فرانثيسكو برينيس: الشعر هو قول أشياء مؤلمة

| 15 نوفمبر 2020 |
أعلنت جائزة «ثيربانتس» المرموقة، نوبل الأدب الإسباني، فوز الشاعر فرانثيسكو برينيس لعام 2020، عن مسيرته الإبداعية التي استمرَّت على مدار 60 عاماً، أضاف فيها للشعرية الإسبانية، وانتقل فيها من الحسِّية إلى الميتافيزيقا. تبلغ قيمة الجائزة 125 ألف يورو، وتُمنَح عاماً لكاتب من إسبانيا، وعاماً لكاتب من أميركا اللاتينية، لكنها، هذا العام، مُنِحت لكاتب ولشاعر إسبانيّين، لعامَيْن متتاليَيْن.
ينتمي «برينيس» إلى جيل الخمسينات الشعري، وهو الجيل الذي وُلِد في زمن الاضطراب السياسي، وعاش طفولته في الحرب الأهلية (1936 – 1939)، ثم بدأ الكتابة والنشر تحت رقابة الديكتاتورية الفرانكوية. نال الشاعر البالينثي التقدير منذ ديوانه الأوَّل، وفاز بالعديد من الجوائز المهمّة، مثل الجائزة الوطنيّة للأدب، في سنّ مبكِّرة، لذلك لم تكن مفاجأة أن تختاره لجنة جائزة «ثيربانتس» لجائزتها، بل إن الكثيرين رأوا أنها تأخَّرت.
بدأت مسيرتك الشعرية بديوان عن الشيخوخة: «الجمرات» (1960)، ويبدو فيه أن الزمن لا يمرّ. كيف استطعت أن ترتدي ثوب الشيخ وأنت في الثامنة والعشرين، حين نُشر الديوان؟
– في الثامنة والعشرين، نُشر الديوان، لكني كتبته قبلها بعام، بين الصيف والخريف. ينبغي أن أقول إنه ديواني الاستشرافيّ الوحيد: إذا كان الشاعر عرّافاً، فقد تمتَّعت بهذه القدرة في كتابي الأوَّل، فحسب. البطل الشعري، خاصّة في الجزء الأوَّل والأساسي في الديوان، هو رجل عجوز، يعيش وحيداً في البيت الذي أعيش فيه نفسه، منتظراً النهاية. وهذا ما تحقَّق، بالفعل: وصلت وحيداً إلى هذه القرية، إلى هذا البيت، وهو بيت الديوان نفسه، وفيه أنتظر النهاية؛ بهذا المعنى هو كتاب تنبُّؤي، رغم أنه، للمفارقة، كتابي الأوَّل المكتوب وأنا في السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين.
هل كنت تشعر، نفسيّاً، بأنك عجوز؟
– بعيداً عن السنّ، ما كنت أراه هو مصير العزلة الذي كنت أحتاج إلى التعبير عنه شعرياً لتحقيقه، رغم أني لم أقل ذلك في هذا الديوان أو أيّ ديوان آخر؛ لأن الشعر هو كشف معنى الوجود الإنساني، شيء نقف أمامه عمياناً. كلّ شيء، على الأقلّ الأشياء المهمّة، محض لغز، وهذا اللّغز يجبرني على طرح أسئلة أساسية تأتي وتذهب، ثم تعود بشكل موسوس، تقريباً. ولأن هذه الأسئلة، بطريقة أو بأخرى، لم تهجرني، لا أعتقد أن ثمّة تغييراً حدث في شخصيَّتي.
لماذا كتبت كلّ قصائد هذا الديوان بصوت الضمير الثالث؟ هل هي مسألة خجل؟
– أظنّ أننا، في نهاية المطاف، نحكي عن الذات: من منطقة الجسد ومن الروح التي ترافقه. الروح تعيش فيما يعيش الجسد؛ وحين يموت، تموت الروح كذلك. أؤمن بذلك، من وجهة نظري، وهي وجهة لا تؤمن، ولست سعيداً معها، لأن ما نختبره، في النهاية، هو هويَّتنا الذاتية، وهذا ما لا نتمنّى أن نفقده، أبداً: الوعي بالهويّة، الشيء الوحيد الذي نحتفظ به، ما دمنا على وجه الحياة. من ناحية أخرى، حتى وأنا أتكلَّم عن الذات، لم أعتبر أن ذاتي مختلفة عن ذات الآخر، قَطّ؛ إذ إن البشر متشابهون. السحري في الشعر أنه يجعلنا نقبل بشريَّتنا، ونقبل ما نحبّ أن نكونه، بدون أن نحصل عليه. وهكذا، عند قراءة الشعر، نقبل بحقيقتنا وحقيقة الآخر. هذه هي موضوعية الوجود أو جوهر ما هو إنساني؛ لذلك أعتقد أن «الأنا» لا ينبغي أن تبرز كما نفعل: الأهمّ هو «الأنت»، لأنك، بالنسبة إلى الآخر، لست «الأنا» بل «الأنت». أظنّ أن الكتابة بصيغة «أنت» أو «هو» ابتعاد عن الوقوع في فخّ الذات: ليس من أجل الإعلاء من شأنها، ولا الحطّ من شأنها، بل لمعرفتها كما تستحقّ. أعتقد أن الإنسان كائن مذهل، رغم أنه قد يكون عاراً. إمكاناته شبه لا نهائية، بحيث يمكن أن يكون بطلاً أو جباناً.
هل كان لك محاولات شعرية سابقة على ديوانك الأوَّل؟
– لي سوابق شعرية، عندما كنت في الرابعة عشرة، وكانت سنوات تعلُّم. حينئذ، لم يكن ممكناً النشر في مجلّات كالآن، وكنت، حينها، أرتاب فيما أكتب كما أكتب الآن. لكن، نعم.. كان لديّ رغبة في الكتابة، وهذا منحني سحر التقرب لمعرفة الشعر. كنت في الرابعة عشرة تلميذاً مراهقاً، وكنت أتمتَّع بخبرة الإجابة عن الأسئلة بحسب ما درست. كنت أجيب عن أسئلة أعرفها بالقراءة، وبقدر ما أستطيع. لكني، حينها، كنت وسيطاً، وسيطاً بين القراءة وبين خبرتي الشخصية. على سبيل المثال، لو سألوني في الخريف: أين قضيت الإجازة؟، فسوف أقول: على الشاطئ، ثم في الجبل بدايةً من سبتمبر. كنت أحلِّل من تجربتي ذاتها، وأحاول أن أفسِّر لنفسي بأني أحبّ الشاطئ أو الجبل، حيث كنت وحيداً، وأجيب بحسب هذا المنطق. لكن، مع الشعر، حدث شيء سحريّ لأن ما كنت أقوله لم أكن قد قرأته ولا جرَّبته: كان يخرج من داخلي، ولم أكن أعرفه إلّا بكتابته. هذا ما كان يبدو لي، ولا يزال يبدو، سحرياً. أكتب، الآن، كما كنت في الرابعة عشرة؛ لذلك لم أكتب قصيدة معَدَّة سلفاً في رأسي، إنما عاطفة أحتاج إلى اكتشافها عبر الكتابة. يتدخَّل الحدس، وهو الذكاء لا العقل: الذكاء القاتم حيث، عند الكتابة، يأتي ليصحِّح ويوافق بحسب التجربة التأمُّلية. أشطب وأصحِّح في حدود ميلاد القصيدة وشكلها الأوَّل؛ بمعنى أن التأمُّل ليس المكتشف بل المستعمِر: يأتي متأخِّراً. خلال زمن طويل كنت أكتب القصيدة من البداية إلى النهاية، حتى جاءت لحظة محدَّدة، بدأت فيها أكتب القصيدة، تاركاً مناطق أعرف أنها تحتاج إلى مراجعة؛ لأنها، في الكتابة الأولى، بدت أشبه بتقارير. الآن، في كتابي الأخير، أمامي ثلاث أو أربع قصائد للمراجعة. ليس لديّ حماس للمراجعة، لكني أتمنّى أن يتوافر لي الحماس لأنهي الكتاب.
أحياناً، ربَّما من أجل القرّاء السذَّج، يُقال -بإلحاح- إن الذات الشاعرة، التي تتحدَّث في القصيدة شيء، وأن الشاعر، المؤلّف الحقيقي، شيء آخر. ألا تعتقد أن هذا الفصل الذي صنعه المنظّرون والنقّاد أدّى إلى خلق صور شيزوفرينية للشاعر، مع أن الأصدق أن الشاعر شخص طبيعي في قصائده؟
– أنا أعتقد أن الشاعر، حين يكتب يرسم صورة شخصيّة: الدفتر مرآة يطلّ منها الشاعر كما يحدث في الأحلام، فيرى أشخاصاً مجسَّدين، لكن، في هذه اللحظة، تظهر وجوه أخرى. في الشعر، أيضاً، نطلّ على الورق، ونرى أنفسنا، لكن بوجه آخر. في القصيدة تخرج منا أشياء لا نعرفها، وفي المقابل، ثمّة أشياء نعرفها جدّاً، مهمّة ومعروفة، لكنها لا تظهر في القصيدة. الشعر يسحب، من العمق، أشياء يضعها على السطح، فيما يدفن أشياء أخرى.
كيف تعبّر عن الحميمية بهذه الدقّة وهذه الكثافة، مستخدماً لغة طبيعية جدّاً وعارية من كلّ زخرفة؟
– أظنّ أن الشعر الجيّد لم يكن، قطّ، حرفيّاً، رغم أن الحرفيّة قد تظهر -مثلاً- في الشعر السردي. الشعر يختلف عن النثر في كثافته المركَّزة. الشعر نبع الإيحاء والصدى؛ من هنا، تأتي صعوبة قراءته. مَن يقرأ الشعر مِن حرفيَّته لا يجد فيه شيئاً لافتاً، لأن الشعر ليس من أهدافه قول أشياء جديدة، إنما قول أشياء مؤلمة (مؤلمة بعمق أو ممتعة) بالنسبة إلى كلّ الناس، ومن ذلك، على سبيل المثال، الشعر العاطفي. كلّ الناس، تقريباً، شعروا بالحبّ؛ ليس الحبّ الجسدي، فحسب، بل غير الجسدي، أيضاً. مع ذلك، حين يجرِّبه فرد، للمرّة الأولى، لا تفيده تجارب الآخرين. وحين يعيد التجربة بتلك الكثافة، سيتمَّكن من رؤية حجمه. في الشعر، يحدث الشيء نفسه: يتناول موضوعات معتادة عن الحياة والموت والحبّ والألم، لكنه يقول ذلك بطريقة تحرّك مشاعر القارئ، ويتعلَّم من ذلك، أو يعيش التجربة التي لم يعشها؛ لذلك لا أظنّ أن الشعر يجب أن يقول أشياء جديدة ليحظى بالتقدير؛ والأكثر من ذلك، أعتقد أن عالِماً بنظرية جديدة يحتاج إلى النثر ليشرحها، ويعبِّر عن نفسه فيها أكثر من استخدام الشعر، لأن ما يبحث عنه القارئ، حينها، ليس الشعر، ولو تقدَّم العلم في شكل شعريّ فسيتعثَّر القارئ في فهمه، لأن الأشياء الموضوعية لا تهمّه. هذا الاستعراض للعلم يحتاج إلى دقّة ووضوح لا إلى صدى وتأمُّلات. ما تحتاجه اللّغة الشعرية هو السحر الكافي ليقول -حرفيّاً- ما لا يقال، لكنه يفعل ذلك بالإيحاء بطريقته. ثمّة قراءتان: الأولى حرفيّة، والثانية عميقة، وهي تتحقَّق حين يتَّصل القارئ بالقصيدة ويصير هو منتجها؛ يحدث ذلك لأنه يبتعد عن الحرفيّة، ليكون قارئاً وكاتباً في الوقت نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: كارلوس خابيير موراليس
المصدر:
مجلّة بويسيا ديخيتال
http://www.poesiadigital.es/index.php?cmd=entrevista&id=57