيّلية» لرواياته وقصصه خلال تلك الحقبة الزمنية التي عمل فيها في كلّ من وكالة أنباء الصين الجديدة، ثمَّ وكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية لفترة تتجاوز الستة عشر عاماً، مشاركاً بفاعلية في الحياة الثقافية المصرية إلى أن أُبعِد من القاهرة بأمر من السادات في نهاية السبعينيات، مغادراً إلى بغداد ثمَّ إلى بيروت، وبعدها دمشق. ويمكن للباحث أو للناقد المعنِيّ بسردية هلسا الرجوع إلى رواياته وقصصه القصيرة، وفحصها وفق هذا المنظور الذي قد يفسِّر لنا الكيفية التي استطاع بها غالب هلسا تشييد «جغرافيا بديلة»؛ هي مزيج من صور القاهرة، وبغداد، وعمّان، وبيروت وغيرها من المدن العربيّة التي أقام فيها أو تَنَقَّل بينها.
– 2 –
تتنوّع نصوص غالب هلسا ما بين القصص القصيرة، والروايات، والنصوص الفكرية، والترجمات الأدبية والثقافية، لكن تظلّ بعض قصصه ورواياته مثل «وديع والقديسة ميلادة»، و«الضحك»، و«الخماسين»، و«ثلاثة وجوه لبغداد»، و«سلطانة»، و«الروائيون»، وترجمته لكتاب جاستون باشلار «جماليات المكان»، على وجه التحديد، هي أكثر نصوصه تردّداً بين القرّاء والباحثين العرب، بصفة عامّة، والمصريين، بصفة خاصّة. وأقصد بالمصريين، هنا، مجُايلة غالب هلسا لعدد كبير من المثقَّفين والكتَّاب والصحافيين المصريين في حقبتي الستينيات والسبعينيات ممّن أسهموا بحديثهم الدائم عنه، حتى بعد وفاته بسنوات، سواء في شكل أحاديث ومرويّات شفاهية على المقاهي وأروقة الندوات القاهرية، أو في شكل حوارات صحافية منشورة بالصحافية المصرية والعربيّة، في ذيوع اسمه روائياً كبيراً، ومترجماً، ومثقَّفاً بارزاً. من بين هذه المتابعات النقدية ملف خاص أصدرته مجلّة «فصول» بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، ضمن ملفات عدد «زمن الرواية» (المجلد الثاني عشر، العدد الأول، ربيع 1993) ضمّ خمس مقالات نوعية لكلّ من: علاء الديب «شموع من أجل غالب هلسا»، وسليمان فياض «المغترب الأبدي»، ومحمد برادة «غالب هلسا، حضور متجدّد»، وإدوار الخراط «ثلاثة وجوه لغالب هلسا روائياً»، وعلي جعفر العلّاق «الروائي ناقداً: دراسة في نقد غالب هلسا».
في سياق الحديث عن دائرة التلقّي المصري لأدب غالب هلسا وإنتاجه المتنوّع، يمكن القول إنه لم يكن روائياً أو كاتب قصّة قصيرة عابراً، بل كان من ذلك النمط من المثقَّفين المنخرطين في قضايا واقعهم من المحيط إلى الخليج، المنشغلين بعوالم السياسة والثقافة والفكر والاقتصاد والاجتماع، بحيث تُشكِّل رؤيته لقضايا عصره «رؤية للعالم» بمفهوم لوسيان جولدمان، وهي رؤية تطمح إلى تحديث المجتمعات العربيّة ككلّ، لا إلى تحديث الثقافة وحدها، أو تطوير الأشكال والأجناس الإبداعية؛ لذا، فإن غالب هلسا كاتب متعدّد الوجوه والصور، مؤثّر في محيط ثقافته العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين. وتلك شريحة من الكُتَّاب تستحق مواصلة النظر في منجزها الإبداعي والنقدي والفكري مهما تباعدت عنا في الزمان، أو تباعدنا نحن عنها.
ثمّة ملامح متعدّدة يمكن من خلالها النظر إلى تجربة هلسا القصصية، بيد أن الملمح الأكثر بروزاً هو قدرة غالب على «تذويت الكتابة» (بمصطلح محمد برادة) في وقت باكر، ربّما لم يسبقه إليه الكثيرون من الكُتَّاب العرب نظراً لقراءاته المنتظمة في اللغة الإنجليزية في تلك الفترة، جنباً إلى جنب ارتياده الكثير من الموضوعات غير المألوفة والإسهام في تطوير تقنيات السرد والتركيب الفنّي. من ناحية أخرى، يمكن رصد بعض الملامح الأخرى من قبيل شيوع ثيمة «الاغتراب» الأبديّ، وتشابه رواة قصصه ونصوصه، كأنناً بصدد عالم سردي واحد مُمتد في الزمان والمكان. وهذا أمر يمكن أن نلمحه في رواية «ثلاثة وجوه لبغداد»، على وجه التمثيل لا الحصر، حيث نعثر على غالب الروائي والمرويّ والمرويّ عنه، في آن، كما نعثر على بلاغة النصّ «الجروتسكي» المشبّع بمستويات الشبق، وعذابات السجن، وقلق الهويّات الحائرة؛ كما في روايته «الروائيون» التي تنتهي باختيار الموت بديلاً عن حيوات أخرى محتملة.
– 3 –
ينتسب غالب هلسا، الروائي والقاصّ، والمثقَّف الأردني الجنسية، إلى مرجعية الثقافة المصرية أكثر مما ينتسب إلى وطنه الأول (الأردن)؛ ربما لأسباب عدّة تتصل بأنماط شخصياته الروائية المتخيّلة، وطبيعة الجغرافيا، والمرجعيات الثقافية التي تتحرّك في حدودها، وكلها ملامح وفضاءات سياسية واجتماعية وثقافية قاهرية، على وجه الخصوص، تُحيل إلى زمكان الستّينيات والسبعينيات من القرن العشرين. لقد كان غالب يكتب عن القاهرة، ويبني عوالمه القصصية من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمّشين في معظم الأحيان، لا على طريقة نجيب محفوظ، أو جمال الغيطاني، أو غيرهما، بل من معايشته هو للمكان وللبشر، ومن حوارات كثيرة دارت بينه وبين رفقائه من المنتمين إلى اليسار المصري، مازجاً ذلك كله باسترجاعات شخصية «غالب»، أو «خالد» الذي يظهر، فجأة، ليحتلّ دور الراوي في الروايات بحيث تتصفّى من خلال وعيه المرآوي العاكس رؤى متعدّدة، تنتجها الشخصيات بدلالاتها الرمزية والواقعية في آن. من هنا، يبدو غالب مسكوناً بالحياة الثقافية والسياسية المصرية في فترة معقّدة من تاريخ العلاقة بين اليسار المصري والحكم الناصري في خمسينيات القرن الماضي وستّينياته. وهكذا، تتحرك مدينة السرد لدى غالب- وهي تعادل «مدينة المتاهة»- في المساحة بين الفضاء المديني الصاخب والمكان الريفي البسيط؛ لأن غالب المؤلّف والفنَّان كان يمتاح صوره وتمثيلاته من شخصيات زملائه وأنماط أصدقائه المصريين الذين كانوا يفدون على شقّته في «وسط البلد» يوماً بعد يوم. هكذا يقول عنه علاء الديب:
«في أواخر الخمسينيات، كنتُ في العشرين من عمري، هو يكبرني بسنوات. أكاد أبدأ كلّ شيء. هو قادم من وراء البحر، وحيد في القاهرة بلا عائلة. يُنهي دراسته في الجامعة الأميركية، ويعمل بالترجمة. حياته عريضة، المدينة، والشارع، والمقهى. الكلّ له أصدقاء. سعيد، جميل، ساخر، سياسي، مثقف، كاتب قبل كلّ شيء. رغم «أردنيّته» يسبح هنا في مياه مألوفة، يحبّها، وتحبّه». (مجلة «فصول»، المجلد الثاني عشر، العدد الأول، ربيع 1993).