فيلم «الأب».. فلوريان زيلر وسينما النوع

ترجمة: مونية فارس  |  30 سبتمبر 2021  |  

«Le père (الأب)» أو «The father (الأب)»، الأول عنوان مسرحية، والثاني عنوان فيلم  للمُخرج نفسه، ومع ذلك العملان يختلفان بشكلٍ جذري. فبعد العرض الناجح للمسرحية، احتلَّ فلوريان زيلر – Florian Zeller مكانه كعنصر أساسيّ في المشهد المسرحي بفرنسا. أمّا الفيلم فقد حوَّله على الفور إلى مخرج يستحق الإعجاب. على الأَقلّ لكونه أعاد صياغة مادة المسرحية بأدوات السينما: فالمُقاربة السينمائيّة التي تبنَّاها «زيلر» حافظت على نفس القوة العاطفيّة، ولكنها تلافت استدرار شفقة المُتفرِّجين، واستخدمت الغموض الذي نجده في أفلام الجريمة وفي الأعمال الدرامية للمُخرج السويديّ «إنغمار برغمان»، ولكن من دون أن تسقط في فخ التقليد. ويندرج هذا الفيلم ضمن تقليد سينمائي -ينطلق مع الدوار الذهني كما صوَّره رومان بولانسكي في بداياته، وينتهي عند التجارب الحسيّة لـ«دارين أرونوفسكي»- مع تأكيده في الآن نفسه لحساسية ورؤية بالغة الخصوصيّة. رؤية مؤلِّف التأم فيه الحس المُرهف بعِلم الإخراج، وتعزَّزت لديه الموهبة بالمعرفة النظريّة.

بعد أن تمَّ اقتباسه عن مسرحية حقَّقت نجاحاً باهراً في جميع أنحاء العَالَم، فرض فيلم «الأب – THE FATHER» نفسه كشهادة ميلاد بالغة الصلابة في مجال السينما.. إليكم هذا الحوار مع مخرج لم يكن أحد يتوقَّع صعوده.

المُخرج: فلوريان زيلر – Florian Zeller

لماذا اخترت مقارَبة آلزهايمر من الداخل، وذلك عن طريق رؤيته بعيون شخص أصيب بهذا المرض؟

– عادةً ما يتمُّ التطرُّق لهذا المرض في السينما عبر زاوية النظر الخارجيّة لأقارب المرضى… يمكن لذلك أن يعطينا أفلاماً قوية، تثير العواطف، ولكن في هذه الحالة، نكون دائماً على علم بمكان تواجدنا، وأيضاً بالوجهة التي نسير نحوها. لذا تجدنا نشاهد ما يجري بشكلٍ سلبي، لأننا نشاهد قصة مكتوبة مسبقاً. والحال أن هدفي كان عكس ذلك: أردت أن أترك مساحة شاغرة لا يمكن ملؤها إلّا من قِبل المُتفرِّجين. ومع ذلك، وعلى الرغم من إعجابي الشديد بأفلام دافيد لينش، فقد حاولت عدم الاقتداء به في تصوير أحلام اليقظة، والاستيهامات وأجزاء الواقع الموضوعة بعضها فوق بعض. فقد تمَّ تصميم لغز الفيلم بطريقة تتيح للمُشاهدين أنفسهم تجميع عناصره، بحيث يتحقَّق المعنى مع اكتمال الصورة، لكنني حرصت دائماً على أن تظلَّ هناك قطعة مفقودة، بحيث تفضي عملية تشكيل المعنى هذه بشكلٍ منهجي إلى نوعٍ من الطريق المسدود. كان هدفي هو وضع الناس في نفس الحالة التي يوجد عليها مريض دماغه لا يَقوى على فهم ما يحدث بشكلٍ كامل، وأكثر من ذلك لا يستطيع القبول به، ثمَّ حملهم على الاستسلام الذي من شأنه أن يقودهم إلى القيام بقراءة أكثر عاطفية للأحداث. أردت ألّا يكون الفيلم لعبةً بسيطة للعقل، ولكن أن يفضي بالمُشاهد، ولو عبر مسارٍ سردي معقَّد، إلى مكان شديد البساطة ومهيِّج للعواطف. عندما يقول البطل بأنه يشعر وكأنه يفقد كل أوراقه، هذه الجملة في حدِّ ذاتها لا تعني شيئاً، ولكن إذا كنا قد وصلنا إلى حالة الاستسلام كما تحدَّثنا عنها، فسنفهم جيداً ما تعبِّر عنه. هذا هو المكان الذي أردت الوصول إليه من خلال هذا الفيلم.

هل كنت تطمح أيضاً إلى أخذ نصيبك من فرصة اللعب التي يتيحها الإخراج السينمائيّ أكثر من الإخراج المسرحي، لأننا في السينما يمكن أن نلعب قليلاً بالفروق بين زوايا النظر للواقع وأيضاً بالخدع السينمائيّة؟

-سأكون واضحاً. الفيلم يُشبه إلى حدٍّ ما لعبة البحث عن الكنز، مع قليل من التلاعب. تمَّ تصميم الفيلم في البداية على شكل متاهة، ولكن لم يكن يكفي أن نجعل الناس يتوهون بداخلها، لأن ذلك سهل جداً. ما أردته هو خلق شعور بفقدان الواقع. فأنا لم أكن أريد إخراج مسرحية مصوَّرة. أردت استخدام ما تقدِّمه السينما من إمكانات لجعل تجربة الاضطراب هذه أكثر إرباكاً وأكثر عمقاً. وأردت أيضاً الذهاب عكس بعض المبادئ المُتعارف عليها في تجربة اقتباس فيلم سينمائي من أصل مسرحي، حيث في كثير من الأحيان، نضيف مشاهد من الخارج لإعطاء الانطباع بأن مجال الحكاية قد اتّسع. على العكس من ذلك، أردت البقاء في هذه الشقة لاستخدام هذا الديكور واللعب بأدوات السينما. على سبيل المثال، عبر إدخال تعديلات مستمرّة في الخلفية مع إخفائها قدر الإمكان، بهدف رسم خط سردي آخر، يساهم في استمرار الحيرة، وعدم اليقين، للدرجة التي تجعل المُشاهِد يشكّ فيما يعتقد أنه رآه. عندما كتبت السيناريو، قمت فوراً برسم تصميم لهذه الشقة، التي كانت أساسيّة في هذا المشروع بقدر مسار الشخصيّة نفسها.

مفهوم الحيرة هذا يقذف على الفور بالفيلم إلى خانة فيلم الجريمة الذي تعاني فيه إحدى الشخصيّات من القلق والارتياب والوساوس، بل وحتى خانة السينما العجائبيّة. هل كانت تلك طريقة للتحرُّر من المسرحية؟ طريقة تخبر بها المُشاهِد منذ البداية بأنه لن يرى الشيء نفسه؟  

– هذا صحيح جزئياً. أنا مقتنع بأن «الأب» ليس فيلماً عن مرض آلزهايمر… وفي نفس الوقت أعي بأنه كذلك على أية حال. لكنني أردته أن يكون أكثر من ذلك بكثير. فإذا جاء أحدهم وقال لي: «حسنا، هناك فيلم عن مرض آلزهايمر من بطولة أنتوني هوبكنز وهو مؤثر جداً»، ربما لن أرغب كثيراً في الذهاب لرؤيته، لأنه على الورق، سيعطيني الشعور بأنني قد رأيت مثله من قبل، وبأنه ينتمي إلى السينما القائمة على التكرار. والحال أنني أردت لفيلم «الأب» أن يكون عكس ذلك تماماً، أن يتقدَّم للناس كفكرة معيَّنة، ومع ذلك لا يتوقَّف عن إظهار أفكار أخرى لهم. لذلك فإنّ الفيلم يُفتتَح بأجواء تنتمي إلى أفلام الجريمة السيكولوجيّة أو يستعير بعض العناصر من سينما الرعب. من ناحيةٍ أخرى، أعتقد بصدق أنه تتمُّ الاستهانة بذكاء المُشاهِد. ومن هذا المُنطلق، لم أرغب في جعل الأمور سهلة جداً عليه. العمل مع أنتوني هوبكنز كان أيضاً جزءاً من هذه الاستراتيجيّة: كل ممثل معروف فهو يحمل معه رغماً عنه مجموع ما أنجزه من أعمال. وبالنسبة للجمهور، يجسِّد هوبكنز قدرة لا تُصدَّق على خلق جو من القلق والخطر والأشياء غير المُعلنة. وأنا استخدمت كل ذلك بطبيعة الحال كمؤشر زائف، بحيث لا يمكن للمُشاهِد في أي لحظة من لحظات الفيلم أن يقول: «حسناً، لقد فهمت الموضوع».

هل تقول إنّ الفرق الملموس بين المسرحية والفيلم يكمن في أعمال المُونتاج، والذي يسمح لك بالتركيز على الاختلافات الدقيقة، ما يغذِّي الحيرة التي تبحث عنها من خلال الفيلم، والتي يكاد يكون من المُستحيل ظهورها في المسرح؟

-يمكن للمرء أن يعتقد في الواقع بعد رؤيته للفيلم أنّ العديد من الأشياء، مثل سيولة السرد، لم تخرج إلى الوجود إلّا أثناء المُونتاج. ومع ذلك، فأنا أؤكِّد أن المُونتاج ظلَّ وفياً للسيناريو. ومع أنه شكَّل خطوةً حاسمة في إنجاز الفيلم إلّا أنني لم أعشه كإعادة كتابة لهذا الأخير. عملت مع المونتير يورغوس لامبرينوس، الذي شدّني ما أنجزه في فيلم JUSQU’À LA GARDE. واتفقنا على أننا لا نرغب باكتشاف السرد في غرفة المُونتاج، بل نرغب في نقل ما يطرحه السيناريو والديكور بشكلٍ كامل.

على سبيل المثال، في المشهد الذي نرى فيه أنتوني هوبكنز يعثر على أكياس زرقاء في المطبخ، حيث لم يعرف من أين أتت هذه الأكياس، ولكنه قرَّر أن يخبئها في جيبه. هذا مشهد ثابت وطويل بالقدر الذي يسمح لنا بتحديد عناصره. في وقتٍ لاحق، ومن خلال زاوية الرؤية ذاتها، ولكن في مطبخ مختلف تماماً، نشاهد أوليفيا كولمان تضع نفس الأكياس الزرقاء على طاولة أخرى، غير أنها تتواجد في نفس المكان الذي كانت تتواجد به الطاولة الأولى في المشهد من قبل. بالنسبة للمُشاهِد، الأمر واضح جداً: فهو يرى أننا في اللقطة المُوالية، غير أنه يندهش من تناقض ذلك مع التسلسل الزمنيّ للقصة. المُونتاج أفادنا كثيراً في إدخال هذه الالتواءات، ولكن فقط من أجل تسخيرها لخدمة السيناريو. هذه القوة التي يتيحها تجاور الصور لا نجدها إلّا في السينما، ومن المُستحيل أن نجدها على المسرح.

يعيدنا ذلك إلى مسألة علاقتك، كمُشاهِد، بسينما النوع. ومبدأ الارتباك أو الفضاء الذهنيّ يعود بنا إلى الأفلام الأولى لرومان بولانسكي أو دارين أرونوفسكي…

-عندما قرَّرت أن أخرج فيلماً لن يغادر هذه الشقة أبداً، لأن ذلك إكراهٌ سيغني الفيلم عوض أن يفقره، تساءلت عن الأفلام التي تمكَّنت من تناول مبدأ الفضاء المُغلق دون أن تظل حبيسة للشكل المسرحي، ومن البديهي أن فيلم روز ماري بيبي قد فرض نفسه بقوة. لقد أدركت، حينما رأيته مرّةً أخرى، كيف أن بولانسكي جعل من الشقة شخصيّة محسوسة ونفخ فيها الحياة بشكلٍ حرفي…

كانت هناك مرحلة أخرى بين المسرحية والفيلم: فقد تمَّ اقتباسها في عمل سينمائيّ، ولكن من زاوية مختلفة جداً من خلال فيلم «فلوريد»، للمُخرج فيليب لو غاي. ما رأيك في هذه التجربة؟

– لقد انطلق من نفس المسرحية، ولكن لأسبابٍ عديدة خاصة بتصوُّر ذلك الفيلم، ابتعد عنها تدريجيّاً حتى تحوَّل إلى قصة أخرى تماماً، قصة شخصيّة فقدت إحساسها بالواقع. لقد سلك طريقاً عكس الذي سلكته في فيلمي تماماً. «فلوريد يروي حكاية، وأنا أردت لفيلمي أن يجعل المُشاهد يعيش تجربة. ولقد كانت هناك محاولات أخرى غير فلوريد لاقتباس مسرحية «الأب»، من إنجلترا والولايات المُتحدة الأميركيّة على وجه الخصوص، ولكن حينها كنت قد بدأت أعرف بأنني أريد أن أحوّلها بنفسي إلى فيلم. وقد استغرق مني ذلك ثلاث سنوات. كان يلزمني إقناع الكثير من الناس بأنني قادر على الإخراج السينمائيّ، فلم تكن تلك أول تجربة لي في ميدان السينما فحسب، بل إنّ الفيلم كان أيضاً بلغة أخرى غير لغتي. كانت تلك كلها عقبات أمام إنجاز فيلم مستقل ناطق بالإنجليزيّة. وحتى مع ممثلين كالذين حصلنا عليهم، كان أمراً في غاية الصعوبة. أريد أن أؤكِّد أمراً لأننا ننسى في كثيرٍ من الأحيان إلى أي حدّ فرنسا بلد السينما، وإلى أي حدّ تساعد على إنتاجها. فحالما صرَّحت بأنني أنوي إخراج فيلمي باللغة الإنجليزيّة، تمَّ إقصائي من أي دعم من المركز السينمائيّ الفرنسيّ أو من القنوات الفرنسيّة. ووجدت نفسي أمام ما يسمونه بالسوق. وقوانين هذا الأخير لا تتوافق دائماً مع طبيعة السينما المُستقلّة. إنجاز هذا الفيلم ذكَّرني بأنه على الرغم من أن نظامنا مليء بالعيوب، فهو يشكِّل امتيازاً كبيراً.

حوار: أليكس ماسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العنوان الأصلي والمصدر:

Florian Zeller un cinéma de genre

Cinéma Teaser, N 103 JUIN 2021

رابط تحميل العدد كامل

مواضيع مرتبطة

كازوو إيشيغيرو: يمكن لأمور إيجابية أن تحدث
ترجمة: نبيل موميد 02 يناير 2022
لاريسا بندر: الأدب يردم الهوَّة بين الثقافات
حوار: حسن الوزاني 07 يوليو 2021
حسن أوريد: الرواية التاريخية في مأمن من الرقابة
حوار: السيد حسين 26 مايو 2021
آمنة بلعلى: النقد العربي لم يُساير التحوّلات
حوار: نوارة لحرش 26 أبريل 2021
محمّد ساري: الكاتب يحبّ الإطراء، ويمقتُ النقد!
حوار: نوارة لحرش 17 مارس 2021
كافكا والسّنواتُ الحاسمة
ترجمة: محمد الفحايم 17 مارس 2021
المترجم التونسي عبد الجليل العربي: أصعب ما ترجمته
حوار: فيصل رشدي 08 فبراير 2021
بشير مفتي: لا أكتب لأطلب مالاً أو شهرة
حوار: السيد حسين 14 يناير 2021
لين فنغمين: المستعربون الصينيّون ضدّ المركزيّة الغربيّة
حوار: حسن الوزاني 11 يناير 2021
هيرفيه لو تيلييه.. مواجهة المرء لنفْسه
ترجمة: فيصل أبو الطُّفَيْل 01 يناير 2021

مقالات أخرى للكاتب

باتريك موديانو: يمكن حذف عناوين رواياتي للحصول على كتاب واحد
07 سبتمبر 2022

أصدر باتريك موديانو، الكاتب الذي تحصَّلَ على جائزة «نوبل» للآداب، لعام (2014)، روايته الثلاثين الموسومة بـ «شيفروز – Chevreuse». ونجد فيها الظلال المتداخلة والملتبسة نفسها، والأماكن نفسها، والشابّ نفسه الذي يتطلَّع ليصير كاتباً، وهي العناصر نفسها التي نجدها...

اقرا المزيد