في رحيل آدَم حَنين.. وَريثُ الصَّلابَة

| 18 يونيو 2020 |
افتقد المشهدُ التشكيليّ مؤخَّراً أحد أبرز نحاتيّ العَالَم العربيّ المُعاصِرين في القرن العشرين، برحيل النحَّات المصريّ آدم حنين (اسم الميلاد: صمويل هنري)، الذي وافته المنية صباح يوم الجمعة 22 مايو/أيار 2020 عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً بعد صراعٍ مريرٍ مع المرض. وعلى طول مساره الفنيّ، لم يدَّخر جهداً في توطيد وتطوير المُمارسة النحتيّة، منذ معرضه الفرديّ الأول بميونخ (1958)، وبالقاهرة (1961)، بدافعٍ إبداعيٍّ قلَّ نظيره، إذ ظلَّ وفيّاً لتعبيريَّة الحَجْمِ (le volume) التي منحها كلّ طاقته الذهنيّة والعضليّة بذائقةٍ واعية ويقظة، تنطلق من الأصول، فيما تستشرف الجديد والمُبْتَكَر.
بعد ولوجه كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1949، حيث أنفق فيها أربع سنواتٍ تكوينيّة ليتخرَّج في 1953، سيباشر آدم حنين (المولود بالقاهرة في 1929) أول إنتاجاته بمرسم الفنون الجميلة في الأقصر (1954 – 1955)، وذلك إلى حين نَيْله منحةً دراسيّة لمدة عامَيْن، مَكَّنَتْه من الالتحاق بأكاديميّة الفنون الجميلة في ميونخ بألمانيا سنة 1957، حيث عَمَّقَ تكوينه في محترف أنطوني هيلر. عمل كرسَّامٍ في مجلّة «صباح الخير» في 1961، كما اشتغل مستشاراً فنيّاً بدار التحرير للطبع والنشر في 1971، وهي السنة التي سَيَشُدُّ فيها الرحال رفقة زوجته (عفاف الديب الباحثة في الأنثروبولوجيا) إلى فرنسا، حيث استقرَّ بباريس، وأقام معمله في الدائرة الخامسة عشرة. وخلال هذه الإقامة الطويلة التي امتدت إلى ربع قرن من الزمان (1971 – 1996)، وهب نفسه لممارسة فنّهِ بكلّ الإمكانات الذاتية والمادية التي يمتلكها، ليخبر مختلف التقنيات والمُعالجات الحَجْمِيَّة بعديد الخامات من البرونز والنحاس والجرانيت والبازلت إلى الحَجَر الجيريّ والخشب والجص والسيراميك.
بعد أن كرَّس اسمه على الصعيد الدوليّ، قرَّر عودته النهائية إلى مصر في 1996، تاريخ تأسيسه «سمبوزيوم أسوان الدوليّ لفنِّ النحت»، في اتجاه المزيد من رفع راية الحُجوم في بلد النحت، وطنه الذي أحاطه بخيوط الوصال عبر اشتغاله مع وزارة الثقافة بين 1989 و1998 ضمن عمليات ترميم آثار فرعونيّة بالجيزة. في حين، أقام على ملكيته الأرضية متحفه الخاصّ بقرية «الحرانية»، بعد بناء منزله بالطوب الطينيّ وفق تصميم المهندس المعماريّ رمسيس ويصا، وهو المسكن الذي لحقه الهدم، وتمَّت إعادة بنائه ليحتضن المتحف الذي تتكلَّف مؤسَّسة آدم حنين للفنِّ التشكيليّ بإدارته. يضم المتحف حديقة متحفية ومبنى من ثلاثة طوابق بارتفاع تسعة أمتار ليكون الفضاء الداخلي قابلاً لعرض القطع المُجَسَّمة بطريقةٍ لائقة. وقد تمَّ افتتاح «متحف آدم حنين» في 2014، بعد أن تحوَّل منزل الفنَّان إلى متحف يحتضن مقتنياته وأعماله التي أنجزها في مراحل مختلفة من عمره الإبداعيّ والبالغة في مجموعها أربعة آلاف قطعة.
إذا كان مواطنه الرائد محمود مختار (1891 – 1934) قد حوَّل النحت الفرعونيّ من دائرة العبادات إلى طقوس الحياة الشعبيّة بحسٍ تجديديّ دون المساس بمَلْمَحِه الأصيل، كما هو مُلاحظ في عمله الصرحي «نهضة مصر» (القاهرة، 1928)، فإنّ رؤية آدم حنين تبنَّت بدورها مقاربةً تحليليّة، عمل من خلالها على تَبْئير أوجه البساطة والاختزال، ضمن أسلوبٍ إقلالي (Minimaliste) يميل إلى محو الجزئيات وتكثيف الكتلة، لتوكيد صفة الثّبات (الوضع السْتَاتيكي Statique)، الذي يجعل الآثار النحتية حيَّة وصامدة منذ آلاف السنين، باعتبار الثَّبات في الأصل، خاصية إجرائيّة أساسيّة تُحَوِّل التمثال في الفنِّ المصريّ إلى كتلةٍ متراصَّة قائمة بذاتها، لتكون مشحونةً بدرجةٍ قصوى من الصَّلابة التي تفيد تمديد زمن حياة (La durée de vie) القطعة النحتيّة، طبقاً للقوانين الفيزيائيّة الموصولة بمقاومة المواد (Résistance des matériaux). إلّا أن هاجس الثبات، لم يمنعه من تبنّي التوليفات الديناميّة التي تعضِّد خاصية الصَّلابة من الداخل، كما هو الشأن في العديد من نماذجه الحيوانيّة، وبخاصة تلك المُتعلّقة بالطيور الكاسرة، كما هو الأمر في تمثال الصقر الذي يتأهَّب للخروج من فتحة أعلى السقف أمام مبنى الأهرام.
من جانبٍ آخر، تقترب إبداعِيَّة آدم حنين من الحساسية الماديّة لدى Constantin Brancusi كونستانتين برانكوزي (1876 – 1957)، على صعيد الإدراك الوافي لقوانين المادة والتقدير المُلازم لطبيعتها، إذ يؤكد برانكوزي على أنك «في الوقت الذي تنحت الحَجَرَ تكتشف آنئذ روح مادتك وخصائصها الفريدة، فيداك تُفَكِّران وهما تتعقبان أفكار المادة»(1). وفي منحى تعميق الوعي بماهية المادة وكيفيات تطويعها، يتقاطعان أيضاً من حيث مبادئ التبسيط التي تُوَجِّه الأسلوب لبلوغ المدارج القصوى للتناغم بين الكتلة والمحتوى، إذ شكَّلت البساطة أحد المُقوِّمات الجماليّة الأساسيّة في التطوُّر الحَجْميّ للنحت الحديث، حيث يتمثل المظهر الخارجيّ البسيط في مواجهة المظهر الخارجيّ المُعقَّد للشكل العضويّ بتعبير هربريت ريد، ذلك أن «البساطة ليست هي الهدف، لكن المرء يصل إلى البساطة على الرغم منه كلما اقترب من المعنى الحقيقيّ للأشياء»(2) كما يرى برانكوزي. من هذه الزاوية يمكن تَلَمُّس خطوات محاورة آدم حنين لمواده الخام، وقدراته في التمييز بين حدودها التعبيريّة، وكذا خصائصها البنيويّة في بُعدَيْها الكيميائيّ والسيميائيّ، حيث استواء الروح يكمن في اكتمال الحَجْم، ما يُعزِّز الطابع الإحيائيّ (Animistique) في مشروعه النحتي الموسوم بديمومة استناده إلى قواعد تعبيريَّتِه المُتفاعلة مع ما تقتضيه طبيعة المادة من إحاطةٍ شاملة تخص البنية والقوة والمتانة والنِّسب (Proportions) وتوازن الكتل.
يُعَدُّ نموذج «أم كلثوم» الرخاميّ، النموذج الأكثر وضوحاً لملامسة أسلوبه القائم على أَسْلَبَة (Stylisation) معيارية دقيقة لصالح الكتلية الأحاديّة التي تذوب فيها التفاصيل والملامح والتقاسيم والفجوات، باستثناء المنديل كمفردةٍ كفيلة بتحريك الوجدان، ولعب دور الاستدلال لاستقبال همة الوحدة العضويّة في «تمثيل» كوكب الشرق، التمثيل الرمزيّ المُوَجَّه باختزالٍ حذقٍ ومتناهٍ، على مستوى التكوين والنعومة كما على صعيد الصفاء والانسيابيّة الموزونة بعنايةٍ فائقة. من ثمَّة، فإنّ المُهمّ والجوهريّ والدفين في أعمال آدم حنين سرعان ما يتناغم مع دواخل المُتلقيّ ويثير شعوره وخياله، كأن المسألة تتعلَّق بتقابلٍ بصري بين الباطن والظاهر السطحيّ للمادة الذي يكتسب قوته المرئيّة عبر الاشتقاق من قوة الباطن ذاته، بحيث نتحسَّس الحركة المُقيمَة في صُلب الكتلة الصَّمّاء، ومعها ينكشف ذلك الإيقاع الداخليّ الذي يقرِّبنا من سرائر التمثال الموسوم بروح صانعه. هكذا، يحافظ آدم حنين، وريث الصَّلابة، على المميزات الصرحيّة في أعماله المُفعمة بسكونٍ حي، ينضح بجاذبيّة عاطفيّة تنبع من خاماته النبيلة ذات السطوح المصقولة بإدراكٍ عميق وشاعريّ للغاية.
إضافة إلى النحت، مارس آدم حنين فنَّ التصوير (La peinture) دون الاستناد بالأساس إلى القماشة والألوان الزيتيّة، إذ عُرِفَ أكثر باعتماده أوراق البردي كأسناد يشتغل عليها بالأصباغ التقليديّة الطبيعيّة الممزوجة بالصمغ العربيّ، لإحياء التقنيات والأحبار اللونيّة التي طالما استعملها الفنَّان في الفنِّ المصريّ القديم الذي ظلَّ يشكِّل مرجعيّته الأساس في صوغ التعبير التصويريّ. وفي السياق ذاته، فقد أنجز تصاوير خاصّة بكتاب «رباعية صلاح جاهين» للكاتب صلاح جاهين، وهي الرسوم التي نفَّذها بالحبر الهنديّ على الورق.
لعَلَّ هذا المسار المُكابر والغنيّ بالإنجازات والمُنعطفات الكبرى، كان كفيلاً بحصول الفنَّان آدم حنين على الجائزة الكبرى لبينالي القاهرة الدوليّ في 1992، وجائزة الدولة التقديريّة في الفنون عام 1998، والجائزة الأولى للإنتاج الفنيّ في 2004. وهو مسار الفنَّان عينه الذي زَكَّته مكتبة الإسكندرية، إذ خَصَّتْه بإصدار كاتالوج فنيّ في 2018، ضم العديد من النصوص النقديّة بتوقيع نُقَّاد فنيّين مصريّين وعالميّين. بينما تبقى معالمه الإبداعيّة شاهدةً على آثاره الفاتنة والمُؤثرة، وبخاصّة منها أعماله الصرحية من قبيل «حامل القدور» (1960) في حديقة النحت الدوليّة في مدينة دالاس بولاية تكساس، و«الطائر» بحديقة أكاديميّة الفنون بروما، و«المحارب» في فناء مكتبة القاهرة الكبرى.
الهوامش:
1 – هربرت ريد، النحت الحديث – تاريخ موجز، ترجمة: فخري خليل، مراجعة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 1994، ص 170.
2 – Ibid، ص 168.