فرج دهام.. على مِحَكِّ المُعاصَرة

| 01 يناير 2021 |
إنّ الحديث عن الفَنّ الحديث والمُعاصِر في قطر، لا بدّ وأن يحيلنا بدايةً على عددٍ من الأسماء المرجعيّة التي تمثِّل الريادة بالنظر إلى تجاربها البحثيّة الناجِعة في توطيد العمل التشكيليّ كمتنٍ تعبيريّ يندمج في صيرورة الإنتاج الثقافيّ المحليّ والعربيّ والدوليّ أيضاً، من أمثال جاسم زيني، وفيقة سلطان العيسى، يوسف أحمد الحميد، سلمان المالك، حسن الملا، وفرج دهام الذي نقف عنده، في اتجاه استرجاع مُنْجَزِه باقتضابٍ عبر عددٍ من المحطَّات المُعيَّنة، وتسليط الضوء على أعماله الحديثة بخاصّة، وهي الأعمال التي تشكِّل منعطفاً ضمن توالي تجاربه السابقة.
عُرِفَ فرج دهام بألوانه الصِّباغيّة النّاصِعة، كما في ألوان كولاجاته (Collages) الشّفيفَة والصريحة، بدرجة الصفاء الذي نلْحَظُه بشكلٍ واضح في أعمال سلسلة معارضه التي أطلق عليها «إحداثيات» (2008)، وذلك ضمن تكوينات مَحْسوبَة ومَحْسومَة بِتَضافُر العقل والقلب معاً. هناك باستمرار تحويلات تركيبيّة منسجمة مع إيقاع التلوين ومُحدِّداته الشَّكْلِية التي ترسم بنية اللوحات ذات المَيْل التجريديّ الهندسيّ بعامة. بينما الخطوط الفاصِلَة والدقيقة (السوداء والبيضاء) تَبْعَث على ديناميّة مرئيّة، فيما تعمل على استنبات مقاطع التشبيك، والتمديد المُستقيم، والتقويس الممهور بالأسهم التي تُوَجِّه وتخترق المساحات الكروماتيكيّة التي تحتكر صَدارة الإبصار، ما يجعل من فرج دهام مُلَوِّناً (Coloriste).
ضمن هذه المجموعة الثُّنائِيَّة نفسها المخصوصة لـ«إحداثيات»، تلتئم الخطوط بدورها في مجموعة من اللوحات التي تحتفظ بِبَياض أسنادها الورقية المطبوعة بألقِ التسويد والتسطير، حيث تنطفئ الألوان، في الحين الذي يستعير فيه الفَنَّان خبرة المُهندس والمُصمِّم باعتباره غرافيكيّاً (Graphiste)، ليضعنا أمام توليفات خطيّة شديدة التركيب، ترسم لنا مَقاطع شبه مدينِيَّة، حُلْمِيَّة ومُتَخيَّلَة، تتداخل عبرها أشكالٌ دالة تتناسل من خلالها إشاراتٌ ورموز وأيقونات وأرقام، تقحمنا في عوالم تكنولوجيّة وميكانيكيّة مُفْعَمَة بالحركة المبثوثَة في مشاهد حيويّة وخلويّة في ذات الحين، قابلة لتعدُّد القراءة لما تمنحه للمُتلقّي من هياكل وتكوينات جذَّابة تفتح النظر على شساعة التأمُّل والتأويل.
في مجموعة «إحداثيات»، كأنّ الفَنَّان «يضع الإنسان على مِحَك القياس في زمنه وفضائه، ما بين الماضي والحاضر، ما بين الموجب والسالب مروراً بالجسد، ومنه إلى حالة التشظي» التي ينعتها الفَنَّان بـ«عدم الاستقرار»، ما جعل أعماله في موقع تَقابُل تشكيليّ يتراوح بين الملء والإفراغ، بين التلوين (المساحة) والتسويد (الغرافيزم)، هي صيغة لمفهوم القياس الذي يقوم عليه جوهر التَّصَوُّر والتعبير المُتجانس.
العلامة: من التَّشْوير إلى التَّصْوير
في مجموعة أعماله المُسَمَّاة «الحاجز» (سوق واقف بالدوحة، 2010)، أوضح فرج دهام أن «الحاجز شريط عازل رُسِم على الأرض بمقياس التقسيم، له القدرة على تغيير المسار ولَفْت الأنظار كونه الحَدَّ الفاصل بين ضِفَّتَيْن، وللتعامل مع فكرة الحاجز يستوجب الوقوف عند المَعْبَر على امتداد خطوطه الأفقية، ما أن يؤذن بالعبور بمؤشر رفع الحاجز حتى يتَّضح التَّبايُن بين حالتَيْ السكون والحركة، وفجأة نشعر أن تقاسيم الجسد تَحْبو بعد طوال انتظار». وبناءً على هذا المعنى، يُؤكِّد على أن تجربة «الحاجز» تعيده إلى التعاطي مع صورة المكان، باستدعاء أنموذج استعاري أفقي يناقش فكرة تحفيز الرؤية، كونها إشارة في المعنى تنم عن فكرة الحدِّ الفاصل بكلّ تداعياته، بنقل موضوع الحاجز من البحث والتأمُّل النظريّ إلى المرئيّ. فإذا كانت غاية البحث في هذا المعرض تشير إلى منحى ثقافيّ بترسيم الفَنّ عبر معطيات آنية عصريّة كما يُقر الفَنَّان، فإنّ هدف البحث في معرضه «لغة الشارع» (2012) اتجه نحو العلامات البصريّة في الحاضِرَة المُعاصِرة «الدوحة»، لتوطين الفَنّ عبر معطيات راهنة وإخضاعها إلى الترجمة التطبيقيّة، عن طريق تحويلها من لغة التَّشْوير (Signalisation) إلى لغة التَّصْوير (Peinture).
في «لغة الشارع» إذن، استلهم فرج دهام عناصره التشكيليّة من أجواء مدينته، مُسْتنِداً إلى رَصْد العلامات (Signes) التي تَنْتصِب وتنطبِع على امتداد الممرَّات والطرق والساحات والأوراش وخلفيّات الشاحنات والرافعات والآليّات وغيرها، باعتبارها لغةً مقروءة تتوخَّى الإرشاد والانتباه، فيما تُنذِر بالحَذر والمَنْع والخطر، كما تُوَجِّه أولويات المرور وغيرها. هي مُتَوالية الإشارات والتوجيهات التي تحمل في طَيّاتِها إيقاع المدينة المُعاصِرة وحياتها، كما اختزلها فرج دهام في تكويناته الباذخة، حيث تَتَآلف العلاماتُ بأنواعها وتتلاحم، تتقاطع ضمن عملية تحليل وتفكيك، لتتقارب وتتناسق من جديد عن طريق تركيبات دينامية تعمل على إعادة بناء الحاضرة، ليس كتصميم كُتْلي ومعماريّ، بل كانعكاس تصويريّ لروح المدينة وساكنتها، وخاصّة ما يتعلَّق بالتوتر وضغوط الحركة والتنقل السَّيار، حيث تتحوَّل العلامة إلى مؤشِّر بلاغي للمُجادلة والمُكاشفة والتجليّ، وقد أفرغها الفَنَّان من سلطتها البصريّة الآمِرة والناهية، ليمنحها تشفيراً بصريّاً مُضاعَفاً يقوم على الترميز، بعيداً عن التشخيص بالمعنى الحِكائي الصرف.
بطبيعة الحال، تتبَدَّل مَرْئِيَّة المدينة في الليل، إذ تتخذ علامات التَّشْوير الطُّرُقية وغيرها صفتها الضَّوئيّة الموسومة بِسيطرة الأحمر، بينما تتصاعد مرئيّة الأصفر التي تُمَيِّز الصَّدْريّات الواقية (Les gilets jaunes) الخاصّة بشرطة المرور وعمَّال الأوراش (المُصطفين بخوذاتهم على طول اللوحة الأفقيّة)، ناهيك عن الخطوط والإشارات الصفراء الموصولة بأرضية الشوارع والطرق السوداء وغيرها من الممرَّات، باعتبار الأحمر والأصفر اللَّونَيْن الأكثر بروزاً في الرؤية، الشيء الذي انتبه إليه الفَنَّان في انتقائه الكروماتيكيّ. ومن ثمّة، نقترب من دوافعه في اختيار الأصباغ الصفراء والفوسفوريّة المُهَيْمِنَة في تشكيلاته المطبوعَة بالتشكيلات الإشارية الحمراء والسوداء التي أسقطها من دورها الوظيفيّ ليمنحها بُعداً تعبيريّاً، تتحوَّل معه العلامات النفعيّة، إلى «علامات واصفة» (Méta signes) تروم إحداث مُصالحة جماليّة مفتوحة على المُجتمع، كما تقترحها رؤية الفَنَّان القاطِعَة.
في خضم هذا التَّوَغُّل الواعي في الشوارع، سينظم الفَنَّان معرضاً بعنوان «مدينة» في 2014، يتمحور بدوره حول مسقط رأسه «الدوحة»، ضمن مُعالجات فنِّيّة لصورة المدينة وتحوُّلاتها الطارئة والسريعة على مختلف الأصعدة. ويتعلَّق الأمر هنا بتكثيف حس نوستالجي موشوم بقلقه وطموحاته وأحلامه، استحضر من خلاله بعض التذكارات البسيطة التي تمَّ إرسالها من الدوحة إلى كثير المدن عبر العُمَّال الذين ساهموا في بنائها لتظلَّ مَوصولةً بأحلام وتطلعات أخرى، وذلك ما يُعلِّل استثماره لفكرة البطاقة البريديّة كبديل موضوعيّ في نشر سيرة المدينة الحديثة وإنتاج المعنى حولها. ومن ثمّة، يستلهم أسئلة الألفة والاغتراب، ويستدعي ما سواها من قيم الجوار والتعايُش والتبادُل في إطار العولَمة وتبعاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي وسمت عالمنا المُعاصِر.
المونوكروم: مُقارَبة المرئيّ والحقيقيّ
يندرج معرضه الأخير الموسوم بـ«أن ترى ما لا يُرى» (مطافئ مقر الفَنَّانين بالدوحة، 2019) في سياق تقديم أعماله التي أنجزها طيلة شهرٍ كامل، ضمن إقامته الفنِّيّة بمُؤسَّسة «ماذا عن الفَنّ؟» في مدينة مومباي الهِنديّة، ضمن فعاليات برنامج التبادُل الثقافيّ المُسَطَّر في إطار العام الثقافيّ الذي جمع بين قطر والهند 2019.
في هذه التجربة، يتخطَّى فرج دهام التقنيات والأدوات والمواد المُصَنَّعَة المُتَعارَف عليها في صِياغة اللوحة، باعتماد مختلف المُكوِّنات الماديّة والمعنويّة المحليّة، ومنها شِباك الصيد الصينيّة المُتداولة إلى اليوم في صيد الأسماك بمدينة كوتشي الهِنديّة، كوسيلة لإخفاء ما هو معنويّ، بالشاكلة التي عمل بها على إخفاء «المخطوط الحافظ للتاريخ» الذي صنعه باستعمال مختلف الخامات البيئيّة بِمومباي، في اتجاه معالَجة مفهوم الإخفاء والإقصاء التاريخيّ، بناءً على «مقارَبة نوعية بين ما هو مرئيّ (المُرَاد له أن يُشاهَد)، وما هو حقيقيّ (المُرَاد له أن يُخْفَى)»، وذلك ما يُبرِّر عنوان المعرض «أن ترى ما لا يُرى» كصيغة استعاريّة لمُقارَبة المُفارَقة المُتراكِبَة بين «المرئيّ والحقيقيّ». وفي هذا الصدد، أشار فرج دهام إلى أن مفهوم: أن ترى ما لا يُرى، هو «مفهوم مبني على ازدواجيّة الرؤية وتقاطعها بين الصورة الواضحة، والحقيقة المَخفية في الفكرة، فالمفاهيم والرؤى تقوم على ما هو موجود، وباختلالها يختل تقديرنا لهذا الوجود».
تمثِّل أعماله المُعَلَّقَة على الجدار صِنف اللوحات المَعْمولة بمختلف المواد العضويّة واللَّيْفِيَّة، تتخذ طبيعتها البصريّة من المونوكروم بدرجاته اللونيّة المُستمَدة من المكان وجوهر الفكرة، أي اللون الأُحادي المُختزل في التُّرابيّ (البُنيّ) كانتصارٍ للتمسُّك بأديم الأرض، لتتمثَّل اللوحة من لَيْفِيَّات ونُتوءات وحروق، مُستدرِكَة قَتامَة الأكْحَل، وكذا انفتاح اللون الترابيّ، كمادة ونسيج، على مَرْئيّته النّورانيّة الآتية برِفْق نحو الأبيض، نحو الضوء، بحيث تُمسي الطبيعة التشكيليّة هنا اشتغالاً على المادة وما تَكشِفه من بَهاء حِياكتها ومَلْمَسها (Texture) المُتداخل والمُتَماسك بالدرجة الأولى، بينما تتفاعل المادة في صُلبها لتَرْتَكِز على التَّدَرُّجات الضوئيّة المُتلاشية والمُتقطعة التي تُحدِث مساحات وأشكالاً بسيطة (مربعات، مستطيلات) مُضاءَة ومُنطفِئة ضمن تَبادُلات وتَجاوُرات تَسْتَنْبِت ديناميّة بصريّة بتَوْليف التَّضادّات (Contrastes) المُتناغِمة والرشيقة. نحن بإزاء تَلْخيص دقيق لعمليّة الكَشْف والحَجب، وما يسري بينهما ومن داخلهما من تمازُج يُلقي بظلاله على ما يسري على المرئيّ والحقيقيّ.
في سياق المُعالجة الماديّة ذاتها، تتحوَّل الأسناد إلى أوراق سميكة تُؤلِّف تلك المُتون والمخطوطات «التاريخيّة»، تلك الكتب الكبيرة المَقاس، المُجلَّدات الرمزيّة التي تبعث على التساؤل والرَّهْبَة، المفتوحة والمَصْفوفَة بعناية، كأنها تدعونا إلى تشفير وقراءة هذه الأنسِجَة والألياف الطّرسية (Palimpseste)، من أجل استدراك المعنى والقول: أنْ تقول ما لا يُقال.
لم يكن فرج دهام تشكيليّاً ماديّاً (Matièriste) فقط في هذه التجربة الغنيّة، بل فنَّاناً معاصِراً شاملاً يستثمر الفيديو والأنماط التقديميّة في الفضاء، عبر تطويع مفاهيمه في قالب مُنْجَزات حجْمِيَّة وتنصيبات (Installations)، إذ يَنْتقي عديد الجُذوع والتَّفَرُّعات الخَشَبيّة التي شَذَّبَها وعالج طبيعتها الشَّكْلِية دون المَساس بطبيعتها البَيْئيّة، ليجعلها شبيهة بهياكل مُكْتَمِلَة لكائناتٍ غريبة، مَعروضَة بشكلٍ طوليّ- أفقيّ يستدعي صورة الأموات، مَحْزومة ومَلْفوفة بشِباك الصيادين، ما يجعل هذه «الكائنات» الهيكليّة خاضعةً لتَكْفين مُحْكَم وشَفَّاف، يُظْهر أكثر ممّا يُخفي، لَعلّه ضرب من التَّحْنيط الذي يروم كشف الحقيقة، الحقيقة الماديّة للأشياء والكائنات الموصولة بالفَناء!
حول هذه التجربة، أشار فرج دهام إلى أن مدينة كوتشي الساحليّة في الهند، منحته فُرصةً للقيام بنوعٍ من المُعايَنَة لهذا الساحل المُمتد على المُحيط الهِنديّ، لكي يرى طريق الحرير في انسيابه من الصين إلى الهند، إلى أوروبا وبيزنطة، مع استحضار تجربة الإسبان والأتراك، لصياغة ما هو موجود في صناعة التاريخ الذي يضعه في موقع مُساءَلة: مَنْ يكتب التاريخ؟. في ذات السياق، أكَّد على أن المعرض «يستلهم هذه الأسئلة لتأويل المسارات البريّة والبحريّة بوصفها امتداداً في صناعة المدن والثقافات والمُعتقدات والعادات، على اعتبار الثقافة جزءاً أساسيّاً في تلازم هذه الفكرة». ولأنه مَعْني بالفنون البصريّة، يوضح الفَنَّان، يستحضر علوم السياسة والمُجتمع والأنثروبولوجيا لتأويل هذا الوجود، بحيث «يستلهم المعرض سيرة طريق الحرير، لكنه لا يكتب التاريخ، بل يُشير إلى بقايا هذا الإرث الثقافيّ من الترحال، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، موظِّفاً رمزيّة هذا الاشتباك بين الحرير كنسيج ودودة القز والمراكب، لكشف أغوار هذا التبادُل».
على هذا النحو، يحيط فرج دهام بأفكاره وتصوُّراته التي يدرسها ويتأمَّلها عميقاً، كي يجعلها جَليّةً وفاعلةً في عمله الفَنّي، وهو المُبدع الذي سجَّل عديد المُساهمات الفكريّة والنظريّة من منطلق قناعته بالعلاقة العضويّة التي تربط الفَنّ بثقافته وعلومه، وإيمانه بكون القطعة التشكيليّة لن تكون عملاً فنّيّاً ما لم تكن قائمةً على بنية فكريّة ثريّة، بحيث ظلّ يشحذ رُؤاه وثقافته موازاةً مع تطوير مهاراته الحِرفيّة والتقنيّة المُواكِبة لمُستجدات الفنون البصريّة برمتها. من ثمّة، نَلْحظ سَلاسة انتقاله من تجربة إلى أخرى بتوليف أطروحات بصريّة مُبتَدَعَة، بالعَقْل والحِسّ المُلازمَيْن لتسجيل الوقوف عند أهمّ المفاهيم المعنيّة بفنون الحداثة وما بعد الحداثة، طبقاً لما تُمليه التحوُّلات التي يشهدها العَالَم، ومدى تأثيرها على المُجتمع المحليّ الذي صار يعرف ظواهر جديدة ومتغيِّرات سريعة في الراهن.



