في ظلال كوفيد.. حق «الحياة العارية»

| 13 مايو 2020 |
فيما يقبع ما يُقارب نصف سكّان العالم وراء جدران بيوتهم، وتُقفر الشوارع من سكانها، وتحطُّ الطائرات في مهاجعها، ويكفُّ العالم عن الحركة، تبدو البشريّة وكأنها على أهبة قطيعة تاريخيّة مع ماضيها وحاضرها. لقد أجبرها فيروس كورونا (حاكم الأرض الجديد كوفيد- 19) على تغيير عاداتها، والتنازل عن حرّيّاتها، وإدارة الظهر لمفهوم الحقوق الأساسيّة، الذي أشاعه التنوير الأوروبيّ، وصادقت عليه المبادئ التي وضعتها الأمم المتحدة.
فما شهدناه، في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأميركا، وغيرها من الدول، من ترك كبار السنِّ يموتون في بيوت المُسنين دون مدّ يد العون لهم، لأن النظام الصِّحيّ يعاني من الانهيار، ومن الصعب توفير أجهزة تنفس لكلّ المرضى، يشير إلى حقيقة فاجعة – إضافة إلى حقائق عديدة أخرى على رأسها هشاشة الأنظمة الصِّحيّة في بلدان العالم الأول- هي قدرة العالم المُعاصِر على غض البصر عن الالتزام بالمحافظة على حقِّ الحياة بوصفه الحقّ الأساسيّ الأوّل لكلّ إنسان يعيش على هذه الأرض، بغض النظر عن عرقه أو طبقته أو ديانته، أو معتقده الأيديولوجيّ؛ والأهمّ ممّا سبق كلّه، بغض النظر عن فئته العمرية، فالمُسن مثله مثل الشاب يتمتع بحقّ الحياة، وتُعَدُّ مساعدته للحفاظ على هذا الحقّ إلزاميّة. لكننا نشهد للأسف تضحية بهذا الحقّ في أعرق الديموقراطيّات الغربيّة، وكذلك في الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتوريّة أو شبه ديموقراطيّة. إننا نرى ونسمع عن آلاف المُسنين، وكذلك المُصابين بذبحاتٍ صدريّة حادة، يموتون لأن الجهاز الصِّحيّ في بلدانهم على شفا الانهيار، وهو لا يملك مدّ يد المساعدة إليهم، فهناك مرضى أولى بالمُساعدة، ممَّنْ يقبعون في المشافي أو من الشباب الذين همّ الأقوى، و«الأصلح»، والأكثر قابلية للشفاء. إننا نعبر عصراً يتسلح بمفاهيم وقيم داروينية جديدة تضرب عرض الحائط بكلّ ما دعت إليه فلسفة الأنوار وشرعة حقوق الإنسان. وهو أمرٌ مخيفٌ، بل مثيرٌ للفزع، أن تنحدر الإنسانيّة إلى هذا الدرك من سُلَّم القيم.
يجادل الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبين Giorgio Agamben» (مواليد 1942) في مدى أحقية تفضيل ما يسمّيه «الحياة البيولوجيّة» على بقية الحيوات الأخرى، السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، قائلاً إن ذلك يندرج ضمن التصوُّر الغربيّ لما يسمّيه «الاستثناء». يكتب أغامبين معترضاً: «إن أول الأشياء التي تكشف عنها هذه الموجة من الفزع التي أصابت بلادنا بالشلل هي أن مجتمعنا لم يعد يؤمن بأي شيء يتجاوز الحياة العارية… فنحن في هلعنا ذي الطابع الهستيريّ، نمارس جهداً جباراً لتجنُّب الأذى الجسدي. وبذلك عرَّضنا أنفسنا لخسارة نظام أرفع شأناً (من الحياة البيولوجيّة): لقد ضججنا بالعمل، والصداقة، والعائلات الممتدة، والطقوس الدينيّة (وعلى رأسها الجنازات)، والانتماءات السياسيّة. ونحن بذلك قد نحافظ على أنفسنا بيولوجيّاً، لكننا نضحي بكلّ ما يجعل للحياة معنى، بما يجعلها تستحق أن تُعاش».
بغض النظر عن وجاهة ما يقوله أغامبين بخصوص التضحية بأشكالٍ أساسيّة من الوجود الإنسانيّ لصالح ما يسميه «الوجود العاري»، المتمثّل، في الحفاظ على مجرَّد العيش واستمرارية الحياة، فإن ما يقوله يندرج ضمن نوع من الهرطقة النظريّة، التي تُعلي من شأن النظريّة على حساب الحقّ الأساسيّ في العيش. ففي الوقت الذي تتعرَّض فيه البشريّة لتهديد وجودي يتصل بفناء أعدادٍ كبيرة من أفرادها، سواء أكانوا مسنين أم شباباً، مرضى أم أصحاء، لا يكون هناك معنى للحديث عن «الحياة العارية» في مقابل أنواع من الحيوات أكثر غنى وتمثيلاً لمعنى الوجود الإنسانيّ. وإذا استعملنا نظريّة أغامبين نفسه فإن ما تمرُّ به البشريّة هو «الاستثناء» The Exception، فلكي نحافظ على أنواع الحيوات الأخرى «الأكثر غنى» علينا أن نحافظ على الحياة البيولوجيّة، أو «الحياة العارية» Bare Life، إذ بانتفاء «الحياة العارية» لن تكون هناك حيوات أخرى، ويصبح الحديث عنها نوعاً من الهلوسة النظريّة التي يتَّسم بها النقاش الفلسفيّ في بعض مدارس ما بعد الحداثة.
صحيحٌ أن القوانين الاستثنائية التي تُفرض الآن، في طول العالم وعرضه، بل في أعرق الديموقراطيّات في العالم، تندرج في سمة «الاستثناء»، التي تمثِّل في فلسفة أغامبين طابع الحضارة الغربيّة، حيث تكتسب الأنظمة في أزمنة الأزمات سلطات أكثر قوة وتتعطل الحياة الدستوريّة. ويتمثل هذا «الاستثناء» في إجراءات الحَجْر الصِّحيّ، ومنع التجوُّل، ونزول قوات الأمن والجيوش إلى الشوارع، حيث يجري خنق الحرّيّات الأساسيّة وتقليصها والاعتداء عليها، بصورة من الصور، وإحلال قوانين عرفية محل القوانين الطبيعيّة. وهو الأمر الذي يجعل الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجيك Slavoj Zizek» (مواليد 1949) يتخوَّف من وباء السلطويَّة وشيوع الاستبداد، متوقعاً أن تنشأ في أوروبا: «بربرية جديدة بوجهٍ إنسانيّ- حيث تُفرض قيودٌ صارمة لا ترحم من أجل البقاء- تلجأ إلى آراء الخبراء لاكتساب مشروعيتها». لكن مع أخذ ملاحظات كلّ من أغامبين وجيجيك في الحسبان، فالبشريّة كلّها، وعلى رأسها الديموقراطيّات الغربيّة، تواجه مرحلةً فاصلةً في تاريخها، والحفاظ على الحياة، بمعناها الأولي العاري المتصل بالوجود البيولوجيّ، يعلو على أي نقاشٍ آخر في هذه الفترة العصيبة التي تعبرها الإنسانيّة. وهو ما يشدِّد عليه الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس jurgen Habermas» (مواليد 1929) قائلاً إن حماية ما يسمّيه «الحياة الضروريّة» تمثّل الآن أولوية كونية تعلو على أي حسابات نفعيّة، أو أضرار اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة قد تتسبب بها القوانين الاستثنائيّة التي تتخذها الدول للحفاظ على حياة الناس. «مع اتخاذ القرار بشأن الوقت المناسب لإنهاء الحَجْر الصِّحيّ، فإن حماية الحياة الضروريّة على المستوى الأخلاقيّ، وكذلك على المستوى القانونيّ، قد تبدو متناقضة مع منطق الحسابات النفعيّة، مما يعني أنه عند الموازنة بين الضرر الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ من جهةٍ، والوفيات التي يمكن تجنُّبها؛ يجب على السياسيّين مقاومة إغراء الحسابات النفعيّة». من جهةٍ أخرى فإن احتمال تحوُّل حالة الطوارئ إلى قاعدةٍ أمر يهدِّد الأنظمة السياسيّة الديموقراطيّة في العالم، وهو ما يجعل من الحفاظ على الحياة الضروريّة نوعاً من العبور إلى نظم استبداديّة وتوتاليتاريّات تتخذ من حماية حياة الناس جسراً للهيمنة والسيطرة على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة لهؤلاء الناس. ولهذا يُنبِّه هابرماس إلى «أن تقييد عددٍ كبيرٍ من حقوق الحرّيّة المُهمَّة يجب أن يظلَّ مرتباً لمدة محدودة جدّاً، ولكنه إجراء مطلوب كأولوية للوصول إلى الحقِّ الأساسيّ في الحياة والسلامة الجسدية، وإنْ كان البعض قد يستغله لغايات سياسيّة».
رغم التحوُّطات السابقة التي يذكرها هابرماس، وهو الفيلسوف اللامع الذي قدَّم نقداً لاذعاً للحداثة، فإنه ينتصر لمبدأ الحياة الضروريّة، ويشدِّد على كون هذا الوضع، الذي تمرُّ به الإنسانية – في زمن انتشار (كوفيد – 19) الأسطوريّ، والكارثيّ، الذي يصعب تخيُّله قبل تصديقه، في جهات الأرض الأربع، عابراً حدود الدول، التي اضطرَّت إلى عزل نفسها وغلق حدودها، وكذلك منع الحركة بين مدنها، من جهةٍ، وبين مدنها وأريافها، من جهةٍ أخرى- هو الاستثناء لا القاعدة. لكن هل يتحقَّق بالفعل توقع هابرماس، أو أمله، أو رغبته، في عودة الإنسانيّة إلى ما كانت تعده «طبيعيّاً»؟ أم أننا نعبر إلى زمن تكون فيه الإنسانيّة قد عادت القهقرى إلى عصورِ الاستبداد التي تُخنَق فيها الحرّيّات وتسود فيها الصراعات التي قد يشعلها الجوع وفقدان الوظائف وازدياد التقاتل على الموارد في عالم تبدو فيه الديموقراطيّة مجرَّد قشرة خارجيّة طوَّح بها وباء كورونا إلى عالم النسيان؟ إنها أسئلة برسم المُستقبل القريب.