غالب هلسا.. من رواية اليقظة إلى رواية الأفول

فيصل درّاج  |  01 يوليو 2020  |  

بعد أن أنجز هلسا أعمالاً روائية متميّزة، احتضنت «الضحك، والخماسين، وثلاثة وجوه لبغداد»، استعاد شبابه الأوّل والزمن الذي سبقه في روايته الأكثر اكتمالاً: «سلطانة»، حيث تحضر الطفولة، والصبا، وأطياف غائمة وأخرى أكثر وضوحاً. كما لو كان ادّخر خبرة كتابية؛ لتنقل مرحلة أثيرة لديه.

تدور «سلطانة» حول امراة أشبه بالحلم، تسير ناظرة إلى السماء، تُلزم الناظر إليها بتجربة عشق فريدة، تلازمه حياته كلّها. جمع الروائي بين زمن البراءة الأولى، الذي يتطيّر من الدنس، والأنثى الأصل ذات الجمال النموذجي، الذي يمسّه الزمن ولا يغيّر فيه شيئاً حال عاشقها الذي يمرّ على مدن عديدة، ويستبقي عشقه بلا تبديل. ومع أن صورة المعشوقة يمكن أن تغفو، فهي تستيقظ بلا نقص، كلما لمح «أسيرها» قامة، وكأنها التبست بموقع الطفولة، والميلاد، والدفء الأمومي، وفضول التعرّف على العالم.

أنتج هلسا في «سلطانة» أنثى ملتبسة، حملت رغبات الطفل الذي كانه، وأحلام الشاب الذي سيكونه، وصور بلدته «معين» التي كانت مفعمة بالنقاء ذات مرّة. أدرج الروائي في «حكايته الكبرى» تصوّراً رومانسياً؛ يمزج الأنثى والأصل بسحر غامض لا يزول، وتصوّراً واقعياً عرفها واستنشق اسمها، وسار وراءها في أكثر من مكان ومدينة. وواقع الأمر أن الأنثى الفريدة تنوس بين الفتاة الرهيفة الأركان، وشخصية الأمّ التي تقبع في اللاوعي أمّاً وأنثى معاً، بل أن «سلطانة»، في وجهيها المتعارضين المتكاملين، هي التي وضعت، في روايات غالب هلسا، حضوراً أنثوياً دائماً، يواجه به المغترب اغترابه، ويتكئ عليه الروائي المغترب؛ ليتحمّل الغربة وشقاء الوجود. يصف السارد المرأة التي أرضعته أثناء مرض أمّه: «آمنة في الذاكرة، صاغت رؤيتي للنساء، وأعادت إنتاجها في كلّ مرحلة من مراحل العمر. هي وسلطانة حلم القرية الشبقي السريّ، الملعون، الفاجع، الممنوح، والمستحيل معاً..».

تعيّن «سلطانة»، في حضورها المهيمن المستمر، ساردَها، أي غالب هلسا، شخصية رومانسية تتوالد منها أنثى متعالية، وفضاءً كثيفاً يجمع بين الذكر والأنثى والسياسة، يتكشف، دائماً، في شخصيات مشتقة منه، كما هو الحال في «نادية» الرهيفة المتمردة في رواية غالب الأولى: الضحك. ومع أن في الإنسان الرومانسي ميلاً إلى «ابتداع شخوصه» كي تكون صورة عنه، فإن «سلطانة» قلبت الصيغة، وعيّنت ذاتها صانعة لغالب إنساناً وروائياً معاً.

ولعلّ العلاقة الغامضة الواضحة بين غالب وأنثاه القروية الجميلة هي التي قرَّرت «الاغتراب» موضوعاً مستمراً في رواياته جميعاً، سواء كان ذلك في «الضحك، وثلاثة وجوه لبغداد»، أو في عمله الصغير الكبير «الخماسين» الذي رجم القهر البوليسي، واستنجد بالسماء سائلاً الرحمة. والاغتراب، نظرياً، أن ينقسم الإنسان وأن يكون نصفه خارجه، وأن ينتظر لحظة لا تناقض فيها، تُعيد إليه طبيعته الأولى. وطبيعة غالب الأولى نقاء الريف، ودفء الأمّ، والكتب المتحاورة التي تحدثت عن العاشقة الخائبة «مدام بوفاري، ومرتفعات وذرنج في حديثها الواسع عن الحب الآسر، والشر، وآلام فيرتر التي تمزج الحب بالعذاب»، كما جاء في رواية «سلطانة».

تتراءى «سلطانة» مجازاً جمالياً دينامياً يخترق الأزمنة، ملبيّاً رغبات فردية توحد بين الأنا والمجموع. لن تكون أنثى غالب، والحالة هذه، إلا ثورة عارمة مشتهاة، تحقق العدل والحرّية، تشتعل وتخبو وتقترب وتبتعد وتظل، دائماً، ماثلة في الأفق. ولن تكون إلّا الرواية التي حلُم بكتابتها، وهو المثقَّف النقي الحالم بعالم لا اغتراب فيه. فكلّ مثقَّف ينزع إلى العدل يحمل في أعماقه رواية، يكبتها وتظل غائبة، أو يُفرج عنها وتُصبح قابلة للقراءة.

إذا كان في المثقَّف الحالم رواية تؤرقه، ففي المثقَّف الذي غادره الحلم رؤية أخرى تشيّع أحلامه. لذا تناول غالب في آخر رواياته: «الروائيون» 1989 أحلاماً أصابها العطب قبل أن تعصف بها الريح. عاد إلى «قاهرة» ما قبل حرب يونيو/حزيران 1967 وبعدها. كان الكاتب، في زمن الكتابة في أواخر كهولته، ورغبات الشباب كساها الرماد. عاد إلى الماضي، وترك الحاضر المكشوف التداعي، وسرد حكاية عن ماضٍ مريض، تأجلّ الإعلان عنه، حتى سقط عارياً.

بعيداً عن «سلطانة» التي جمالها يوقظ الوجود، وضع غالب في «الروائيون» موتاً صريحاً وخطاباً أيديولوجياً، له شكل الحكاية. سرد مآل نخبة «ثورية» مصرية، لم تعرف الفرق بين الشعارات البسيطة وإمكانيات العدالة المعقّدة. بنى فضاءً روائياً قاتماً يُعبّر عن غروب فترة بدت مشرقة، ويُعبّر، أكثر، عن عالم الروائي الذهني في مدينة دمشق، التي لا يعرفها، وتختلف عن مدينة عشقها طيلة حياته هي: القاهرة. ولمّا كانت «سلطانة» مقياس الأزمنة السعيدة، استعاض عنها في «الروائيون» بأنثى تغايرها شكلاً وسلوكاً، فيها خفة تقترب من الانحلال. يغيب، في الفضاء القاتم، حضور «الأم»، ولا تتبقى منها إلّا إشارات سريعة ماضية: «منذ زمن بعيد لم يعد يتذكّرها، فما الذي جاء بها صارمة، تحمل إليه اللوم والإدانة؟». يشهد حضور الأمّ الرحيمة على سوء الأزمنة، ويعلن لومها عن زمن لم يشأ ابنها الوصول إليه. تتراءى في «الروائيون» سيرة ذاتية منقوصة مليئة بالشجن. فبعد البلدة الأردنية البعيدة التي شاهدت طفولته، تحضر مدينة كأنها منفى، وبعد الأنثى التي تغسل الروح تأتي أخرى لا ملامح لها، بقدر ما يغيب زمن الفضول المعرفي الذي يسائل العالم، وتهيمن تساؤلات ذاتية تطرد اليقين، ولا تقول شيئاً عن المستقبل.

في زمن «سلطانة» كان غالب يلغي المسافة بين البطل الروائي ورسالة المثقَّف التي تلازمه، وفي زمن الكهولة المتأخّرة غدا المثقَّف، صاحب الرسالة، كالوجود كلّه، موضوعاً للمساءلة، أخفق الأول في رسالته، وبدا الثاني شاحباً ماسخ الطعم. لا غرابة أن تصيّر روايته الأخيرة شهادة على مساره ومسار جيل أخطأ ما أراده. ولهذا أنتج، متقصداً، شكلاً فنّيّاً مخلخلاً يتراءى فيه ضياع الحقيقة. اكتفى الروائي، وهو يعاين شخصيات يكتسحها التداعي، بوصف الشخصيات من خارجها، عاشت حالمة، وعرفت السجن، ثم سقطت في الهزيمة.

منذ بداياته الروائية جعل هلسا من الحياة اليومية بطلاً روائياً، وصاغ حواراته قريباً من المعيش المباشر بعيداً عن القاموسي الجامد. جمع بين ما عاش وما كتب، وأعفى اسمه، في معظم رواياته، لبطله الروائي مؤكِّداً أنه يكتب عن ذاته، وهو يكتب عن الحياة، ويسرد وجوه الحياة، ويكون حاضراً فيها. ولعل هذا التصوّر، الذي حافظ عليه طويلاً، هو ما يجعل من موت البطل في «الروائيون» إعلاناً واعياً، أو بلا وعي عن العالم الداخلي لغالب في عامه الأخير، ذلك أنه رحل، وبلا مقدِّمات كبيرة، بعد أن أنهى كتابة روايته، المشار إليها، بزمن قصير. تردّد كثيراً، كما يعرف أصدقاؤه في اختيار نهايتها، التي جاءت قاتمة على أية حال، يتوّجها موت لا هروب منه.

لم يتخذّ غالب هلسا من كتابة الرواية مهنةً، أو عملاً منظّماً لا بدّ منه، بقدر ما اختارها نهجاً في الحياة. يطوّرها بثقافته المتطورة، ويتطوّر معها موحداً، بلا انقسام، بين الإنسان العفوي الذي كانه والمحتفظ ببراءة لا تغيب، والمثقَّف المنغمس بالشأن العام والمتابع لحياة البشر، والروائي الذي يجمع مواده السردية من حياته مع آخرين، ويُرسل بها إلى مُتخيّل خصيب، يتحاور فيه المرجعان الداخلي والخارجي. وكان الناقد الأدبي الثقافي المعتمد على معارف راسخة تمتد من الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي إلى روايات فوكنر، وكتابات الألماني ثيودور أدورنو الذي بدأ في قراءته في الطور الأخير من حياته.

قاده اتساقه الفكري إلى دراسات نقدية عن نكوص المثقَّفين وزئبقية مواقفهم، بقدر ما دفعه ارتباطه بالمعيش إلى نقد الروائيين: إبراهيم جبرا، وحنّا مينة. لم يكن ينقد كارهاً، وهو البريء الذي لا يعرف الكراهية، إنما كان ينقد مخلصاً للحياة ولأفكاره، ولمعنى الرواية. 


إشارات:

– غالب هلسا: «سلطانة»، الأعمال الروائية الكاملة، المجلد الثاني، عمّان، دار أزمنة، 2003.

– غالب هلسا: «الروائيون» عمّان، دار أزمنة، 2002.

رابط تحميل العدد كامل

مواضيع مرتبطة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
شربل بكاسيني 07 أكتوبر 2022
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
وائل السمهوري 07 أكتوبر 2022
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
إبراهيم السواعير 07 أكتوبر 2022
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
فراس السيد 07 أكتوبر 2022
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام
ليال المحمد 07 أكتوبر 2022
«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها
خالد بلقاسم 02 يناير 2022
عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام
حوار: خالد بلقاسم 15 ديسمبر 2021
عبد الرّحمن بدوي.. وجه الرّوائي
محمّد صلاح بوشتلّة 06 أكتوبر 2021

مقالات أخرى للكاتب

الملل.. كتلة من ظلام تعاند الحياة
01 يونيو 2020

يقود الإنسان العاقل حياته بوسائل عاقلة تقيه الأذى، ويتصرَّف العقل اللامسؤول بطرائق مغايرة تلحق به ما لا يريد. ويغدو استعمال العقل سؤالاً ضرورياً في أوقات الأزمات حال ما نعيشه اليوم، ويأخذ اسم: (كورونا). يثير هذا المرض الذي يجبر الناس على ملازمة بيوتهم، سؤالاً...

اقرا المزيد
الهلع وتوقُّع الكارثة
13 مايو 2020

لا ينتمي الهلع الذي أثاره «كورونا» إلى ألوان الرعب السابقة. فقد اتخذ لنفسه من البشريّة كلّها مسرحاً، ولم يشر إلى موعد الوصول أو تاريخ المُغادرة، وواجهها ساخراً سافر الغطرسة، مبرهناً أن البشريّة كلّها بأسلحتها وأساطيلها ومخابراتها وجلّاديها ووعّاظها أعجز...

اقرا المزيد