فنّ لعب كرة القدم

| 10 نوفمبر 2022 |
إنّ اقتفاء أثر تاريخ لعبة كرة القدم من خلال البحث عن الجوانب الإنسانية بعيداً عن النتيجة الرياضية، هو سردٌ لقصص الأفكار والمُثل العليا، والأفراد الذين جسَّدوها. هل يمكن الحديث عن كرة قدم مختلفة؟ ما هو حاصل ذكاء كرة القدم؟ من قتل الكاتيناتشيو الإيطالي؟ هل الهجوم حقّاً أفضل من الدفاع؟ هل يصنع اللاعبون العظماء مدرِّبين عظماء؟ ما هي الحركة التكتيكية؟ وهل من الأفضل الخسارة مع اللعب الجيّد أم الفوز رغم الأداء المُتواضع؟ وقبل كل شيء، لمَنْ تعود الأفكار الخاصة بكرة القدم ومَنْ يدفعنا للتفكير في كيفية اللعب منذ عقود؟ في كتابه «التكتيكات ومدارس اللعب والمبادئ والأصول»، يحاول ماركوس كوفمان الإجابة عن عددٍ كبير من هذه الأسئلة.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت كرةُ القدم فترةً تعرَّضت فيها المساعي الرامية لتطوير فنون اللعب والمجد الرياضي في الملاعب إلى الخطر بسبب طغيان الطابع التسويقي وصناعة النجومية. ورغم أن التكتيكات، فن صناعة اللعب، كانت دائماً في قلب معركة مفتوحة بين الأفكار والإحصاءات والحالمين والبراغماتيين والفلاسفة والفيزيائيين، إلّا أن خطاب اللعبة كان خافتاً بسبب سطوة الأرقام، والاقتصاد والنتيجة. بعد أن هيمن الخبراء العلميون على الخطاب التكتيكي. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الموهوبون يمارسون بمُفردهم، وأحياناً في أزواج، رياضة كرة القدم مدفوعين بقوة العضلات وألعاب القوى التي تتطلَّب مستوى بدنيّاً عالياً للغاية. ومع ذلك، في خضم كل تلك التحوُّلات، لا يزال هناك الكثير من القصص التي يمكن سردها بعيداً عن النتيجة التي تطغى في الأخير، وتظلّ التكتيكات اجتهاداتٍ بشرية أيضاً، والفوز لا يكون دائماً حليف الجدارة.
قبل وقتٍ طويل من ظهور أنظمة اللعب والأزياء المثلّثة، يستهل المُؤلِّف كتابه «تكتيكات» بفهم طبيعة المُهمَّة الثقافية، وهو نموذج مطلق تمَّ تأسيسه بناء على قيم محلية تحدّد معنى النجاح لكل فريق. برشلونة، على سبيل المثال، أكبر من مجرّد فريق رياضي، يهدف إلى نشر القيم الكاتالونية وجعلها تتألق خارج الحدود. يوفنتوس لا يقترن وجوده إلّا بالفوز: «أن تفوز ليس مهمّاً فحسب، إنه الشيء الوحيد المُهمّ». أو كذلك السلطة الملكية الراسخة في أسلوب لعب ريال مدريد، وبيع مشروبات الطاقة التي تحمل اسم نادي كرة قدم ألماني «RB Leipzig»، أو كذلك الانتصار المُتناغم لنادي أرسنال الإنجليزي تحت شعار «النصر يتحقّق في انسجام». أما نادي باريس سان جرمان فقد اتخذ شعاراً طموحاً بشكلٍ استثنائي: «حلمنا أكبر من الجميع»، في مقابل الشعار الواقعي «إذا بحثت عن مشكلة فستجدها» لفريق رابطة نانسي لورين الرياضية. وبعيداً عن الأداء الرياضي، فإنّ لكرة القدم سحرها الخاص فهي تعني الكثير للجماهير والمُتابعين.
من هذه المُهمّة الثقافية تنبع فلسفة اللعب واختيار المدرب ومشروعه في اللعب، ومن هذا المنظور أيضاً تصبح التكتيكات ترجمة للهويّة الثقافية إلى أنماط وحركات ولعب، وعواطف ومآثر وكوارث. ماذا لو تخيّلنا ملاعب مليئة بالمُشجعين المُخلصين الذين يأتون لمُشاهدة مقابلة تنافسية بين اللحم الإيطالي واللحم الإسباني، أو بين لحم البقر الفرنسي واللحم الأرجنتيني. من المُؤكَّد أن الحشد لن يناقش التنظيمات أو الإحصائيات، بل الأذواق والنكهات. مباراة كرة القدم لا تختلف عن ذلك. فالمشهد الكروي الإنجليزي لا يُثير حماسة الإسبانيين. والهولنديون يعتبرون رمية التماس تعطيلاً لنسق اللعب، بينما تصبح في نظر الإسكندنافيين فرصةً لتسجيل الأهداف. أما الإيطاليون فهم يلعبون كرة القدم دون لمس الكرة في منطقة الجزاء الخاصة بهم بنفس المُتعة لدى البرازيليين في اختراع المُراوغات على طول خط التماس. والفكرة المُشتركة لكل هذه الخصوصيات: التعبير الجماعي عن فكرة تعكس كرة القدم، وأحياناً الحياة بشكلٍ عام.
وعلى غرار الطهي، يمكن التعبير عن كرة القدم ومشاركتها من منظور القيم الثقافية المحلية التي تختلف من بلدٍ إلى آخر، ومن قريةٍ إلى أخرى. لكن بينما تعلَّم الإنسان الاستفادة من جميع المأكولات، فإنّ التكتيك لا يمكنه التطوُّر بمعزل عن إمتاع براعم التذوُّق لدى المُؤيدين. مباراة كرة القدم هي لقاء بين خطتين تكتيكيتين. إنه توازن قوى: يمكن تنفيذ تكتيك على أكمل وجه مع الفشل في النتيجة، أو اللعب بتكتيكات متواضعة وتحقيق الانتصار. إنّ تاريخ كرة القدم المُمتد لقرونٍ قد حفَّز جميع أنواع مشاريع الألعاب، والتكتيكات تفتح الأبواب لناقشات أبدية مثل الفنّ والفلسفة. وفي حين أن العمل الفنيّ يكون قائماً بذاته، فإنّ التكتيك الرابح دائماً ما يكون نسبياً ويتغيَّر بتغيُّر المُنافس والعصر، وبالأخص طبيعة اللاعبين على الميدان. ومنذ القدم كان يتمُّ التعبير عن التكتيكات وشرحها في شكل بيادق أو مكوِّنات أو نقاط مطيعة على لوحة «فيليدا»، ومع ذلك فإنّ تاريخها يشمل كل شيء من رقعة الشطرنج إلى مهارات اللاعبين وغرف ملابسهم.
في جميع القارات، وفي جميع الأحياء، تبدأ كرة القدم في الشوارع والمُتنزهات. كل ما يتطلَّبه الأمر موهبة وكرة مستديرة، ولعب خلال فترات ما بعد الظهر الطويلة. ثمَّ تتقاذف الأرجل الكرة وترقص على إيقاع التمريرات والمُراوغات والتسديدات ومهارات التحكّم والترويض… ولكن منذ لقاءاتنا الأولى، سواء اثنان ضد اثنين، أو فريق مكوَّن من أحد عشر لاعباً، سرقت الكرة منّا أوقاتنا وتفكيرنا. على أرضية الميدان يتدرَّب اللاعب الشاب على التكتيكات. مَنْ يلعب أولاً وأين الوجهة؟ عندما أهاجم، هل يجب أن أبتعد لأطلب الكرة أم أقترب من حامل الكرة؟ عندما أدافع، هل يجب أن أضغط أم أتراجع؟ وقد يشكِّل الاكتشاف مفاجأة: كرة القدم تُلعب بالفعل حول الكرة، ودون الحاجة إلى لمسها. عليك أن تعرف كيف تبرز، وتغطي، وتضغط، وتغادر لتقتحم الأسوار وتشقّ منفذاً إلى زميلك في الفريق… ورغم أن التكتيكات كانت ترسم دائماً على السبورة المُثبتة في الجزء الخلفي من غرف تغيير الملابس الباردة، إلّا أنها كانت دائماً هناك تتطوَّر وتختفي وتعود من جديد في دفء أقدام ورؤوس اللاعبين الصغار والكبار.
على عكس الرياضات في أميركا الشمالية، حيث يستغل المُدرِّب فتراتِ اللعب المُتقطعة وتوقُّف اللعب للتذكير بالتكتيكات وتعديلها، ويجتمع باللاعبين و«يطالبهم» باعتماد هذا الأسلوب أو ذاك، فإنّ كرة القدم الشعبية كانت دائمة سلسة تتطوَّر منحنياتها وهندستها بمرور الزمن. تسلسل غير متقطع من العمليات، الفردية والجماعية. العمل التكتيكي، الذي يُعرَّف بأنه التنفيذ الفنيّ لقرارٍ ما، هو ثمرة الفهم الفردي الذكي لهذه السلاسة والتناسق الجماعي. مدافع مركزي يلعب في العُمق لضرب دفاع الخصم أو يستحوذ على الكرة ليدفع بالخصم للتحرُّك والضغط عليه وإفساح المجال للاعب خط الوسط، الظهير الذي يتحرَّك إلى الداخل أو يلتصق بالخط الجانبي بالتزامن مع لعب الكرة على الجناح المُقابل، ولاعب خط وسط مبدع يراوغ باللعب باتجاه أحد الأجنحة لعكس الهجوم على الجانب الآخر… التكتيك، أو عِلم حلّ مشكلة ضيق الوقت والمساحة الذي لطالما ميَّز كرة القدم، هو بمثابة التزاوج بين المهارة ومعرفة اتخاذ القرار.
في ملاعبنا، تعمل الانسيابية في اللعب على تشتيت التكتيكات: التحفة التكتيكية ليست مسألة تعديلات على إعدادات معيَّنة مسبقاً، كما هو الحال في وحدة التحكُّم، ولا النسب المئوية أو المواقع السحرية. تظلّ التكتيكات علماً بشرياً يعتمد نجاحها على صحة مبادئ اللعب لدى المُدرِّب بقدر ما يعتمد على نقل قناعاته وتنفيذها في مواجهة الصعوبات. وستظلّ التكتيكات دائماً، حتى بعد أن أصبحت مجالاً مفضلاً للدراسة لدى محللي البيانات في جميع أنحاء العَالَم، علماً متناغماً مع الفيزياء والإحصائيات والتخطيط، وكذلك مع مبادئ الإيمان والمُشاركة والإبداع.
إنَّ اقتفاء أثر تاريخ لعبة كرة القدم من خلال البحث عن الجوانب الإنسانية بعيداً عن النتيجة الرياضية، هو سرد لقصة الأفكار والمُثل العليا، وأولئك الذين جسَّدوها. قصة تروي فصول تقابل النظام والحرّيّة، والدرع والسيف، وصراع بيلاردو ومينوتي، وأحلام باتو وهيدالغو. لذلك كانت التكتيكات ملكاً للجميع على مرّ الأزمنة؛ من المُشجِّعين الذين يسعون إلى تحقيق هويّتهم من خلالها، إلى اللاعبين الذين يتفنَّنون في تجسيدها أو المُدرِّبين الذين يسعون إلى تطبيقها على الميدان.
ماركوس كوفمان
المصدر:
https://www.sofoot.com/l-art-du-comment-jouer-au-foot-499029.html