فرانك شاتزينج: نحتاج الثقافة أكثر من أي وقت مضى

| 01 يونيو 2020 |
عندما تُصبح الكارثة حقيقة مكتملة الأركان، وليست خيالاً ينمو في وجدان الكاتب.. عندما تُصبح فاجعة تُلهِب أسواطها العقل، وتستنفد ركلاتها قدرته على الاحتمال.. كيف يمكن للخيال الإبداعي الذي غزل المجهول، أن يقترب من فك شيفرات ذلك الارتباك القابع بين ثنايا يقين يأبى المغادرة؟! في محاولة للبحث عن إجابات، كان هذا الحوار المترجم مع الروائي الألماني «فرانك شاتزينج»، صاحب المؤلفات الأكثر مبيعاً في ألمانيا، سعياً لاستشراف منطقة التماس بين تعاطي الجماهير مع مفهوم الكوارث عبر سطور الروايات، وتفاعلهم معها، عندما تجسدت على أرض الواقع، فضلاً عن استعراض رؤاه حول التحديات الجديدة التي باتت تفرضها جائحة «كورونا» على العالم.
تصنَع الكوارث، في رواياتك، وصولاً إلى الذروة.. وما نعيشه، الآن، تناولته سياقات سينمائية وأدبية سابقة.. في رأيك، هل هذه المعالجات كان يمكنها تأهيلنا، بصورة أفضل، لمواجهة أزمة «كورونا» التي تهاونا بخطورتها فترة ليست قليلة؟ وكيف تنظر، الآن، إلى وضعنا الكارثي بعد أن تحول الخيال إلى حقيقة؟
-لا يمكنني، في الوقت الحالي، الجمع بين الحالتين. لم تعد لديّ رفاهية الخيال. أهتم، الآن، فقط، بالواقع الذي لا أملك سواه. الكوارث، في روايات الخيال العلمي، لا تستغرق سوى بضع ساعات لقراءتها أو مشاهدتها سينمائياً. كذلك، يصنع المؤلف نهايتها حسبما تراءى له. أما الواقع، فهو اختبار مُجهِد لفترة غير معلومة من الوقت ونتائجه مجهولة. الحقيقة أغرب كثيراً من الخيال، وغموضها لا يَتبدد سريعاً، لكن هذا لا ينفي قدرة الخيال الإيجابي على تعزيز فهمنا للواقع.. عن نفسي، لا استغرق في سيناريوهاتي المُتخيلَة إلا في أثناء الكتابة، لكنني أثق في احتفاظ إدراكي غير المباشر بجزء مهم منها، عملاً بفكرة «وسائد الهواء» التي تمتص الصدمات.. وفيما يخص عدم استعدادنا، بالشكل اللائق، لما يحدث، فمع الأسف، نحن مسؤولون بقدر ليس بهيّن عن وضع الافتراضات الأسوأ والتعامل معها، وليس رسم خارطة للسيناريوهات على أرض الواقع؛ من هنا كان يتوجب التأهب الجيد في ضوء ذلك الدور المحدود الذي لا نملك سواه في مثل هذه الأزمات التي يصعب إدارة سيناريوهاتها المستقبلية.
هل هناك سمات مميزة لردود الأفعال، حالَ وقوع كارثة؟ وكيف أدرْت دفة هذه المشاعر على أرض الواقع؟
– الأمر يشبه التعرُض المفاجىء لصفعة قوية تطفو، على أثرها، كلّ المشاعر المتضاربة، وأولها الذعر والقلق، ثم الصدمة والانهيار، وصولاً إلى الإنكار والاستهزاء. يلي ذلك الفهم والاستيعاب، وما يرادفهما من شعور بالعجز والخوف. وبعد أن يتخلص المرء من كافة مشاعره الهشة، يتمكن من تعضيد نفسه ذاتياً، والتكيُف مع ما يحدث بصورة أفضل. وعن المشاعر التي اعترتني، يمكنني تلخيصها في كلمتين، هما: «التعاطُف، والشعور بالأخر». فمنذ أن تشكلت الأزمة، بدأ عهد جديد من الإيماءات: الصغيرة، والكبيرة، في الظهور. وبعد أن أصبحنا عالقين داخل ذلك الاختبار الاضطراري، صار لدينا الوقت للتفكير فيما سقط من جعبتنا الاجتماعية؛ مثل «الاطمئنان» على أحوال الجيران والأصدقاء الذين -ربَّما- لم نتفقد أحوالهم لشهور طويلة. وفي ظل الإفلاس الذي طال كثيرين جراء فقد العمل وإغلاق المتاجر والشركات، صرنا نبحث عن سُبل يشدّ بها بعضنا أزرَ البعض الآخر. نصطَف جميعاً على حافة حفرة واحدة، وربما يوشك أحدنا على الانزلاق في أي لحظة. من هنا، تتجلى قيمة الفهم العميق لمشاعر الفئة الأكثر تضرراً. علينا استيعاب المأزق النفسي الذي يمُر به ضحايا الواقع. علينا أن نُبادر بمد يد العون لمن تحولوا إلى ضحايا حقيقيين، وليسوا افتراضيين.
هناك بعض الفئات لا تستشعر الأزمة، بل تستغلها مثل «المحتالين، ومصاصي الدماء». ما تفسيرك لذلك؟
– كلّ أزمة لها ضحاياها. وعلى الجانب الأخر، هناك -أيضاً- مستفيدون، وهُم حفنة من الأنانيين. كلّ من يقومون باستغلال الأخرين تحت ستار «كورونا»، لا يمتلكون، في الواقع، إحساساً طبيعياً بالخطر، بل تعطلت استجابتهم الفطرية بفعل اللهاث البشري الشره. مع الأسف، هناك آلية تُفاقِم من توحُش تلك الأنماط؛ ألا وهي متلازمة «الخوف والاحتياج المُفرِط». بالطبع، هناك من يجيدون استغلال الأمرين؛ فعلى سبيل المثال، لا أجد مسمّى لظاهرة التسوق الهيستيري الذي قام بها البعض، في بداية الأزمة، إلا بكونها «عملية سطو مدفوعة الأجر»، وخاصة أنها كشفت عن شعور مخيف بالأنانية وعدم التضامن بين الأفراد؛ من ثم، لن يُمكننا هزيمة مُستَغلي الأزمات، إلا بتهذيب وتحجيم مشاعر الخوف والأنانية داخلنا.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في مثل هذا الوضع؟ وهل يحتاج القطاع الثقافي إلى دعم حكومي، على غرار نظيره الاقتصادي؟
-صرنا نحتاج الثقافة أكثر من أي وقت مضى؛ فهي صوت الروح الحرة ونبض الآراء المتنوعة، الحصن ضد الشعبوية وحظر الفكر والإقصاء، هي الراحة وسط هذا العناء والمنظور الذي نُعيد، من خلاله، قراءة الأحداث. بالطبع، يحتاج قطاع الثقافة إلى دعم عاجل في ظل الأوضاع الراهنة، فهو من أكثر القطاعات تضرراً خلال أزمة «كورونا»، إذ ينص الدستور الاتحادي على ضرورة تعزيز الثقافة والفن والعلوم من قِبَل الدولة والبلديات. وعلى الرغم من ذلك، يتم، في العادة، التضحية بميزانية هذا القطاع في وقت الأزمات، واعتبارها احد أشكال الرفاهية التي يمكن الاستغناء عنها. وبالنظر إلى متضرري قطاع الثقافة، نجد عشرات الفنانين المجهولين العاطلين عن العمل، حتى إشعار آخر، وكذلك المنتجين والمخرجين وفنيّي الصوت والإضاءة، إلى جانب خسائر رُعاة الفاعليات الثقافية التي تم إلغاؤها نظراً للظروف الراهنة. كلّ هذه الصراعات يجب وضعها في الاعتبار. يمكن -أيضاً، للمجتمع المدني- أن يُسهم، إلى جانب الحكومات، في حماية هذا القطاع من الانهيار، عن طريق الاحتفاظ بتذاكر الفاعليات الثقافية الملغاة بدلاً من استرداد قيمتها، في حال سمحت أوضاع البعض بذلك. «الثقافة» هي أكثر من مجرد أمسية جميلة، إنها حجر الزاوية لحرية التعبير، فإذا تضررت، فسيدفع الجميع فاتورة ذلك.
يشعر كثيرون بالعجز في ظل مواصلة زحف هذا الفيروس، وحصاده للأرواح، دون التوصل للقاح.. في رأيك، هل ستهز أزمة «كورونا» قناعاتنا العلمية بشأن العالم؟
-سأجيب بسؤال أخر: هل اهتزت هذه الثقة في عام 2014، عندما ضرب وباء «إيبولا» أفريقيا، وأودى بحياة ما يقرب من 12000 شخص؟ يبدو أن رؤيتنا للعلم تهتز، فقط، عندما تتعرض منطقتنا الآمنة للخطر. الحقيقة هي أن علماء الفيروسات يتمتعون بوضع مثالي، وهم يقومون بعمل ممتاز. لدينا امتياز الحياة في بلد تُطبق أعلى المعايير الطبية. ربَّما نما لدينا هاجس عدم الثقة في الدور المنوط بعلماء الفيروسات، لأننا لا نُدرك حقيقة كونهم في عملية بحث مستمرة، بطبيعة عملهم. لكنها الأزمات التي تتحكم في خلق واقع جديد، بتقنيات جديدة وعلاجات جديدة. نحن نمتلك كلّ المقومات التي تجعلنا نثق بقوة في دور العلم، لكنه ليس زرّاً ذاتيّ التشغيل، يعمل وقت وقوع الكوارث.
ما الأفكار التي يمكن استخلاصها من القصص الخيالية في ظل الأزمة الحالية؟ العالم يبدو خارج نطاق السيطرة؛ هكذا كشفت لنا أزمة «كورونا»..!!
-إذا ما تساءلنا عن ماهية المستقبل، فكيف سيكون الجواب؟ في الواقع، الجواب: «لا شيء»، لأن المستقبل افتراض غير موجود على أرض الواقع. مجرد مساحة فارغة نملؤها بالخطط والاحتمالات. هنا، يأتي دور الخيال، وبما أن المستقبل غير موجود، فالخيال يقوم باختراعه؛ وهذا هو بيت القصيد. نحن جميعاً نبتكر ما سوف يكون، وفقاً لمحدودية ما هو كائن بالفعل، فكلَّما زاد وعي الجماهير بأدوارهم المنوطة، أمكننا التعامل مع الأزمات بشكل أفضل. ربَّما لا يمكننا صنع لقاح، ولكن يمكننا تحسين أوضاع الأخرين باتباع إجراءات الحماية اللازمة. من المهم، للغاية، لصحتنا النفسية أن نستوعب ماهية دور الضحية، بل نسعى لعدم سقوط المزيد منهم. يمكنني، هنا، تشبيه التفكير الإيجابي بـ«الكهرباء»، لكونه يمد المرء بالطاقة. يحضرني -أيضاً- السيناريو الذي طرحه عالِم المستقبل «ماتياس هوركس» حول الحياة ما بعد «كورونا»، إذ يتوقع أن كلّ شيء سيكون أفضل مما كان. وعلينا، بالفعل، أن نصدق ذلك. هو لا يَستشرِف نبوءة، إنما يُصمِم اقتراحاً يمكننا تبنّيه، ومع الوقت، سيتحقق بصورة تلقائية. من المؤكد أن «كورونا» سوف تمُرّ، ولكن السؤال: في أي عالم نريد أن نحيا بعد ذلك؟ يجب علينا، الآن، تَصور ذلك بطريقة متواضعة للغاية، وأن نتشارك في حياكة الواقع الجديد، دون تكرار أخطاء الماضي.
إذن، دعنا نفكر .. من أين نبدأ؟
– بإصلاح النظام العالمي. منظومة الاقتصاد هي عربة القطار الأولى التي قررنا استقلالها، لكنها هرعت بنا، وتناسينا -مع الوقت- كيف يمكننا إبطاؤها حتى لا نسقط جميعاً، بعد أن صارت سرعتها جنونية. نتفق أنه، في لحظة ما، لن يصبح متاحاً لأحد النزول من قطار هائج. ولكن، دون توقُع، أجبر فيروس مجهري متناهي الصِغر، القطار على تهدئة سرعته، وربَّما على التوقف.. الفيروسات لا تتفاوض؛ لذا نحن مضطرون لتغيير النظام، وهي فرصة لابدَّ من استغلالها، خاصة، لكوننا لا نملك خياراً أخر.
يرى البعض أن التدمير الذاتي للاقتصاد والثقافة في مواجهة وباء، أغلب ضحاياه من كبار السن، هو أمر غير لائق.. ماذا تقول للأشخاص الذين لا يتواكبون مع مفاهيم اليوتوبيا؟
-اِحذَروا «الداروينية الاجتماعية». لا يمكن للتعايُش العالمي أن ينجح إلا بالتخلي عن تلك النزعة التحيزية. يمكن للمجتمع المدني الحفاظ على تماسكه وقت الأزمات، حال توقفَ عن تقسيم المواطنين إلى شرائح ذات أولويات متفاوتة..حياة الجميع جديرة بالحماية. أرى أن المأساة، في العادة، لا يمكن حصر أبعادها.. لا أريد -حقاً- التصديق بأن معاناة الناس لها أبعاد إيجابية انعكست على الطبيعة، فالهواء صار أقل تلوثاً، عندما انعزلت البشرية في الداخل. وإذا ما واصلت الانبعاثات الكربونية انخفاضها كما هو الآن، فستكون لدينا فرصة جيدة لتحقيق هدفنا المناخي الذي عجزنا عن تحقيقة، فيما قبل، «كورونا».. هنا، تكمن المفارقة المُبكية لمفهوم الكارثة بوجهَيْها «السلبي، والايجابي»؛ فعلى ما يبدو نحن، دائماً، بحاجة إلى كارثة حتى نستيقظ، ونكسب بعض الوقت، كي نعيد ترتيب أوراقنا. ما يشهده العالم، حالياً، سيخلق مفاهيم جذرية جديدة للتواصل، سيحمي المناخ والحياة، وسيُحدِث نقلة ضخمة في التعليم والخدمات الاجتماعية، سوف تُولَد عولمة أكثر عدالة.. أولئك الذين يساعدون المجتمع والأخرين على الخروج من الأزمة، هم الناجون الحقيقيون. أما الباحثون عن نجاة فردية، فسيكون التحدي الأكبر لهم بعد انتهاء الأزمة. لقد هرعنا كثيراً نحو الأفق، دون تأنٍّ، وقد حان الوقت كي نتبنى رؤية متوازنة لـ «عصر ما بعد كورونا».
المصدر: Spiegel Online، أبريل، 2020
حوار: كلوديا فويجت