في نقد العباراتُ المسكوكة.. تصلّبُ اللّغة إفقارٌ للحياة

| 07 يوليو 2021 |
تُصابُ اللّغةُ بالشلَل مثلما يُصابُ الجسد، لأنّ للغةِ أيضًا جسدًا، كلّما تصلّبَ فيه طرَفٌ سرَى الموتُ كي يُجمِّد أطرافًا أخرى، على نحو يوسِّعُ مساحة الشلل، ويُهدِّد بموتِ اللّغة حتى وإنْ اتّخذ هذا الموتُ صورةَ حياة مُقنّعةٍ بتداوُلٍ مُفرط. فتداولُ التراكيب اللّغويّة التي سرَى التصلّبُ فيها لا يُزكّي الموتَ ويتستّرُ عليه وحسب، بل يغدو هو ذاتُه موتًا مُتشبِّهًا بالحياة. ما يُشلّ في اللّغة ويُصابُ بالجمود يجعلُ المُتصلّبَ فيها شبيهًا بحال الجثّة، غير أنّها جثّة تظلُّ مُقنّعة بالحياة عبْر ما يؤمِّنُ لها الاستمرارَ في التداول. وإذا كانت البشريّة قد حرصَت على مواراة الجُثث مُنذ أن التقطَت درسَ الغراب في الزمن الغابر، فإنّ تراكيبَ لغويّةً وصيَغًا في بناء هذه التراكيب لا تكفّ، حتى عندما يَسكنُها الموتُ وتغدو مجرّد مسكوكات، عن الإصرار على الاحتفاظ بتداولها الذي يشتغلُ ضدّ الفكر وضدّ الحياة، مُحصَّنًا بتكرارٍ مُفرَغٍ من المعنى.
يتعذَّرُ حصْرُ العوامل المُسْهمة في تصلّب اللّغة وشلَلها، لا لتعدُّد هذه العوامل وحسب، بل أكثر من ذلك، لتعقّدها وتشعّبها. من بين هذه العوامل في الزمن الحديث، ثمّة تشبّهُ الكلام بالكتابة. تشبّهٌ ما فتئ يتنامَى بعد أن يَسَّرَت التقنيةُ سُبُلَ هذا التشبّه ومكّنت الكلام، الذي يَروج في أقصى صوَر اليَوميّ المُبتذلة، مِن أن «يُحرَّرَ»، بالمعنى المُضاعَف لهذه الكلمة، مُنتقلًا بهذا «التحرير» من وضعيّة الأصوات إلى وضعيّة الحروف. المُضاعَفُ، وَفق ما تُتيحهُ اللّغة العربيّة من تعدُّد في معنى الكلمة، يُمكّنُ من فهْم «التحرير» في هذا السياق بوَصفه، في معنى أوّل، تحرّرًا من الحصانة الفكريّة التي كانت تُلزمُ، في فترات معيّنة، كلَّ عُبور إلى الكتابة بالاستناد إلى المقوِّمات التي يتطلّبُها هذا العبور، بعيدًا عن الابتذال الذي طال دلالة الحرّيّة وأبعدَها عن المسؤولية التي بها تتحدّدُ في الكتابة، ويُمكّنُ في معنى ثان، من فهْم «التحرير» بوصفه تدوينًا سمحَ للأصوات بأن تأخُذ صورةَ الحروف، وهو ما يُصيبُ تراكيبَ الكتابة بالاجترار الذي يحكمُ صيَغ الكلام. لربّما يعودُ تشبُّه الكلام بالكتابة في الأصل، قبْل أن يتشعَّب أمرُ هذا التشبُّه اعتمادًا على الإمكانات التي تُتيحُها التقنية، إلى انتحال اللّغة الإعلاميّة، باعتبارها أقرب إلى الكلام، صفةَ اللّغة الفكريّة، وما يترتّبُ على هذا الانتحال من لَبْس مُخلّ ومن تبعات مُعقّدة. لا تُشكّلُ اللّغة الأولى، أي لغة الإعلام، إزعاجًا فكريًّا إلّا عندما تدّعي الاضطلاعَ بما لا تقوَى عليه، مُتناسيةً حدودَها، خصوصًا عندما تريدُ أنْ تقوم مقام الفكر، وعندما تغدو أداةً لاختطاف المعنى ولترسيخ البلاهة بمُختلف صوَرها، وعندما تغدو أيضًا مُختبَرًا لإطلاق الأحكام وتَوجيه معنى القيمة.
لهذا المنحى، القائم على الانتحال، آثارُه في شلِّ اللّغة وإفقارها وإفراغها من الفكر. غير أنّ ثمّة مناحيَ أخرى لرصْد شلل اللّغة؛ منها اختزال اللّغة، بوجه عامّ، في الإخبار والتواصل، على نحو يرومُ إدمْاجَها هي أيضًا ضمْن آلةِ الاستهلاك المُخترقة لكلّ تفاصيل الحياة الحديثة، بما يكرّسُ عدَّ اللّغة مجرّد أداة. إنّ من بين ما تعملُ لغةُ الأدب والفكر على التصدّي له هو هذا الإدماجُ نفسُه، لأنّ لغتَهما لا تقومُ على التواصل، وحتى إذا كان لازمًا الاحتفاظ بهذا المُصطلح في الحديث عنهما، فإنّ هذا اللزوم لا يستقيمُ إلّا بتفكيك حمولة المُصطلح وإعادة صَوغها بتعارُض تامٍّ مع حمولته السائدة. فكلّما ارتكزَ الفهمُ والتأويل، في توَجّههما إلى لغة الأدب والفكر، على مفهوم التواصل، انحصرَا في ما ليس جوهريًّا في هذه اللّغة. لعلّ جانبًا من هذا الأمر هو ما شدَّدَ عليه والتر بنيامين في نصّه الشهير «مهمة المُترجم»، مُفكّكًا، في ضَوئه، مفهومَ الترجمة نفسه. لقد شدَّد بنيامين في هذا النصّ، الذي شكّلَ في ظهوره الأوّل تقديمًا للترجمة التي أنجزَها لـ«مشاهد باريسية – Tableaux parisiens» لـ«بودلير»، أنّ الجوهريّ في «العمل الأدبيّ» ليس التواصل والإخبار، لذلك عندما تريدُ الترجمة أن تكون عمليّة نقْل، فإنّها لا يُمكنُ أن تنقلَ سوى التواصل والإبلاغ، أي أنّها لن تنقلَ إلّا «ما ليس جوهريًّا» في العمل الأدبيّ. وهكذا، فتحصينُ لغة الأدب والفكر من الاستسهال الذي ينطوي عليه مفهومُ التواصل، ومن الاختزال الذي يحكمُ أيضًا مفهوم التعبير، يُعَدُّ أسّ المقاوَمة التي تنهضُ بها لغة الأدب ولغة الفكر حتى في انشغالهما بتفاصيل اليَوميّ. مُقاومةٌ ترومُ التصدّي لإفقار الحياة عبْر التصدّي لإفقار اللّغة ولِما يعملُ على تحويل مجهولها إلى معلوم. إنّ المقاومة داخل اللّغة هي أساسًا مقاومةٌ لصوَر إفقار الوجود، فكلُّ ما يَتصلّبُ في تصوّر اللّغة وفي تراكيبها، ويُحتفظ له بتداوُله وَفق التكرار والاجترار، يُشكّلُ وجهًا من وُجوه شلِّ اللّغة، وحَجْبِ بُعدها الوجوديّ الذي به تتحدَّد، وبه تتمنّعُ على كلّ اختزالٍ لها في مُجرّد أداة.
لا حدَّ لِما يُصيبُ جسدَ اللّغة من تصلّبات. وهي تصلّبات لم تكفّ، منذ القديم، عن الحدوث اعتمادًا على اشتغال شديد التعقيد، بل إنّ اشتغال هذه التصلّبات يشهدُ تجدّدًا وَفق السياقات العامّة للأزمنة والعُصور، لأنّ للتصلّب أيضًا ما به يُجدِّدُ تحقّقاته. تُسهمُ في هذا التصلّب راهنًا المؤسّساتُ الرسميّة، ويُرسّخهُ التكرار المُفرِغ للمعنى والمُفرَغُ منه في الآن ذاته. لربّما كان تاريخُ التأويل نفسهُ مُنطويًا، في تصوّره للغة، على مَنحييْن؛ منحى حَرصَ دومًا على منْع اللّغة من التصلّب وعلى تمكينها من التجدّد؛ فيه تحقّقَ التأويلُ بوصفه رافدًا من روافد إغناء الحياة بإغناء اللّغة وتجديدها، ومنحى آخر عمِلَ باستمرار على تصلُّب اللّغة، بل عدَّ نفسَه وصيًّا على تأمين تحقّق هذا التصلّب انطلاقًا من تضييق المسافة بين الاسم والمُسمّى، وتقييد الاحتمال الذي يحكمُ المسافة بين الكلمات، بما يجعلُ التأويلَ آليةً لتكريس التصلّب.
لمَسار تصلّبات اللّغة وُجوهٌ عديدةٌ؛ من هذه التصلّبات ما يمَسّ علاقة اللفظ بالمعنى، وما يرتبط بعلاقة الكلمة بالكلمة، وما يخصّ علاقة التركيب اللّغويّ بما يُحيلُ عليه. وهذا المسارُ هو عينُهُ ما يكشفُ بالمُقابل المُهمّةَ التي بها اضطلعَت لغةُ الأدب والفكر والتصوّف في تصدّيها لِما لا يكفّ يُشَلُّ في اللّغة عبْر التصلّبات التي تحدُثُ فيها. لا حصْرَ للتصلّبات التي تتسرَّبُ إلى جسد اللّغة، ابتداءً من مُكوّناتها الصغرى حتى صيَغ التركيب فيها. من نماذج هذه التصلّبات، في المُستوى اللفظيّ، انغلاق المسافة بين اللفظ وما لا ينتهي فيه من احتمال، خصوصًا عندما يُقيَّدُ لفظّ ما في معنى قبليٍّ جامد، أو عندما يُستعملُ اللفظُ في سياق المُحافظة والمُهادنة كي يكون مُستعمِلهُ شخصًا «ملائمًا ومحبوبًا» على حدّ قول «غوستاف فلوبير» في تصدّيه للبلاهة من موقعِ ما يَصيرُ جاهزًا في اللفظ. إنّ هذا الوَجه من التصلّب، بخطورته التي تمسّ الحياة، هو ما يكشفُ حيَويّة تأليف فلوبير لـ«قاموس الأفكار الجاهزة – Dictionnaire des idées reçues». فقد انطوى هذا القاموس، في رصْده للبلاهة انطلاقًا من تصلّب معاني الكلمات وتقيّدها بتباهٍ فارغ وتماهٍ مُبتذل مع رأي عامّ، على مقاوَمةٍ لِما يُضيّقُ الوجود من داخل اللّغة. والمسارُ الذي قطعهُ فلوبير في تأليف هذا القاموس دون أن يتمكّن من إنهائه دالٌّ في ذاته، إذ تبدَّى منه أنّ اشتغال التصلّب في اللّغة، بما هو بلاهة، لا حدّ له ولا نهاية يُمْكن أن يبلغَها، لأنّ التصلّب لا يتوَقّفُ أبدًا عن تجديدِ آلياته. لقد بدأ فلوبير التفكيرَ في إعداد هذا القاموس مُنذ عام 1847، ولم يَظهر الكتاب إلّا عام 1911، بعد وفاة فلوبير بثلاثين سنة، أي أنّ القاموس لم يتسنَّ له أنْ ينتهي، بل لم يكُن انتهاؤه مُمكنًا، تبعًا لما يَحكمُ اشتغالَ البلاهة في اللّغة وما يحكمُ إنتاجَها للجاهز انطلاقًا من تفاعُل معقّدٍ مع ما يتصلّبُ فيها. انتفاءُ الانتهاء من التأليف هو ما ألمحَ إليه «فيليب ميير – Philippe Meyer» في تساؤل دالٍّ صاغهُ على النحو التالي: أكان مُمكنًا لهذا القاموس أن ينتهي؟. قطعًا لا. فالأمرُ يتعلّقُ بـ«منطق» اشتغال التصلّب في اللّغة، وبالتآزُر القائم بين تصلّب اللّغة وإدامةِ البلاهة التي لا تكفُّ عن تطوير آلياتِ اشتغالها وتوسيع قِلاعها وتحصين استمرارها. إنّ فكرة هذا القاموس تجعلهُ شبيهًا بعَيْن مُؤتمَنة على حراسةِ منطقة من مناطق اللّغة؛ إنّها العينُ التي يتوجّبُ أنْ تظلّ ساهرةً على رَصْد ما لا يكفُّ عن التصلّب في اللّغة، باعتبار هذا التصلّب وَجهًا من وُجوه البلاهة.
إلى جانب هذا الملمح المُجسِّد للتصلّب، ثمّة ملمحُهُ الأعلى الذي تُجسّدُه العباراتُ المسكوكة، أي العباراتُ التي تنغلقُ فيها العلاقةُ بين الألفاظ داخل تراكيب جامدة، بما يترتّب على هذا الانغلاق من شَلل ومَوت. تُلقي العباراتُ المسكوكة، التي شُلّت فيها الصلاتُ بين الكلمات، بالتركيب في الماضي الذي لا مُستقبل له، وتُخضعُ هذا التركيبَ للتكرار والاجترار. وهي بذلك، تشتغلُ، على المُستوى الفكريّ، ضدّ الفكر، لأنّها لا تقودُ التركيبَ اللّغويّ إلى الجمود وحسب، بل إلى التكرار الذي يُفقدُ العبارةَ المسكوكة كلَّ مدلول، ويُحوِّلها إلى بداهة، أي يحوِّلها إلى ما يَمنعُ الفكر. وقد عزا رولان بارث، في كتابه «لذة النصّ» هذا التكرار إلى ما يَحكمُ كلَّ المؤسّسات الرّسميّة، مُشيرًا إلى ما يُوَجِّهُ المدرسة والرياضة والإشهار والإعلام، حيث تُعيدُ هذه المؤسّسات دومًا، كما يقول بارث، البنية ذاتَها، والمعنى ذاته. لعلّ ما يكتسي حيَويّةً في هذا السياق هو إشارة بارث إلى ما ينطوي عليه المسكوكُ في اللّغة من خُطورة، إذ ذهبَ إلى أنّ «المسكوك في اللّغة واقعةٌ سياسيّة»، بل عدّهُ «الصورة الكبرى للأيديولوجيّة». إنّ هذه الإشارة المُنيرة، إذ تُلمحُ إلى أبعادِ اللّغة وإلى ما يَتجاوَزُ المُستوى التركيبي فيها، تشقّ في الآن ذاته مسلكًا خصيبًا لتأويلِ المسكوكات اللّغويّة فكريًّا ولتفكيك ما يحكمُ اشتغالها.
لا نهاية، إذًا، لاشتغال التصلّب في اللّغة ولا حدّ له، لذلك يُعَدُّ التصدّي لهذا التصلّب سيرورةً مُتجدّدةً دومًا، لأنّ آلية التصلّب لا تتوَقّف أبدًا. ومن ثمّ، كان التفكيكُ في اللّغة والتفكيكُ باللّغة عملًا مُضاعَفًا منذورًا للشعراء والمُفكّرين والصوفية، ضمن مسؤوليّة تتطلّبُ منهم مُراقبةً يقِظة لاشتغال التصلّب في اللّغة والتصدّي له بجعْل العلاقة بين الكلمات لا متناهيةً وغيرَ قابلة للتصلّب. إنّها مسؤوليةُ حراسة اللّغة بما تقتضيه من يَقظة، لأنّ ما به تتمّ هذه الحراسة مُهدَّدٌ هو أيضًا بأن يتسرّبَ التصلّبُ إليه، مادامت آلةُ شلّ اللّغة لا تتوقّفُ عن العمل. تكفي الإشارة في هذا السياق، مثلًا، للاستعارات الشعريّة التي ترومُ أساسًا، وهي تُوسِّعُ العلاقة بين الألفاظ وتوسِّعُ العلاقة بين الأشياء، فتْحَ ما يصِلُ بين ألفاظ التراكيب اللّغويّة ومنْعَ هذه الصِّلة من الانغلاق، ولكن ما إنْ تتحوّل استعارةٌ ما إلى مسكوك، إلّا وتسقطُ في الاجترار القاتل للمعنى، فتغدو هي ذاتُها ما سمّاه البلاغيون بالاستعارات الميّتة، أي الاستعارات التي ابتلعها التصلّب بتسرُّب الموت إلى الخيال الذي شكّلَ خصوبتها الأولى. الأمرُ ذاته يَصدقُ على التأويل الفكريّ؛ فما إنْ يتوقّف التأويل عن فتْح العلاقة بين عناصر التراكيب اللّغويّة، وعن فتْح صلةِ هذه التراكيب بالمعنى، يغدو هو ذاته شكلًا من أشكال التصلّب.
لربّما الخطيرُ في مسار هذا التصلّب هو أنّه يُنتجُ الموتَ لكنّه لا يموت، حتى لقد عدَّ بارث أنّ المسكوك في اللّغة هو استحالةُ المَوت المُثيرة للغثيان؛ الاستحالة التي تتكشّف في حالةٍ يكونُ فيها الموتُ خلاصًا. فالتصلّب الذي يَشلّ اللّغةَ يُقاومُ الحياةَ بما يتعيّنُ، أصلًا، أن يموت. ومن ثمّ، يُعَدُّ رصْد مسار تصلّب اللّغة وتفكيكُ اشتغال هذا التصلّب عملًا فكريًّا بأبعاد مُتشعّبة، لأنّ هذا التفكيك لا يفصلُ اللّغة عن الوجود الإنسانيّ بَعد أن يُحرّرَها من الاختزال الذي حصرَها في مُجرّد أداة للتواصل. لعلّ هذا الأساس الفكريّ هو أحد العناصر التي جعلت بارث يدعو إلى تخيُّل لسانيات مُنشغلة لا بدراسةِ أصْل الكلمات واشتقاقاتها وقاموسها، بل بدراسة ما يتصلّبُ على امتداد الخطاب التاريخيّ. ليست دراسةُ ما لا يكفُّ عن التصلّب في اللّغة أمرًا لغويًّا بالمعنى اللسانيّ، إنّها مهمّةٌ فكريّة تُتيحُ رَصْدَ خطورة تصلّب العبارات وتحوُّلها إلى تراكيب مسكوكة، انطلاقًا من الكشْف عمّا يُحدثهُ هذا التحوّل وهو يَنقلُ الاحتمالَ، الذي حكمَ صلة الألفاظ في استعمالٍ أوّل قائمٍ على الانفتاح، إلى بداهة مُغلقة، أي تحوُّل التركيب اللُّغويّ إلى صلةٍ ضروريّةٍ لا حُجّة على ضرورَتها سوى الإفراطِ في تكرار هذا التركيب. إنّ هذا التكرار، الذي تضطلعُ به المؤسّسات الرسميّة، يمنعُ اللّغة من المُتعة، وذلك بجعْل التركيب المسكوك بداهةً، على نحو يُثيرُ الغثيان كما يقول بارث في كتابه «لذة النصّ»، ويُلزمُ، تبعًا لذلك، بهجران ما صارَت له وضعيّة البداهة. صحيحٌ أنّ بارث لم يستبعد عن التكرار إمكانَ توليد المُتعة، لكن ليس التكرار الفاقد لكلّ معنى، أي ليس التكرار الذي تُجسِّدُهُ المسكوكات اللُّغويّة المؤازِرة للبلاهة.
من الحيَويّ الإشارة، في سياق تأمّل ما يتصلّبُ في اللّغة، إلى نقد بارث لمفهوم الجُملة نفسه. فقد ذهبَ بعيدًا في تفكيكه للمسكوك في اللّغة، إلى حدِّ تفكيك مفهوم الجُملة، لا مِن موقع ما عُرفَ بالانتقال من لسانيات الجُملة إلى لسانيات الخطاب، بل من موقعٍ آخَر مشدودٍ إلى ما حكمَ، ابتداءً من مُستهلّ سبعينيّات القرن الماضي، تحوُّلَ رُؤية بارث الثقافيّة بوَجه عامّ. من ملامح هذا التفكيك، ثمّة، مثلاً، إشارةُ بارث إلى اللاجملة non-phrase، أي تلك الحالة الداخليّة التي تَعبُرُ فيها الكلماتُ والتراكيبُ ذاتَ الكاتب دون أن تتشكّلَ أيُّ جملة. اللاجملة، عند بارث، «ليست أبدًا شيئًا فاقدًا لقوّةِ أن يكون جُملةً ولا سابقًا على تكوُّن الجُملة، بل ما هو، بصورة دائمة ورائعة، خارج الجُملة»؛ المُتمنّعُ عليها باستمرار. إنّ استيعابَ ما لا يتشكّلُ في جُملة، ولا يتحقّقُ بها، يَستحضرُ بالمُقابل ما يتصلّب في صيغةٍ جامدة ليصيرَ مسكوكًا، أي تركيبًا مشلولاً مُفرَغًا من المعنى ومانعًا من الفكر. وهي التراكيب المشلولة التي عليها يقومُ، بوجْه رئيس، الخطابُ الإعلاميّ، والخطابُ السياسيّ، وكلُّ خطاب محكوم بالكيتش وبالمُهادنة وإرضاء صَوت عامّ.
إنّ المسكوك لا يُجرِّدُ اللّغة من المُتعة وحسب بل يمنعُها من الفكر ويجعلها آلةً للجاهز، أي لتضييق الحياة وإفقارها. فمن تجليات خطورة هذا التكرار، الذي يُفرغُ التركيبَ اللُّغويَّ من الاحتمال ويُرسِّخ تصلّبَهُ بوَصفه بداهة، تجريدُ اللّغة من كلّ قُدرة على التفكير، لأنّ المُتصلّبَ فيها يَصيرُ تابعًا لمعنى قبليّ. خطورةُ التركيب المسكوك في اللّغة ناجمةٌ، بمعنى ما، عن صِلةِ هذا التركيب المُعقّدة مع ما يُرادُ له أن يكون بدهيًّا، وعن صِلته بالأفكار الجاهزة، التي لا تكرِّسُ البلاهة وتَرْعاها فحسب، بل تُحوِّلُ مجهولَ الحياة اللامتناهي إلى معلوم ضيّق ومحدود. يتكشّف، إذًا، أنّ تصلّب اللّغة، المُجسَّد في المسكوكات، ليس مُجرّد شلل يُصيبُ تراكيبَ لغويّة ولا هو عطبٌ يَمتدُّ إلى أداة، بل هو تضييق للحياة وإجهازٌ على مناطق المجهول فيها. اللّغة ليست أداةً، إنّها «مأوى الوجود»، وكلّ إفقار لها هو إفقارٌ للحياة وللوجود. فجعْلُ اللامتناهي في العلاقة بين الكلمات متناهيًا وإلزامُ هذه العلاقة بصيغة مسكوكة ليس سوى إطفاءٍ لنور اللّغة، وحجْبٍ لمجهولها الذي هو عينه مجهول الحياة.