في مُواجهة الأكثر فُتوّة

| 13 مايو 2020 |
قال الفتى للشيخ المُتحيِّر: منذ شهر وأنت تبدو «تالفاً»، مُتحيِّراً، لا تنفكّ تكلِّم نفسك، مع أن الربيع بدأ يُرسل أماراتِ حُلوله، والشمس بدأتْ تُدمنُ إطلالاتها؟
قال الشيخ المهموم: أنت شغوف بأن تلعب ورقة اللامُبالاة، مع أن كلّ مَنْ حولك، ومَنْ هُمْ في أرجاء البسيطة يصرخون ويحاربون هذا العدوّ اللامرئي الذي ابتدع له، هذه المرّة، اسم كورونا المُحاط بتيجانٍ فتَّاكة. وأنت تعلم أنها معركة محفوفة بأقسى المخاطر، لأن هذه الجائحة تشغل جميع الفضاءات، وتتسلل إلى ضحاياها في الليل والنهار، ناشرةً الرعب والخوف والترقُّب…
قال الفتى: بلى، أنا أيضاً خائف مُترقِّب. لكنني منشغل أكثر بما سنعيشه بعد انحسار الفيروس أوْ بعد التغلُّب عليه.
قال الشيخ: طبيعي وأنت في ميْعةِ الصبا والفُتوّة أن تشرئبّ نحو المستقبل، على الرغم من الضباب والهلع وتقلص الرؤية. أمّا أنا، وقد بلغتُ من السنّ عِتِيّاً، فأتشبث بالحياة مُتطلعاً إلى ما ستؤول إليه أوضاعُ الدنيا، وأوضاعُ هذا الفضاء الذي أنتمي إليه. وكما تعلم، فأنا عاصرتُ اهتزازاتٍ وانقلاباتٍ وأعاصير وحروباً وهجماتٍ إرهابيّة وأزماتٍ اقتصاديّة كاسحة، وعايشتُ تحوُّلاتٍ حملتْها العولمة المُتدثرة في طيْلسان العلماء والخبراء، من أجل تأمين الربح لذوي المال… كذلك، تابعتُ الكشوفات العلميّة والتقنيّة التي أغدقتْ على البشريّة وسائل الرفاهية، وأمدّتها بالأمصال والأدوية لمقاومة الأمراض، وبالمختبرات والمناهج الدقيقة لفكّ ألغاز الكوْن المجهولة منذ بدء الخليقة… وأنا أيضاً عشتُ في رحاب المعركة المُستمرة بين العلم والعقل، وبين الجهل والتعصُّب وقوانين الغاب. كلّ ذلك أعطى لرحلتي الحياتيّة معنىً أستعينُ به على مواجهة قلق الوجود في عالمٍ تتكشَّفُ هشاشته كلّما تحوَّلت الأوضاع من وضعٍ إلى آخر، غالباً حسبَ ما يُمليه الأقوياء المُتحكِّمون في مصير الدنيا.
قال الفتى: أيْ أنك كنتَ تُداري قلقك وخوفك من هشاشة الوجود المحدود في العالم، بِمُراهَنَتك على تحقّق أوضاعٍ مُكتملة تتسمُ بالعدالة والمساواة وحرّيّة الأفراد والأوطان، في عالم تحلم بأن يصبح ملموساً عبْر القرون؟
قال الشيخ: أعرف أنه رهانٌ لا يخلو من هشاشة، لأنه لا يحلّ مشكلة علاقتنا بالموت الذي هو «ضرْبٌ من القتْل» كما قال الشاعر؛ إلّا أن هذا الجانب المأسوي من وجودنا حاولتُ أن أواجهه بالمُراهنة على ما أسميْتُه، مع آخرين، بـ«اللحظات المُميّزة» في الحياة؛ أي تلك التجارب التي نحسّ من خلالها أننا نعيش بأقصى ما يمكن من الكثافة والتلذذ والأخذ والعطاء… وهذه الكثافة في العيش هي التي تُسوِّغُ قبولَ الحياة مُقترنةً بمحدودية العمر، وبلاء الفُقدان ووحشة القبر. ونفس تلك اللحظات المُميّزة تكون ممتلئة بالتحدّي لكلّ ما يحبس حرّيّتنا في قُمقم الماضي ودهاليز الوصايا التي يَعلُوها الغَمَلُ. تلك اللحظات، تجعل الحياة تعلو على كلّ ما يُرافقها من مللٍ وعنف وتزييف للمشاعر، وتوقظ الروح المُتمرِّدة لمقاومة الخيبة في العلاقات الاجتماعيّة وفي السياسة، وتدفعها إلى المُراهنة على تغيير المجتمعات المُتكلّسة…
قال الفتى: كأنك تُعوّض الأبديّ الموعودين به في جنّات الخُلد، بما هو وقتيّ محدود في تجربته ومفعوله؛ أي أنك تُضفي على الدنيويّ العابر، صفة المُتعالي الذي يستمرّ عبْر الأجيال والحضارات طوالَ استمرار الحياة؟
قال الشيخ: لك أن تقول هذا، إذْ ما مِنْ أحدٍ يستطيع أن يتابع العيش من غير تعلّاتٍ ورهانات يتكئ عليها في رحلته نحو مصيره المُبهَم. أنا لا تُقلقني مسألة الموت وحدها، بل يشغلُ بالي أيضاً هذا الكونُ الذي نرتاده من دون اختيار، ومن دون تفسيراتٍ علميّة تُسعفنا على فهم لُغزيّة الفضاء الذي نُمضي داخله رحلتنا. ذلك هو عمق المأساة المُزدوجة التي تُشقينا، والتي نجهدُ في مواجهتها بابتكار البدائل والاحتماء بالتفلسف…
قال الفتى: لكنك ابتعدتَ بنا عن فيروس كورونا، وعن تساؤلات الناس عن الحَجْر والمآل في ظلِّ هذا الغول الفتّاك، الناشر للرعب والخوف وأحزان الفُقدان؟
قال الشيخ: هذه الجائحة، على خطورتها، هي جزءٌ بسيط من مأساة الوجود في هذه الدنيا. هي من سلالة المجاهيل التي تشلّ ذكاءنا وتُطوّحُ بنا إلى أصقاع الحيْرة والشكّ والألم الصامت. لذلك تستيقظ لدينا غريزة إطالة البقاء في عالم ينطوي على اللحظات المُميّزة التي نسكرُ بسحرها ونسعى إلى إدمانها. وهي لحظات تتحقَّق على الأرض إذا عرفنا كيف نبتدع الطريق لمُعانقتها. بعبارةٍ ثانية، هي أضمنُ من جَنّاتٍ تُغدق الوعدَ بها فلسفاتٌ ودياناتٌ أخروية ما مِنْ أحدٍ تحقَّق من صدقها.
قال الفتى: لكن هذا الحاضر المُعتم سيضعنا، بعد فترةٍ، أمام مشكلات مادية صعبة، تخصّ الاقتصاد والتدبير والفوارق الاجتماعيّة التي تميّز فئاتٍ عن فئات… وهذا هو الوجه الأصعب، لأنه يقتضي تغييراتٍ في طرائق العيش وتوزيع الثروات، وتنظيم أشكال العمل والإنتاج، وتأمين صحة العباد؛ أقصد تلك الآراء التي تتوالى مؤكِّدة أن العيش بعد (كوفيد – 19) لن يُشبه ما قبله.
قال الشيخ: تقصد مسألة إعادة النظر في التعاقد الاجتماعيّ بين الفرد والدولة، وتغيير طبيعة المؤسَّسات ونوعية السياسة الجاري بها العمل؟ هذه مسألة حيويّة لها الآن الأسبقية، لأنها هي التي تتيح للمواطن أن يحقِّق الشروط التي تجعل رحلته على الأرض مقبولةً ومُحصَّنةً ضد العنف والاستغلال والسّخرة. هي مسألة تهمّ كلّ مجتمعات العالم، لكنها تكتسي أهمِّية أكبر عندنا في الفضاء العربيّ. ذلك أننا ضيّعنا فرصاً كثيرة تتعلَّق بجعل الديموقراطية التشاركيّة وسيلةً لتجسيد المواطنة المسؤولة، وتقليص الفوارق، وبناء مجتمع العلم والمعرفة. ما أكثر المعارك والضحايا التي قُدِّمتْ قرباناً في معبد الديموقراطية منذ الاستقلال عن الإدارات الاستعماريّة. لكنها لم تُؤتِ أكلها، لأن مَنْ آلتْ إليهم مهمَّة تشييد الدولة الوطنيّة آثروا انتهاجَ الحكم الفرديّ وحرمان شعوبهم من توفير ركائز المستقبل في عالم يجري بسرعة الصاروخ نحو حياةٍ أخرى، أساسُها حقوق المواطن والتضافر بين المجتمع المدنيّ والمجتمع السياسيّ… الآن الجميع مدفوع إلى إعادة النظر في حضارة المستقبل. لا مناص من أن يُعاد الاعتبار للإنسان وحقوقه التي تحرِّره من قيود الماضي ووصاية الشركات الربحيّة الرأسماليّة. لم يعد ممكناً الاستمرار في هذا العالم بأناسٍ معصوبي العيون مُسَرْنَمين، لأن كورونا فتحتْ العيون والأفئدة والعقول على ضرورة احترام الإنسان وقيَمه المُشتركة التي تتيح له أن يمضي في رحلته الدنيويّة من غير عنفٍ واستغلالٍ وسُخرةٍ.
قال الفتى: كأنك تستوحي ما كتبه نيتشه في كتابه «فجر Aurore» عن تغيير الجِلد: «يَهْلِك الثعبانُ عندما لا يستطيع أن يُغيِّر جِلده؛ ونفس الشيء بالنسبة للعقول التي تُمنَعُ من تغيير آرائها، إذ تكفّ عن أن تكون عقولاً»..
قال الشيخ: أنت تريد أن تنقلنا إلى منطقة الاستعارة والتشبيهات المُستقاة من حِضن الطبيعة. أوافقك، وأقترح عليك بدوري قصيدة للشاعر الفرنسي «بولْ إيلوار» (1895 – 1952)، يُوحي فيها بأن كلّ تغيير إنما يصنعه مَنْ هُمْ أكثر فُتوّة:
الضبابُ الخفيف يلعقُ نفسه مثل قِطّة / تنزعُ عنها أحلامها. / والطفلُ يعلم أن العالم يوشكُ أنْ يبدأ:
كلّ شيء شفاف/ القمر يتوسّط الأرض، / والخُضرة تكسو السماء وفي عينيّ الطفل الدّاكنتيْن العميقتيْن / مثل الليالي البيضاء، يُولدُ الضياء.