في الحاجة إلى لقاح ضد الخوف!

| 01 أبريل 2020 |
على مرّ التاريخ، شكَّلت الأوبئة أبرز تحدٍّ أمام استمرار النوع البشريّ. بين تفكيك الهرم السكّاني، إضعاف الموارد الطبيعيّة، التمرُّدات السياسيّة والاجتماعيّّة وخطر الانقراض، ظلّت الأمراض والفيروسات واسعة الانتشار عائقاً حقيقياًّ أمام تطوير شروط العيش الكريم بالعديد من المجتمعات الإنسانيّة. كان علينا انتظار بدايات الثورة الصناعية الأولى خلال القرن الثامن عشر من أجل القضاء على العديد من الأمراض والأوبئة التي روعت البشريّة لقرونٍ وقرون، بفضل تطوُّر قطاع الطب والأدوية من جهةٍ، وحاجة المصانع والشركات إلى اليد العاملة من جهةٍ أخرى. اليوم، لا يختلف الأمر كثيراً عن الماضي فيما يتعلَّق بالانتشار الموسمي للأوبئة والفيروسات، حيث لازال الهلع الجماعي، تسليع الأزمات والخوف من خطر الانقراض سيد الموقف. المُستجَد في هذا السياق هو تطوُّر إمكانات الذَّكاء الصناعي والثورة الصناعيّة الرابعة لصالح قوى الاقتصاد والشركات الكبرى على حساب الصحَّة العامّة. فكيف يتفاعل المجتمع الفرنسيّ مع «وباء كورونا COVID-19) «Coronavirus Disease) خلال العصر الرَّقميّ؟ وما هي ردود أفعال المُثقَّفين والمُفكِّرين إزاء الوباء وتداعياته الاجتماعيّّة والاقتصاديّة المختلفة؟
«يرتبط الذعر الجماعيّ المرافق لانتشار فيروس كورونا بالخوف من المجهول». بهذه العبارة يعلق الفيلسوف الفرنسي «كريستوف الصالح Christophe Al-Saleh» على التعاطي الجماعي مع الفيروس منذ ظهوره وإلى حدود انتشاره العالمي الراهن. بالنسبة له، يمكن التمييز بين مرحلتين اثنتين ضمن التعاطي الاجتماعيّ مع فيروس كورونا: أوّلاً، مرحلة اللامبالاة. في هذا السياق، تمّ تمثّل المرض على أنه خطر بعيد (مجاليّاً وثقافيّاً)، مرتبط بالآخر (الصيني بالضرورة)، مع محاولات لإحياء المركزية الغربية تنبع بالضرورة من خوف تاريخيّ دفين من الأوبئة. ثانياً، مرحلة الذعر. في هذه المرحلة أصبح الخطر قريباً، خاصّة بفرنسا وباقي الدول الأوروبيّة، ومازلنا لا نعرف جوهره، في ظلّ غياب أي علاج أو لقاح للمرض. وبالتالي، يتزاوج الشعور باللايقين في الحياة المُعاصِرة مع الخوف من المجهول في إنتاج حالة من الهستيريا والذعر الجماعي التي تعمينا عن حقيقة المرض وتجعلنا قلقين من شيء غير معروف أكثر من خوفنا من شيء معروف في حدِّ ذاته بلغة هايدغر.
لقد عايشت البشريّة أوبئة وأمراضاً فتاكة (الطاعون، الجدري…)، لكنها ما عادت تثير اهتمامنا اليوم رغم أنها مازالت موجودة، ليس لأننا اخترعنا علاجات لها، وإنما لأنها لم تعد بعد مصدر قلق أو خوف من خطر الموت والانقراض. وإلى اليوم، لازالت العديد من الأمراض والأوبئة (بما فيها باقي أنواع الأنفلونزا، أمراض سوء التغذية، السرطان…) تحصد أرواح مئات الملايين سنوياً دون أن نعير الأمر كثيراً من الاهتمام. صحيح أنّ الإعلام والأنفوسفير قد ضخَّما من حجم فيروس كورونا، إلّا أن الفضول الإنساني والخوف واللايقين إزاء المجهول والمستقبل و«الذعر العاطفي المنفلت من شروط العقلنة» هو ما يفسِّر الهلع العام واستنزاف المحلّات التجارية من الأطعمة والمستلزمات الطبية بفرنسا كما بباقي الدول والمجتمعات، يضيف كريستوف الصالح.
لقد فرضت الحياة الحضرية المُعاصِرة الانخراط في نمط حياة مستقرة إلى حدٍّ كبير قائمة على الاستهلاك، الحرّيّة والاستلاب الرَّقميّ. لذلك، أضحينا نعيش فيما يصطلح عليه عالم الاجتماع الفرنسي «باسكال لاردييه Pascal Lardellier» «مجتمع المخاطر المنعدمة – La société du risque zéro»، حيث يمكن لأقلّ اضطراب أن يُتمثل ككارثة مطلقة. وعلى هذا، فتحت أزمة كورونا حقبةً جديدة من اللايقين والتشكيك والهلع العام يضيف لاردييه. والواقع أن هذا النمط من الاستكانة الاجتماعيّة قد ربط الأمراض والأوبئة دائماً بالآخر البعيد والمختلف، وكلَّما اقتربت هذه الأمراض وانتشرت على نطاقٍ أوسع أعادت إلى الأذهان أحداث التاريخ والماضي وأسهمت في سيادة القلق العام من جديد.
يعود عالم الاجتماع «جيرارد ميرميه Gérard Mermet»، مؤلف كتاب (1 )«Francoscopie 2030»، إلى الأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تعيشها فرنسا منذ بدايات حركات السترات الصفراء من أجل تبيان إسهامها الكبير في بناء الخوف والهلع الاجتماعيّ لدى الفرنسيين. «فإذا اضطررنا إلى ابتكار لقاح، فيجب أن يكون لقاحاً ضدّ الخوف وليس ضدّ مرض كورونا»، يؤكِّد ميرميه. لقد أسهم الخوف العام في انتقالنا من مرحلة البحث عن العيش إلى الصِّراع من أجل البقاء على قيد الحياة وما يترتَّب عن ذلك من انسدادٍ في أفق التفكير والنظر إلى المستقبل. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تنشط من جديد حركات اليمين المتطرِّف ومعاداة الأجانب والمسلمين في المستقبل القريب نظراً لانتشار مظاهر الانهزامية والانسحابين بين عموم الفرنسيين، وكأن الأمر يتعلَّق بأزمة نهاية العالم مصدرها الأساس هو الآخر.
في تحقيق نشرته جريدة «لو باريزيان» (Le Parisien) الفرنسيّة، تبيَّن أن ما يقرب من ثلثي الفرنسيين قلقون إزاء انتشار فيروس كورونا، وهي نسبة أعلى مرَّتين من القلق العام الذي رافق انتشار فيروس أنفلونزا الخنازير سنة 2009. يربط التقرير طردياً بين انتشار حدّة المرض على نطاقٍ عالمي وتزايد الخوف والهلع الجماعيّ الذي يتجاوز المرض نفسه. في الواقع، يمكن القول بأن الأمراض والأوبئة بناءات اجتماعيّة، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي «جيرالد برونر Gérald Bronner»، مرتبطة بطبيعة التمثّلات الاجتماعيّة والثقافيّة التي قد تتجاوز حدود العقل والمنطق لتسهم في نشر المرض على نطاقٍ أوسع انطلاقاً من سلوكات جمعية عفوية وغير مؤطّرة علميّاً وطبيّاً. لهذا، يمكن للتشكيل الجمعي لفكرة المرض وفكرة الخوف منه أن يفتح المجال أمام انتشار الخرافة، الشائعات والقلق الاجتماعيّ على حساب سلوكيات الوقاية الطبيّة.
يعتبر جيرالد برونر أن التعاطي الفرنسي مع انتشار الفيروس قد اتخذ طابع «الفضيلة والمهادنة»، عكس الصين وإيطاليا، حيث الإكراه والإجبار والحجر الصِّحيّ منطلقات أساس لمنع انتشار المرض، إلّا أنه لم يمنع من خلق سوق اجتماعيّ من القلق والسذاجة العامّة الذي يخرج عن النسق العام للعقلنة الغربية ويسقط في فخ فكر المُؤامرة بفعل تأثير الأخبار والمعلومات الزائفة التي تفجرت بشكلٍ كبير ضمن العصر الرَّقميّ. نتيجة لذلك، وبالإضافة إلى ضرورة محاربة الخوف والهلع العام، لابدّ أيضاً من التفكير في مواجهة التدفُّق الكبير وغير المُنظّم للمعلومات، يضيف برونر. لقد أثبت فيروس كورونا ضعفاً كبيراً في التعاطي الجماهيري مع المعطيات العلمية والطبية بالموازاة مع الرغبة في أسطرة الهلع والقلق من المجهول ضمن عصر رقميّ يفترض أن يقرّب المعارف العلميّة من العموم بدل تعميم الجهل المُركَّب.
لابدّ من الإشارة إلى أن التعاطي السياسيّ والاقتصاديّ مع فيروس كورونا قد أسهم بدوره في تعزيز نسق الهلع والقلق الجماهيريّ. إن انتهاج تدابير احتواء وعزل صحيّ غير مسبوقة بأوروبا، بلغة «أنطونيو ماتورو Antonio Maturo»، رغم الطبيعة الاعتيادية للأنفلونزا عموماً، هو بالضرورة تجسيد لمخرجات رأسماليّة المُراقبة الهادفة إلى تقييد الحرّيّة والسلوكات الإنسانيّة وتوجيه الهلع العام نحو الاستهلاك بالدرجة الأولى. لا يجب التغاضي عن كون تدابير احتواء المرض قد أضحت تحد من الحرّيّة الفردية للمواطنين وتستبيح انتهاك خصوصياتهم، في الحياة الواقعية كما الرَّقميّة، كما أن الهلع العام يترافق مع ندرة واحتكار المنتجات الطبيّة والأساس. وعلى هذا، يصبح تسليع المرض والقلق العام سبيلاً لتوجيه الرأي العام والتحكُّم في السلوك الإنسانيّ في وضعية الأزمات بفضل إمكانات العصر الرَّقميّ.
قصارى القول، إن انتشار الأوبئة والأمراض تُبيِّن إلى أي حدٍّ لازال الإنسان كائناً هشّاً وضعيفاً في مواجهة الطبيعة وطفراتها المستمرة. فرغم عيشنا بمجتمع التقنيات العالية، إلّا أننا نشعر بالتهديد من فيروس غير دقيق وغير محسوس، كما تقول «كلودين بورتون جانجروس Claudine Burton-Jeangros»، يدفعنا إلى إعادة إنتاج الهلع الجماعيّ الذي ميَّز نظر أجدادنا إلى مختلف الأوبئة والأمراض التي عرفتها البشرية خلال مئات الآلاف من السنين. في ظلّ هذا الوضع المركَّب والمستقبل المجهول، تبيَّن بالملموس الدور الكبير للعلوم الاجتماعيّة في التعاطي مع وباء كورونا، أكثر من الطب والعلوم الدقيقة نفسها، ضمن سياق المجال التداولي الفرنسيّ. لقد عمل علماء الاجتماع والفلاسفة على تحليل حالات الهلع الجماهيري والخوف والقلق العام من المرض في أفق مجاوزة الأزمة، والدفاع عن تدابير الحماية دون المس بالحرّيّات الفردية للمواطنين، والتشديد على ضرورة الوعي بالبناء الاجتماعيّ والثقافيّ للأمراض… مع ذلك، لازالت العلوم الاجتماعيّة بوطننا العربيّ تصارع من أجل شرعية اجتماعيّة واقتصاديّة، قد تأتي أو لا تأتي، ولازالت غير مواكبة لمثل هذه القضايا والمستجدات الصِّحيّة والبيئيّة الآنية. لهذا، يبدأ البحث عن علاج لفيروس كورونا بالبحث عن علاج لتمثُّلاتنا، مخاوفنا وتصوُّراتنا العامّة حول الأمراض عامّة.
الهامش:
1- Gérard Mermet, Francoscopie 2030 : nous, aujourd’hui et demain, Larousse, 2018.