فرج دهام.. فنَّان اللامرئيّ

| 01 يناير 2021 |
مع مُنادَاة مارسيل دوشامب (1968-1887) «العمل الفَنّي ينبغي أن يكون حقيقةً ذهنيّة» بدا كأنَّ الرسمَ قد وصل إلى غايته القصوى(1)، إذ في سنة 1961 سينحت هنري فلينت مصطلح (الفَنّ المفاهيميّ)، وبذلك سيعرف الفكر الجماليّ ثورةً نقديّة نقلت مجال البحث من الجانب الفيزيائيّ والحسيّ للعمل الفَنّي إلى فكرة الفَنّ نفسه.
فباستحضار منطلقات ما اُصطلح عليه بـ«الفَنّ المفاهيميّ» تختزل تجربة الفَنَّان القطريّ فرج دهام (1956) الظاهرة الفَنِّيّة في الخطاب المُتعلِّق بها، فهو من التشكيليّين الدؤوبين في البحث عن هذا الخطاب بين ثنايا المصادر الاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة والإثنوجرافيّة، ليؤصِّل به حالةَ وعيٍّ مخفيّة خلف الشكل الخارجيّ للظواهر. إنه في هذا المسعى مستعد لتنفيذ عمله الفَنّي وفق هذا الخطاب دون قواعد نهائيّة، ممّا يجعل أعماله ورشةً للأسئلة الإشكاليّة المُرتبطة بالإنسان باعتباره جوهر الفَنّ المُعاصِر؛ منه تعريف الفَنّ ومآله إليه.
بداية، إذا سلَّمنا بأنه: «غالباً ما يظهر الإبداع الفَنّي المُعاصِر محيِّراً في نظر الجمهور المُختصّ أو غير المُختصّ»(2)، فإن التجربة التشكيليّة التي أمامنا، من النماذج التي يمكن وضعها ضمن هذا الحكم. فلطالما كانت رسوم فرج دهام تسترعي، اهتمام الجمهور العام وتجذبه بمضامين من بيئة أمس، وهي الرسوم التي يُنظر إليها، عادةً، بكونها ليست محيِّرة، ولا مخالِفة للمعايير المألوفة. لكنه بعد مرحلة رشده الفَنّي التي انشغل فيها بعناصر التراث الماديّة واللاماديّة، سيوقف هذا الانشغال في صورته التطابقيّة. ويمكننا الافتراض، على منوال مَنْ اتخذَّ هذا الطريق، بأنه في هذه الآونة كان قد فطن للحلقة المُفرغة التي عليه تجنُّبها إذا أراد لعمله الفَنّي تجربةً متجدِّدة مع الجمهور، وغير مبتورة من وظيفتها الجماليّة. وهكذا سيشرع، في تأسيس مدوَّنة تشكيليّة ملتزمة ومنخرطة في الوقائع والمُتغيِّرات، مدوَّنة يبدو أنها لم تكن لتقف عند هذا التأسيس، وإنما في المضي نحو تجاوزه، وإعادة تعريف المفاهيم بما في ذلك مفهوم الالتزام نفسه.
ولكي يكون لهذه الطفرةِ موقفٌ فنّيٌّ أيضاً، كان على فرج دهام، منذ 1975، أن يمهِّد إلى توقيف زمن لوحته، أو بعبارةٍ أخرى، أن يضع فيها زمناً جديداً. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه كان يمكن لأي منشغل بسؤال وظيفة الفَنّ حينها، وحتى الآن، وربّما مستقبلاً، أنْ ينتصر إلى هذا المنحى، إمّا «تفاديا لاختزال الفَنّ إلى مجرَّد دور للمُواساة أو التعويض»، أو باعتباره استجابةً طبيعيّة للبيانات الجماليّة والفكريّة الطلائعيّة السائدة في المجال التشكيليّ العربيّ عبر التجارب العراقيّة الرائدة، منذ منتصف الستينيّات، مروراً بالسبعينيّات وحتى الثمانينيّات من القرن الماضي.
لقياس درجة الاستجابة والتوافق مع هذه الأدبيّات والمرجعيّات الوافدة عبر البوابة العراقيّة، نقتبس ما كتبه فرج دهام: «حسبي اليوم كما كنت في الأمس أُعيد قراءة الصور والمواضيع العارضة التي أصادفها، فهي حقيقة وجود لها موضع قدم على الأرض وحقائق يصعب تجاهلها»(3). كما صرَّح في لقاءٍ خاصّ: «التعبيريّة غير موجودة عندي»(4). وإذ يكشف المقتبسُ عن موقف ملتزم، مرجعيّته: «استحالة بقاء الإبداع الفَنّي والثقافيّ منزوياً في نطاق يكون فيه بمنأى عن التقلُّبات الجارية في العَالَم»(5). فإنّ التصريح يحدِّد تموقع الفَنَّان نظريّاً وجماليّاً انطلاقاً من موقف رافض للتعبيريّة بصيغة ضمنيّة، بحيث يكون طرح السؤال: إذا كانت التعبيريّة غير موجودة عند فرج دهام، فما الموجود عنده في المُقابل؟ من باب الاستنتاجات البديهيّة.
لتطوير هذا السؤال البديهيّ، نستعين مرّةً أخرى، بإحالتين تدلان على المناخ العام الذي ساهم في تشكيل مرجعية جيل المُقاومة الثقافيّة الذي عاصره الفَنَّان وتأثَّر بأدبيّاته. الإحالة الأولى، نعثر عليها ضمن العدد الأول من مجلّة «الكرمل» يناير/كانون الثاني 1981، وفيه وقَّع محمود درويش، مؤسِّس المجلّة ورئيس تحريرها إلى حين رحيله، بياناً شهيراً، مُفتتحه: «في هذا الانفجار المفتوح على الاحتمالات، الذي يهزُّ المُجتمعات العربيّة يرتفع السؤال عن ثقافة الأزمة. الأزمة أيضاً تصوغ ثقافتها، وثقافة الأزمة هي محصلة تاريخيّة لمُعاناة مرحلة كاملة تختلط فيها الحروب بالحروب الأهليّة، والحداثة بالاغتراب». بعد عام، وتحديداً في صيف 1982، وقَع حصار بيروت لتنفيذ ما سُمِّي بمُخطط «اقتلاع البنية التحتية لمُنظَّمة التحرير».
أمّا الإحالة الثانية، فمُرتبطة باجتياح بيروت زماناً ومكاناً، أي لمَّا أصبحت المسافة «بين الكلمة والدانات، بين المُثقَّف والفدائيّ، بين الخطاب الإبداعيّ والخطاب العسكريّ»، مسافة مُنتفية. وقد كانت الثنائيّات من هذا القبيل، توضع في مسعى «الوعي بالذات»، كما أشار إلى ذلك، على سبيل الذكر، الشاعر المصريّ حلمي سالم، في تقديمه لملف نُشر بمجلّة (أدب ونقد، ديسمبر 1984) بعنوان: «نصوص من حصار بيروت»، متسائلاً فيه: «هل كان ما كان لمحةً خاطفة، برقت وزالت؟».
على نهج هذا الخطاب الثقافيّ وتداعياته المُتلاحِقة، كانت تجربة فرج دهام التشكيليّة، تشق طريقها على مراحل جماليّة تُعيد في كلِّ مرّة النظر في مدى ملاءمة المفاهيم الفَنِّيّة للوقائع والمُتغيِّرات، بما في ذلك نسبية عناصر المادة الفَنِّيّة نفسها، وهكذا سيقطع تلك المراحل بداية من مُنطلقِها المحليّ/ الانطباعيّ؛ المُصرَّح به في الأعمال التي سبقت سلسلة (طيور 1992)، إلى امتدادها العربيّ/ القوميّ؛ في الأعمال التي وثَّقت الانتفاضتين الفلسطينيّتين الأولى والثانية، ثم انفتاحها الكونيّ/ الحداثيّ، كما سنرى لاحقاً في أعمال (إحداثيات) وما تلاها.
ويمكن القول بأنه من بين علامات الانتقال المُؤسّس والمُنسجم مع القضايا العربيّة الطارئة، ما سينتجه الفَنَّان سنة 1997 من أعمال بعنوان «مشاهدات» و«أجسام ساكنة، وحركة أجسام» التي وثَّقت الانتفاضة الأولى (1987 – 1993)، كما سجَّلت، حسب تصريح فرج دهام، موقفاً فنّيّاً «مبنياً على الالتزام مع الحالة والموضوع»، مستطرداً في هذا السياق: «بعد اتفاقية كامب ديفيد 1978 دخلنا في حالة ركود.. لكن حرب تشرين التي حدثت في جنوب بيروت كان لها دورٌ في إحياءِ الذات مجدَّداً.. كانت حياة أخرى للمُقاومة بطريقةٍ أو بأخرى».
لكن من طبائع الوقائع التحوُّل من حالٍ إلى حال؛ ففي كلّ يوم طلوع يوم جديد لم يكن معروفاً، كما قال أحد الحكماء. مرّة أخرى يقول فرج دهام: «انتقلنا من الاندفاع إلى الخيبة، وإلى انكماش الذات، وصولاً إلى الاستسلام الى ما هو موجود». كان تفكيره الفَنّي في هذه الآونة يؤسِّس لما عبَّر عنه بـ: «البحث عن نقطة معيَّنة في الفراغ»، ولأنَّ أي تحوُّل فنّي مُنطلقه المادة ومآلهُ إليها في الغالب، وكذلك لأنَّ المشهد الذي تراءى أمامه كان خالياً وبواراً، فقد سلك اتجاهين مؤقَّتين، كان الأول باطنيّاً؛ يحفر في الصخر والخشب، والثاني ظاهريّاً؛ يتأمَّل في الطبيعة الجغرافيّة، وفي الاتجاهين معاً كان اختيار المسلك، الذي عبَّرت عنه أعمال أنجزها (من 1996، حتى 2005)، بحثاً اضطراريّاً عن لوحةٍ بديلة تستريح من إطارها القوميّ المُثقل بالخيبة والهزيمة، أو بمعنى من المعاني؛ تتخلَّص من «التزامها» بمسلَّمات الوقائع الآنية، وذريعته في ذلك أنه لم يعد بالمُستطاع: الفصل بين حدثٍ وحدث، بين واقعٍ وواقع، وبين أن يكون ملتزماً بما هو موجود، أو أن يكون مُشاهِداً. وقد استمرَّ هذا البحث في المفاهيم إلى أن جاءت المرحلة التي أنجز فيها أعماله المُعنوَنة بـ«الإحداثيات»، والتي عُرضت أوّل مرّة سنة 2008.
ذاتيّاً وموضوعيّاً، كان بحث فرج دهام «عن نقطة معيَّنة في الفراغ» بمثابة عنوان مرحلة جديدة ستعرفها ورشته. مرحلة يمكن تمييزها بالنزوع نحو أشكالٍ مجرَّدة، حملت في هندستها تفاعلاً راهنياً، لم يكن غرضه الأساسيّ تجاوز تراكمات الخيبة، بعدما أصبحت الأيديولوجيا العربيّة مفتقدةً للقوة النقديّة والعمليّة وعاجزةً عن وضع يدها على موطن الداء، وإنما كان غرضه هذه المرة، نقد الحداثة العمياء للتقنية التي شيّأت الإنسان وسلَّعته، من خلال إيجاد أسلوب يحفظ للتجربة الفَنِّيّة انسجامها مع الذات، ما دام باستطاعة الفَنّ تعرية الأعطاب و«إنقاذ الجميل من مخالب العقلنة الأداتيّة»، كما كان يتردَّد ضمن أدبيّات الفَنّ المُعاصِر. وفي هذا السياق تندرج «الإحداثيات» كأعمالٍ غير تعبيريّة، أعلنت بشكلٍ واضح اعترافها بكون «التفكير ملازم بالضرورة للإبداع الفَنّي». وبالنسبة لفَنَّان يعلن الآن، نظريّاً وعمليّاً، انشغاله بـ«المخفي وراء الشكل الخارجيّ»، بعد تخلّيه، منذ الثمانينيّات، عن ما يصفه بالاستعارات المعنويّة أو الصدى الحسيّ للعمل الفَنّي، نجده في أعماله التي تلت «الإحداثيات» يمضي في هذا التخليّ، منكبَّاً على تجاوز أسلوبه وخاماته، بما تقتضيه المُتغيِّرات والظواهر، بل إن المادة الفَنِّيّة نفسها تتبدَّل وظيفتها، وبالتالي تُعيد تعريف الفَنّ نفسه بلغةٍ تكاد تعطي للمفهوم مرتبةً عليا على الباقي، فكلُّ ما من شأنه أن يعكس السلطة البصريّة ضمن المُتغيِّرات المجاليّة للمدينة، كما في أعمال (لغة الشارع)، أو مسألة التسليع والاستهلاك في (فترينة)، أو صحوة الذات في (زهور الربيع)، أو الهويّة والذاكرة في (أن ترى ما لا يُرى)… هو أسلوب عابر للخامات ومنفلت من قبضتها في آنٍ، أسلوب منشغل بالصدمات ومنخرط في تجميع المُتناثر في صيغة التناثر ذاته. وكون لوحته الحالية مفتوحة على اللامرئيّ، وعلى القراءة الأنثروبولوجيّة، فإنّ فرج دهام الذي صرَّح بإلغاء «الصناعة الجماليّة للوحة»، لم يتردَّد في إلغاء فكرة الفَنّ ذاتها، لصالح المفاهيم التي تمكِّنه من القدرة على استعادة المُندثر، سواء من اللحظة الظاهرة أمامه، أو من الهويّة والذاكرة، ومن ثمَّ وضعه في حالة الوعي، باعتبار هذا الأخير شرطاً جماليّاً يجب المُضي قدماً في تكريسه وتوسيع حدوده، بما في ذلك، حسب فرج دهام: اعتبار الهويّة مكملةً لحالة الوعي، وليست معطى مادياً أو شفاهيّاً فحسب.
غير أنّ إيجاد هذا الأسلوب لم يكن طفرةً غير متوقَّعة؛ فطالِب الثانويّة الصناعيّة، الذي تخصَّص في الزخرفة وتشكيل المعادن، ثم طالِب المدرسة التقنيّة العليا بالدوحة(6)، سيجد بأن تكوينه ليس خارجاً عن نواياه الفَنِّيّة، بل إنه مُتموقع في صلب الانشغال الجماليّ الذي كان بصدد تعميقه نظريّاً وتطبيقيّاً، وقد صرَّح دهام بأن مساره العلميّ: ترك أثراً دائماً في حياته العَمليّة، وساعده على دمج المنهج العلميّ بالمنهجيّة الفَنِّيّة..
هكذا، وبالعودة، مرّةً أخرى، إلى أعمال «الإحداثيات»، نخلص إلى أن فرج دهام قد عمل على حشد جماليّات الحداثة الفَنِّيّة ضدّ الجانب المُظلم من الحداثة، التي أخضعت بسلطتها الأداتيّة «الجميل إلى وظائف التسلية والترفيه، وإلى مقتضيات الصناعة الثقافيّة…». وليس بعيداً عن هذا الإخضاع، صرَّح دهام: «بأن التحوُّل البراغماتيّ والرأسماليّ، ومن ثَمَّ الطبقيّ وتعالي الإثنيات، تحوُّلات أنتجت عالماً أصبح الإنسان فيه آلةً من الداخل…»، ومن هذا المُنطلَق كان اشتغاله على «الإحداثيات» مَعنِيّاً بتفكيك التغيُّر الحداثيّ في جوانبه الاستعماليّة التي مسَّت جوهر الإنسان واقتحمته من الداخل، لتضيف إلى هشاشته وعذاباته الذاتيّة، تحدّيات أشمل وأوسع مدى في سياقٍ مكانيّ وزمانيّ محكوم بماكينة الحداثة والحروب الثقافيّة وعولمة كلّ شيء. وكشأن أي عمليّة تفكيك ميكانيكيّة تتطلَّب إعادة التلحيم والتوليف، فإنّ «الإحداثيات» من منظور فرج دهام، تبدو: «كمحاولة لتجميع شتات الكتلة البشريّة، التي حرَّكت نفسها طوعاً بحثاً عن مساراتٍ أخرى». وهي المُحاولة التي لن تقف عند أعمال «الإحداثيات»، وإنما سنجدها مستمرةً، بشكلٍ مختلف في أعماله اللاحقة، فإذا كان موضوع الإحداثيات: «فك الالتباس الداخلي بين الكتلة ومحرِّك هذه الكتلة الذي هو الآلة»، كما يقول، فهو في سلسلة أعماله المُتتالية: «الحاجز» 2009، «هدم الجدار» 2010، «لغة الشارع» 2011، «بطاقة بريدية» 2012، «فترينة» و«زهور الربيع» 2014، «أن ترى ما لا يُرى» 2019… لا يبحث عن لوحةٍ شاهدة ومتماسكة تسرد قصتها وكفى، وإنما عن لوحةٍ تفعل وظيفتها المُجتمعيّة والثقافيّة، وترتكز على قاعدة معرفيّة يكون الإنسان فيها قصّة محكيّة بلغة المُتغيِّر، وليس الثابت والساكن.
لكن حتى المُتغيِّرات المرغوب فيها، لها طعم الحزن، كما قال أناتول فرانس. كانت أحداث «الربيع العربيّ» (2011)، صحوةً جديدة للذات العربيّة، انخرط فيها فرج دهام مشاهِداً ومتفاعِلاً، بصورة تعيد الأذهان إلى مرحلته الفَنِّيّة الثانية التي شكَّلت حرب بيروت والانتفاضة الفلسطينيّة موضوعاً لها. فبعد قرابة ثلاث سنوات من التأمُّل والمُشاهَدة، وتحديداً في سنة 2014، ظهرت أعماله المُعنوَنة بـ«زهور الربيع» في سياقٍ أعاده إلى ما يشبه (إحداثيات) جديدة حاول فيها قياس الكتلة البشريّة، وهي تحرِّك نفسها بحثاً عن تحقيق أحلامها. للوهلة الأولى كانت لوحة فرج دهام، في خضم هذا المُتغيِّر الجديد، تعكس حالة فرح وبهجة شكَّلها من زهور ياسمين وحناء، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى مفارقة دراميّة تجمع، بتعبيره: «بين القوة الهائلة لهذه الزهور وبين هشاشتها، إلى أن أصبحت، كتلاً صغيرة من الفحم فوق أرض محروقة بالليل». لقد كانت هذه الأحداث أكثر من أي متغيِّر سابق، «شواهد مطروحة أمامه قسريّاً»، وبالحتمية التراجيديّة نفسها وُلِدَتْ أعمال «زهور الربيع»، ليس كما يرى ويشعر فحسب، وإنما بمفاهيم جماليّة تعيد تعريف المُمارسة الفَنِّيّة؛ ففي هذه الأعمال، أخذت الخامة تعريفاً يتحدَّد بانتفاء الخامة وقابليتها، ليس للزوال والتلاشي، كما نجدها عند مدرسة «الفَنّ الفقير» (Art Éphémère)، بل قابليتها للانتقال من المنفعةِ العامّة، إلى الاستعادةِ الفَنِّيّة. بتعبير فرج دهام: أصبحت الخامة حقيقة فنِّيّة، كونها كانت في الاستهلاك العام، ثمَّ خرجت منه باستعادةٍ ثانية ضمن عملٍ فنّي. هكذا، واستناداً إلى استحالة التحكُّم في النار والجمر، تحاكي أعمال «زهور الربيع» الأحداث في مآلاتها الخارجة عن التحكُّم، بطريقةٍ ما جعلت العمل الفَنّي يشكِّل نفسه بنفسه، تاركاً للجمر سلطة اختراق (الكامفس)، الذي مآله الفزيائيّ؛ إلى الهشاشة والنتوءات، والرمزيّ؛ إلى تحوُّل المرئيّ إلى لامرئيّ.
وإنَّ المرئيّ يفتح أعيننا على الخفيّ، كما قال الفيلسوف الإغريقيّ أناكساغوراس. وكما سبقت الإشارة، فخطابُ فرج دهام معنيٌّ بما وراء الشكل الخارجيّ. وينبغي التذكير هنا، بأنه قبل ظهور أعمال «أن ترى ما لا يُرى» 2019، لم يكن اشتغاله على هذا اللامرئيّ أسلوباً مصرَّحاً به علناً، لكنه، بدايةً من زيارته إلى مومباي (في إطار إقامة فنِّيّة نظَّمتها مؤسَّسة «ماذا عن الفَنّ؟» بمُناسبة العام الثقافيّ قطر-الهند 2019)، نجده يعلن ذلك تدريجيّاً، سواء من خلال أعمال «أن ترى ما لا يُرى»، التي هي حصيلة بحث واستقصاء في المخفيّ من المخطوطات، أو من خلال البيولوجيا، ثمَّ الأسطورة لاحقاً. فمن خلال هذا البحث يبدو كأن فرج دهام يفتح ورشته على بداية مرحلةٍ أخرى تضعنا أمام لوحة مختبريّة ملزمة بتكبير مجال المُشاهدة الدقيقة لكشف المجهريّ والمخفيّ، إذ لم تعد، المُتغيِّرات والظواهر والمُشاهَدات الخارجيّة ضمن اهتماماته، كما كانت سابقاً.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 – جماليّة الحداثة، أدورنو ومدرسة فرانكفورت، عبد العالي معزوز (2011، عن منتدى المعارف).
2 – مارك جيمنيز: الجماليّة المُعاصِرة.. الاتجاهات والرهانات. ترجمة كمال بومنير.
3 – كتيب معرض زهور الربيع 2014.
4 – يستند المقال إلى لقاءٍ خاصّ جمع كاتِب المقال بالفَنَّان في مقرّ ورشته الفَنِّيّة بـ(مطافئ: مقرّ الفَنَّانين) الدوحة.
5 – مارك جيمنيز: الجماليّة المُعاصِرة.. الاتجاهات والرهانات. ترجمة كمال بومنير.
6 – حاصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام (1984) ثم ماجستير الفنون الجميلة من جامعة بول ستيت، أنديانا أميركا (1988).