«قصيدة المنبر».. نقَّاد يطلقون رصاصة الرحمة!

| 09 يونيو 2020 |
في الوقت الذي يبحث فيه شعراء القصيدة العربية عن مسارات أخرى تواكب رهانات التلقي الجديدة، نجد في المقابل، انبعاثاً جديداً لظاهرة شعراء المنبر. لتسليط الضوء على الانتشار الملحوظ للظاهرة على وسائط الميديا، وتأثيره على قضايا الشعر العربي، يعكس هذا الاستطلاع المستفيض مع نقاد وشعراء من العالم العربي، وجهات نظر مختلفة تفاعلا مع الجدل المستمر حول شكل القصيدة ومضمونها..
وظيفة القصيدة
شربل داغر (شاعر وناقد لبناني):
قد يعتقد البعض أن العودة إلى الخطابية والمنبرية عودةٌ إلى التقليدية القديمة في الشعر، فيما ترقى، في حسابي، إلى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين. ترقى إلى ما كان يتشكل في الفضاء العمومي، من دَور، من وظيفة ممكنة للقصيدة: في الجريدة، في احتفال أحد النوادي أو إحدى الجمعيات، في التظاهرة، وفي غيرها… وهو ما ظهرَ في التشكلات الأولى للسياسات العربية، إذ أضحت نخبٌ عربية (وقبل قيام الأحزاب الوشيك) تعمل وتنشط في استيلاد مقومات السياسة والحكم ابتداءً من «الجمهور»؛ وهو ما طلبَه شعراء، بين حافظ إبراهيم وسعيد عقل ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم، إذ أرادوا الفعل والتأثير والإسهام في بناء كيان للوطن في القصيدة.
أما القصيدة القديمة فقد انبنت وفق بناء إرسالي، تحاوري، مختلف، إذ قام على التوجه المحسوب إلى خليفة، أو إلى حبيبة، وعلى توليد المعاني، ابتداءً من هذه التخاطبية، ووفقها.
هذا يرسم أفقَين ممكنَين وقديمَين للقصيدة: أفق الحوارية البلاطية، وأفق الفعالية الجماهيرية. وهما، في ذلك، قد أعادا صلةً كانت أسبابُها قد انقطعت مع الشفوية، فهذه تفترض في الحوار وجود الطرف الثاني، المرسَل إليه، وأمامه. كما تفترض أكثر: أن يكون المعنى ومتعلقاته متعيناً سلفاً في ما يجري بين الشاعر والمتلقي.
فالشفوية تُسقط الكتاب والكتابية، من جهة، كما أنها تجعل القصيدة خادمة لغيرها، من جهة ثانية. وفي هذا، وفي غيره، ما يجعل القصيدة إرسالاً، لا بناءً، ويحولها إلى شعار، أو إعلان، يتم بهما إنزال القصيدة في الإيديولوجية والسياسة.
أما في شعر اليوم، فلا أعتقد أن المنبرية والخطابية تستعيدان دور الأمس القريب…
تَظهر قصائد وقصائد تنحو أو تستعيد تلك العلاقة السابقة، لكنها ليست، بأي حال، نموذجاً للقصيدة، اليوم، مثلما كانت عليه في سابق العقود.
فالمنبرية مثل الخطابية كلتاهما تتراجعان، حتى إننا لا نجد شعراء مكرسين أو مرموقين يتجهون صوب هذه الوجهة، في التأليف والإلقاء. يضاف إلى ذلك، أن الإيديولوجيات يتراجع وهجُها وفاعليتها العلنية، كما أن السياسات العربية مضطربة ومتعثرة، على الرغم من الحديث، المأمول، في الثورة. فمن أين للقصيدة الحالية، -من ثمَّ- أن تستمد نسغها الخطابي والمنبري؟ وكيف للقصيدة الحالية أن تأمل في جمهورٍ، وهو لا يجد قاعاتِ استماعٍ له في الهشيم العنفي العربي الحالي؟.
انتهى عصر «القصيدة»
عبد الفتاح بن حمودة (شاعر تونسي):
رغم التّطورات التي شهدها الشّعر العربيّ منذ الأربعينيات إلى اليوم، ظلّت «القصيدة» مسكونة بالخطابيّة والمنبريّة حتى مع الكثير من الشعراء الرّواد، وخاصة روّاد الحداثة الشعريّة الأولى؛ وذلك لأنها تحمل في جيناتها ارتباطاً وثيقاً بثقافة الأذن، وبالشفاهيّة والحماسة والخطابيّة، فلم تخرج «القصيدة» عن عمود الشعر في جوهرها.
إن إرث الشّعر العربيّ القائم على الأغراض متواصل، حتى اليوم، من خلال رصد جوائز للعكاظيات، ولمدح الرسول الأكرم، ومن خلال بيوت الشعر العربي التي أسّسها صقر القاسمي ومهرجانات سعود البابطين، وغيرها من الملتقيات في الوطن العربيّ، ولم يخرج الشّعر العربي من الخطابة والحماسة (في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقصيدة الومضة) فلا يذهبنّ، في نظر البعض، إلى أن الخطابة مرتبطة بالقصيدة العمودية فقط، بل هي حاضرة في الكثير مما كُتب في الشّعر العربي منذ الأربعينيات إلى اليوم. وليس مردّ ذلك إلى الملتقيات والمهرجانات وبيوت الشعر والجوائز فقط وإنما الأمر مرتبط، أيضا، برؤية الشعراء إلى العالم والأشياء واللغة والإيقاع وإيقاع الذّات تحديداً كما ذهب إلى ذلك الشاعر والمترجم التونسيّ أشرف القرقني. وتظلّ اللّحظات المضيئة قليلة ونادرة وهي التي خرجت من فضاء «القصيدة» إلى فضاء «النّص الشّعريّ» ومن ثَمَّ بدأت لحظات التوهّج في مسارات الشّعر العربيّ والأمل الوحيد متعلّق، اليوم، على الحركات الشعريّة الجديدة وعلى الشّعراء الجدد في كلّ بلد عربيّ.
لقد آن للنصّ الشّعريّ أن يبدأ حركته، فقد انتهى عصر «القصيدة» حتى لو منحوها جميع دروع بيوت الشّعر وخصصوا عشرات الملتقيات والجوائز…
المنبرية صنعة
عبدالهادي سعدون (مُترجم عراقي):
الشعر والشعرية تبقى سمة الفصل عبر النص والكتاب، ولا يمكن أن تنجر إلى مجالات أخرى لا تمت بصلة لها. لكن هذه (الخطابية والمنبرية الفجة) لا تثير الاستغراب، خاصّة لدى من هم مثلي، ممن شاركوا في العديد من المهرجانات والملتقيات الشعرية في عالمنا العربي أو في دول أوروبية ولاتينية مختلفة، والتي تكتشف عبرها أن الاستعراضية والمنبرية والخطابية هي جوهر أغلب تلك الملتقيات الشعرية، بل أن قصب السبق-عادة- يحظى به ذلك المنبري الصارخ والزاعق والمستعرض دون انتباه لنصه ومحتوى قصيدته وشعريتها من لا شعريتها!.
أقول هذا، ولا فرق بين مهرجان بالعربية مباشرة أو بلغات أخرى تتوجب الترجمة، لأن الصنف ذاته من بين الشعراء العرب أو الأجانب من وجدَ فيها جوازاً للدخول، والحق يقال: إنني رأيته، ولمسته بنفسي ليس في شعريتنا العربية أو المشرقية التي لم تتخلَّ عن المنبرية كثيراً، بل وكأنها صنعة وبداهة الشعرية الجديدة بلغات أخرى كالإسبانية أو الإنكليزية أو الفرنسية، ولو دققنا الشيء القليل بما نراه من تسجيلات فيديوهات، عبر الإنترنت، لرأينا العجب فيه لمن لم يتسنَّ له الخروج والمشاركة الخارجية.
ما أراه، وأحيله لرواج الظاهرة، أن الشعر لم يعد يتحمل جدران صفحات الكتاب، أي لم نعد نشير لقيمة الشاعر وقصيدته عبر القراءة الهادئة والواعية والمريحة، بل صار الجمهور ينتظر من الشاعر ان يكون مؤدياً وممثلاً وناقل صور مؤثراً، مثل مروّج لسلعة أو فكرة أو خطاب. الجمهور يتخيل ذلك ويطلبه أو يرغب به، ولكن الطامة الكبرى أن يلبي الشاعر ذلك لأنها سلعة العصر وتوقيتاته وقوانينه الجديدة، وعبرها يتمتع بتلك الشهرة المؤقتة.
ربما، هناك نوع من الشعر يتعدى ذلك، ولا يقبل إلّا أن يكون منبرياً واستعراضياً، لكن الأدهى أن تجد شعراء يجرون قماشة شعرهم إلى استعراضية صراخية وتمثيلية ليست فيه، وكلها من أجل أن يقتنع بأن الجمهور ينتظر منه ذلك. وللأسف، وجدتها في مهرجانات عديدة، ومن أصوات شعرية كنت أحبها وأحب نصوصها، قبل أن أستمع لأصحابها الزاعقين المهللين، فاكتفيت بأن أبقى على قراءتي الشخصية (للمعيدي)، وهذا خير من أن أراه (في تلك الرؤية الزاعقة النافرة).
ربما، علينا مراجعة قيمة القصيدة وأسبابها المعاصرة. هناك أجيال تتربّى على هذه القاعدة غير المنصفة للنص وغير الواقعية، ولكنها قاعدة متداولة ويروَّج لها كثيراً. تربية السمع، والمتعة الشعرية تتطلّب جهداً خارقاً من القارئ المستمع، ومن الشاعر نفسه.
البرامج الشعرية جزء من هذا النكوص
صلاح بوسريف (ناقد مغربي):
أرجو أن ندرك أن «القصيدة»؛ هذا المفهوم الذي لا علاقة له بما نكتبه اليوم، كانت هي الخلل الجوهري في الشعر المعاصر. فمن ادَّعَوْا أنهم جدَّدوا في «الشكل»، وحتَّى في «المضمون»، بقيت «القصيدة»، هي ما يحكم وعيهم، وثقافتهم، وفهمهم لمعنى الشعر، وكتابتهم له. فـ«القصيدة»، في أصل بنيتها، هي شفاهية إنشادية، في لغتها، في إيقاعاتها، وفي ما تنتقيه من عبارات ومفردات وتعابير، يغلب عليها النطق، ولفظ الكلام، وإلقاؤه، بعكس الكتابة التي كانت بين أكبر الثورات في الوجود البشري، لأنها لم تغير عقل وفكر وخيال الإنسان، بل غيرت الإنسان نفسه، وغيرت الثقافات والحضارات، لكن هذا لم يحدث في الثقافة العربية، إلى اليوم، لأنها بقيت ثقافة شفاهة، وتعبيرات لفظية تقوم على «الكلام» لا على الكتابة.
بهذا المعنى، أفهم معنى أن يبقى الشعر العربي المعاصر، حتَّى عند أدونيس نفسه، شعراً شفاهيّاً يُلْقَى ويُنْشَد، وتتحكم في جمله وتراكيبه وصوره الأذُن، رغم أنه مكتوب على الورق، فما هو مكتوب على الورق، هو رسم للسان، وليس كتابة تستجيب لما أصبحت تفرضه الكتابة من توظيف لفضاءات الصفحة. حتى في «الكتاب أمس، المكان الآن»، رغم وجود توزيعات على الصفحة قد تدهشنا وتُثيرنا، وتشدنا إليها، هي- في أغلبها- شفاهية إنشادية، في بنيتها الشعرية، وأدونيس- بعكس أنسي الحاج، مثلاً- يستطيع إنشاد شعره بسهولة، كونه مبنياً على هذا النظام الإنشادي.
إذن، فهذه البنية تسمح بتسرب الخطابة، وتسرب الشعارات إلى الشعر، وتحوله إلى كلام جماهيري، كما كنا نجد عند محمد مهدي الجواهري، الذي كان يستنفر الجماهير ويستنهضها. ولعل البرامج الشعرية التي تُصْرَف عليها أموال طائلة، هي جزء من هذه البنية، ومن هذا النكوص الذي نراه في الشعر العربي.
قليلون هم شعراء الحداثة الذين يكتبون، لا تستهويهم «القصيدة»، بل يذهبون إلى مفهوم «الكتاب»، ليس بمعناه الشكلي كما عند أدونيس، بل بمعناه الكتابي، أو معنى العمل الشعري المكتوب، وهؤلاء يمكن أن أمثلّ لبعضهم بسليم بركات، وقاسم حداد، وعبد المنعم رمضان، ورفعت سلام، ومحمد السرغيني، وعبد الله زريقة، ومحمد زكريا، وهذا ما أعمل عليه كأفق شعري، منذ أكثر من عقدين من الزمن. بقي القليل ممن لم أذكرهم، وهؤلاء نصوصهم تستعصي على القارئ، لأنها خرجت عن النسق القديم لـ «القصيدة»، ووسعت دَوَالّ الشعر، وشرعت تستعمل، إلى جانب اللغة، الكثير من الرموز والدوالّ الأخرى، مثل الرسوم والأشكال الهندسية والفراغات، وطريقة توزيع الأسطر والكلمات والحروف، وما تحتمله من تنويعات، ناهيك عن انتهاكها للحدود الأجناسية للكتابة؛ لذلك حين أدرك القصائديون أن جمهور الشعر تقلَّص، عادوا إلى الخطبة والشعارات، وهؤلاء لم يخرجوا من ماضي «القصيدة»، التي هي قفص في ما يكتبونه.
الأدب ليس مرافعة بلاغية
سامي داوود (ناقد سوري):
بادئ ذي بدء: ألا ينسحب سؤالك على بقية الفنون، أيضاً؟ نعم. إنها إحدى إفرازات الهيمنة المؤسساتية على الصيغ التعبيرية. والتفضيل الخطابي الذي يعيد قول الشيء ذاته، ويجتر قضايا الواقع كما هي في سطحيتها وفجاجتها المختلطة بكلّ شيء، تحصل على التوزيع الأسهل. فالإنتاج السينمائي والإنتاج التشكيلي، والأكثر سذاجةً هو الأكثر رواجاً، والقصائد التي تثير حفيظة الناس هي الأكثر مبيعاً. إنها حالة بضائعية في مجال تشترط طبيعته التأملية، أن يكون على النقيض من القانون الجماهيري. أحيل، في هذا الصدد، إلى دراسة قدمها أوكتافيو باث عن الشعر وجمهوره.
علماً بأن هذه القضية التي تستفهم عن العلاقة بين الإبداع والواقع، هي من أساسيات التفكير في ماهية المادة التعبيرية؛ لذلك لا أشعر بالحرج من تكرار الإشارة إلى المادة التي قدمها بول فاليري سنة 1917، في الجمعية الفلسفية الفرنسية، والتي تناول فيها أسئلة تتقاطع مع اسئلة هذا المحور، ثم أعاد صياغتها في دراسته حول مكانة بودلير في الشعر الفرنسي. ويمكنني أن أعيد تشكيل تلك الرؤية في الآتي: إن حدث وتأملت المادة الإبداعية في ذاتها؛ أيُّ صورة يمكنك أن تستخلصها من ذاتها.
إنه تجريد يتطلب صراحة قاسية. وإن كشفنا، على غرار ما فعله بورخيس، في القول بأن كل كاتب، في لحظة الكتابة، يعرف، تماماً، إن كان كاتباً رديئاً أم جيداً، فسنحصل على منخل معياري، لن يحتفظ بداخله إلا على «القلة الهائلة»، وفقاً لصياغة الشاعر المكسيكي الذي استعان به باث.
لدينا مثال مكتمل الرداءة تجلّى في تجربة آندي وارهول، الذي كان- باستمرار- يأخذ موضوعاته من القضايا التي تشغل الصحافة، ولأن مرجعيته الفكرية كانت أسئلة الصحافة، كان رواجه ممهداً مسبقاً، رغم أن وجود أعماله في بعض المتاحف لا يتعدى كونه مجرد إهانة بصرية للمتلقي، لكنه استحوذ، عبر الذائقة الفاسدة، على المكانة التي يجب ألّا تكون له.
غير أن المتلقي لا يمكنه أن يكون حراً في المجال التداولي للعالم المعاصر. إنه محكوم بإكراهات تكبل تفضيلاته، سواء في مجال القراءة أو في السوبرماركت. وفكرة القارئ الشبح، الذي يجعل النص، عبر القراءة، نصاً أكثر فصاحة، هي حالة ممكنة في أطر ضيقة جداً. في روايته «اسم الوردة»، قام آمبرتو أيكو بتصحيح معالجته لفكرة العجالة والإله، بناءً على رسالة صغيرة قدمها له أحد القراء. وبما أن القراءة في أزمة، فلن يكون النص في معزل عن هذه الأزمة، بل ستكون النصوص التي يحيل إليها سؤالك، تمثيلاً لهذه العلاقة المتبادلة بين الجمهور والنص: أيهما يكون حاملاً للآخر؟.
«النصوص التي تمشي مع النمط الذهني» وأنا لا أستسيغ عبارة النمط، المتطابق مع الموضة، تكون جزءاً من الذهنية الجماهيرية التي يندمج فيها الفرد في المجموع، ولا تبقى بذلك مادة إبداعية؛ فالأدب ليس مجرد مرافعة بلاغية لاستحقاق الملكيات العقارية وفقاً للصيغة التي قدمها رولان بارت في مؤلفه «البلاغة الجديدة»، كي لا يُختزل التعبير إلى مُركب تقني لإجراءات بنائه كمادة إبداعية. وإلا تحوّل كلّ خطاب مكتوب من قبل خبراء تقنيين إلى مادة إبداعية. بالرغم من أن البلاغة ظلت لفترة طويلة تتداخل بالفلسفة، إلا أن الشكل التعبيري يمكنه أن يكون فارغاً، أو محشواً بمادة تقريرية تستعير محتواها من مجالات أخرى، كالتوثيق التاريخي أو التوثيق الجنائي.
إن كلّ مادة إبداعية هي قنديل يقظة، وإثارة للدهشة بما هي نباهة شاملة، تحمل الوعي والحس إلى مستوى تأملي- من ثمّ- إدراكي أعمق.
هناك إرث منبري دامغ
هاتف الجنابي (مترجم عراقي):
عندما كنتُ طالباً في قسم الأدب العربي، في جامعة بغداد، أواخر الستينيات، كان علينا نحن- الشعراء الشباب- آنذاك، أن نفعل شيئاً يثبت تمكننا من اللغة والوزن وإلا فنظرة الوسط الأدبي- الشعري، على وجه الخصوص، ستكون مشككة بنا وبقدراتنا، وعلى أقل تقدير لم يُعتَرَف بنا كما نستحق؛ بمعنى أنه كان ينبغي علينا، قبل، الخروج على الأعراف الشعرية السيطرة على الأوزان الشعرية التي سنّها الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثامن الميلادي. لقد واجهنا صعوبات جمة حينما حاول بعضنا كسر تلك القيود والخروج عليها كما فعلتُ، شخصياً. يمكن رسم مقاربة ما بين هكذا حالة في البلدان العربية وبين فتاة تلتقي برفيق دربها المفترض قبل الزواج، لأنه ليس من حقها فعل ذلك حتى لو كانت تنوي التعرف إلى مشروع المستقبل لا غير.
الشعر والفنون، على وجه الخصوص، أحياناً، تسبق عصرها من حيث الرؤيا وتطوير اللغة والأساليب والشكل، وكلّ من يقوم بذلك يكون له قصب السبق، ويخلده التاريخ الإبداعي. كلما كان المجتمع غير منغلق وقابلاً للتطور، وجدت الأشكالُ الجديدة مناخاً مشجعاً مؤاتياً. حتى وإن لم يتفاعل المجتمع، بسرعة، مع الجديد إلّا أنه لا يقف حائلاً، بشكل مؤثر، أو كابحاً للولادات الجديدة. هكذا كانت الحال (وما تزال) في أوروبا وأمريكا، عموماً. والأمر لا يشمل الشعر وحده بل باقي الفنون الأخرى، بما فيها المسرح والموسيقى، ولديَّ مثالان عشتهما: كان المجتمع البولندي المحب للمسرح لا يستسيغ مسرح غروتوفسكي التجريبي الذي أثّر كثيراً في المسرح العالمي فيما بعد. والشيء نفسه جرى مع الموسيقار البولندي العالمي بَنْدَرَتسكي، لكن بعد مرور فترة صار الحصول على بطاقة لأحد عروض غروتوفسكي المسرحية أو الاستماع لبندرتسكي ضرباً من الحظ.
مشكلة المجتمعات الشرقية ذات الغالبية العربية، على وجه الخصوص، أنها مجتمعات تقليدية شفاهية، وهي مرتبطة بماضيها وما يختزنه من قصص وحكايات وطرائف، وأشعار اعتادت عليها الأذن إيقاعاً وأسلوباً؛ بحيث يسهل على المرء أن يحفظ ما شاء من الأبيات الشعرية أو القصائد الموزونة المقفّاة كي يرددها على مسامع الناس فتجلب الانتباه، وبذلك يسيطر على مسامع المتلقي أكثر من عقله. أما فرز القصيدة الجيّدة عن السيئة فهو من مهام الدارسين والأدباء والنخب المثقَّفة وما يدور في مجالسهم. غالبية المجتمع لا يعنيها، من بعيد أو قريب، تقنية القصيدة وإنجازات الشعراء على صعيد الشكل والرمز والتقنية، بقدر اهتمامها بما يؤثر فيها ويدخل أسماعها.
كانت (وما تزال) كتابات شعراء موهوبين يكتبون بالعربية، مشكوكاً فيها؛ لأنها تبتعد عن التقاليد الشعرية الموروثة. نلاحظ، حتى اليوم، عزوفاً وعدم اكتراث بـ«قصيدة النثر» و«الشعر الحر»؛ ظنّاً من العقلية النقدية المهيمنة، وكذا الذائقة الشعرية التقليدية، بأنها نثر لا غير، وأنها من صنيع الغرب وهي تبتعد عن الأصول والتقاليد الشعرية المتوارثة…
لو نظرنا إلى اللغة وتجديدها، لألفينا أن معظم اللغات الأوروبية تتطور، وتتجدد قواعدها. أمّا اللغة العربية فتطورت في الشارع من خلال اللغة المحكية أكثر مما جرى على صعيد الخطاب بالفصحى. إذا احتاج الغرب من عشر سنوات إلى عشرين سنة كي يتقبل ما هو جديد في الفنون والثقافة والتحديث فمجتمعاتنا تحتاج إلى قرن، أو قرنين على أقل تقدير، فيما لو سارت الأمور بشكلها الطبيعي. مجتمعاتنا الشرقية لا تلحق بوتيرة التطور في كافة المجالات، ومنها الفنون والأدب والموسيقى وتفعيل العقل والبحث والتقصي.
يصفق لها جمهور لا علاقة له بالشعر!
هشام محمود (شاعر مصري):
شهدت القصيدة العربية تطورات كبيرة، جماليّاً وموضوعيّاً، وأصبح اشتغال الشاعر على اللغة والرمز والصورة والسرد والتشكيل أمراً لا تخطئه عين القارئ المتأمل لما آلت إليه الشعرية الجديدة. ورغم أن تحديات التجديد والعصرنة تحديات لها منطقيتها وضروريتها، عموماً، وفي الفن والكتابة، خصوصاً، ما يزال الخطاب الماضوي يحاول أن يسيطر على المشهد، كالعادة، ويتصور أصحابه أنهم ينافحون عن تقاليد القصيدة العربية، متناسين أن أهمّية الفن تكمن في أن يشق طرقاً جديدة، لا أن يسير في طرق، سبق أن مضى فيها الآخرون. وأتصور أن نهر الإبداع الحقيقي لا يحفل إلا بالتجارب المختلفة التي تحمل من الجدة والحداثة ما يبقيها في ذاكرة الإبداع الإنساني، ويبدو «أبو نواس» مثالاً صارخاً للشاعر الذي ضاق بتقاليد رآها غير مناسبة لشاعريته، فيما يعدّ درساً ما أحوج سدنة القديم إلى استيعابه! لقد ضاق ذرعاً بأن يكتب حياة لم يعشها، فيبكي ويستبكي، ويقف ويستوقف على الأطلال، في حين أنه يعيش في بيئة بَعُدَ عهدها عن عهود الأطلال، ومن يبكونها، ويسخر أبو نواس، ويناقش مناقشة عقلية، كما يطرح بديله الجمالي الذي يخصه: هو درس قديم يعيد نفسه اليوم، على يد من يدعون امتلاك ناصية الفن، لمجرد أنهم يكتبون ما يستلب جمهوراً متوهماً، باتت بينه وبين الشعر مسافة شاسعة، وقد يتصور شعراء الخطاب الماضوي، ممن يركنون إلى الخطابية والمنبرية، ولم يصلوا بكتابتهم إلى مستوى فني مقبول، أن هذا الخطاب ما يزال قادراً على أن يجتذب جمهوراً ما لهذه الكتابة، وفي الحقيقة هو يجتذب، فقط، جمهوراً لم يعد الشعر- أصلاً- في دائرة اهتمامه، وبات الأمر يمثل نوعاً من الابتذال والرخص، ولست مع من يلخصون القضية في مسألة الشكل الشعري، فحسب، رغم كونه مجالاً تتحرك فيه الفكرة، ووعاء لها. وربّما نستطيع القول إن الشكل جزء مهم من سؤال التجديد، فقد كان الشكل الخليلي البيتي ملائماً لشاعر ما، في عصر ما، وأبدعت الشعرية العربية في استغلال هذا الشكل على مدى قرون طويلة، وبات التحدي، على شعراء اليوم ممن يزعمون أن هذا هو الشعر وكفى، أن يقدموا جديداً يخصهم عبر هذا الشكل، لا أن يعيدوا إنتاج ما سبق، بتهافت وترخُّص واضحَين، وإلا فالخروج عنه وعليه أمر ضروري ولازم، مع أهمّية ألّا يحول هذا دون فهم إمكانات الإيقاع بمختلف أشكاله، في النص الشعري، وأن مفهوم الإيقاع أوسع وأهم من أن يختزل في الوزن.
أما من ناحية المضمون، فلا خلاف على أن القصيدة الراهنة ذهبت مذاهب شتى، فكراً وفلسفة وتاريخاً، وامتدت تقاطعاتها، فوق هذا، إلى سائر الفنون والعلوم، ولم تعد مجالاً للتطريب وتشنيف الآذان، ومحاولة اللعب على الفجوة الحاصلة بين الإبداع والتلقي عموماً، ومردّها إلى مشكلات كثيرة، منها التعليم ومناهجه، ووسائل الإعلام ووضع الشعر فيها، إضافة إلى مشكلات مجتمعية وفكرية وسياسية، وضعت حوائط سميكة بين المتلقي وكل ما هو ثقافي، على نحو لا يمكن أن يتحمله الشعر ولا الشاعر، مهما ردّد بعض النقَّاد الكذبة، من أن زمن الشعر قد انتهى؛ فالشعر الحقيقي الجميل والمختلف باقٍ ببقاء الحياة، وهو أبقى من تلك الكتابات المتهافتة التي يصفق لها جمهور لا علاقة له بالشعر.
الشعر ابن زمنه
سمير درويش (ناقد مصري):
الشعر جزء من السياق العام الذي يعيشه العرب على المستويات كافة، لأن الشعراء يعيشون لحظتهم التاريخية والحضارية والثقافية في النهاية، ولا يمكن أن ينفصلوا عنها بالكامل. طبعاً، يستطيع بعض الشعراء- حسب موهبتهم وثقافتهم- أن يكونوا جزءاً من الثقافة السائدة في العالم، لكن هؤلاء قليلون دائماً، يثبتون قاعدة التراجع، ولا ينفونها.
منذ بداية القرن التاسع عشر، شهدت الدول القديمة، في الوطن العربي، بداية نهضة حضارية: (مصر والعراق وسورية، خصوصاً)، ولأن الظروف في مصر كانت الأفضل، بحكم احتكاكها بأوروبا في زمن محمد علي وأبنائه، هاجر النابهون من تلك الدول إليها، وأحدثوا نهضة في المسرح والصحافة والطباعة.. وغيرها، فشهد الشعر تطوُّراً متسارعاً كذلك، بدأ بالإحياء على يد البارودي وشوقي وحافظ، ثم بدأت النزعة الرومانسية على يد جماعة أبوللو، وحركة الشعر الحر، وصولاً إلى قصيدة النثر.
إن من يفهم ضرورة قصيدة النثر ومنطلقاتها الجمالية، يدرك أنها رأس الحربة في عملية التنوير، حيث تتغيّا التحرر من القيود القديمة، ومن مسحة القداسة التي لازمت الشعر العربي الكلاسيكي، كما أنها- وهذا في غاية الأهمية، كذلك- تهدف إلى كشف الذات وتعريتها حد الفضائحية، والاستغناء، كليّاً عن الأغراض الشعرية القديمة: الفخر والمدح والذم والحماسة.. وغيرها، ومن شأن هذا أن يتخلى عن منظومة (القيم) القديمة، إلى منظومة حياتية بديلة، ترى الإنسان هشّاً ضعيفاً، له سقطاته التي يجب أن يتعامل معها باعتبارها جزءاً من تكوينه، لا أن يكذب ويقول ما ليس حقيقيّاً.
هل يمكن أن نقول إن ثمة ردة لمصلحة القصيدة الكلاسيكية؟ أنا أشك في هذا، وإن كنت أرى وجوداً معقولاً لهذا الشكل القديم لدى شعراء مجيدين بين الشباب، ربّما لأنها أسهل من حيث التشكيل الجمالي، وأكثر جذباً للمستمع الذي تأسره الموسيقى الصاخبة، ولأن «قصيدة النثر» لم تستقر بعد، ولم تخلق دوائرها في النقد والتلقي والإعلام.. وغير ذلك، لكني ألاحظ- كذلك- أن كثيرين ممن بدأوا بالشعر الكلاسيكي انتقلوا بالتدريج إلى قصيدة النثر، سواء استقروا فيها أم تنقَّلوا بين الشكلين.
الصراع (الجمالي) بين قصيدة النثر العربية والقصيدة الكلاسيكية لا ينحصر في الشكل الفني، فقط؛ بمعنى أن الشعراء يجربون وينحازون للشكل الذي يوصل رسالتهم، بل يتعدى ذلك كي يكون صراعاً حضاريّاً.. في النهاية، سيسود الشعر الذي يلبي حاجات لحظته التي يُكتب فيها، لأن الشعر ابن زمنه.
عمرها قصير جدّاً
كه يلان محمد (كاتب عراقي):
لا يمكن المراهنة على القوالب الجاهزة والعبارات السائدة لبناء العمل الإبداعي؛ من هنا فإنَّ الأزمة ليست في الشعر بقدر ما تكمنُ في المنتسبين إلى مظلته، وما يحتاجُ إليه الواقع الإبداعي هو تسمية الأشياء بأسمائها، فالعمل الذي لا يضيفُ شيئاً يجبُ ألّا يتمَ تضخيمه، ويدبَّجُ بشأنه أوصاف فذلك يسيء إلى المشهد الأدبي ولا يخدمُ التطور الإبداعي. أما بالنسبة إلى القصيدة الإنشادية وشعر المناسبات، فلا بدّ من التأكيد على أنَّ هذا النمط لا يستجيبُ لروح العصر. ربّما يتصاعدُ التفاعلُ مع القصائد التبجلية التي تداعب المشاعر مباشرة، بشكل مؤقت، غير أنَّ القصيدة التي لا تتسربُ إلى كلماتها أسئلة وجودية عميقة، ولا تتجذرُ في تربتها رؤى إنسانية يكون عمرها قصيراً جدّاً، ولا تعبرُ إلى الجيل القادم.
وما تجبُ الإشارة إليه أنَّ الجمهور لا يتابعُ النصوص الإبداعية بناءً على انتماءات صاحبها الحزبية والقومية بل يريدُ نصاً يعبرُ عن هواجسه بلغة غير متخشبة ولا متقعرة، أكثر من ذلك فإنَّ ما يشدُ القارئ إلى النص الإبداعي هو المجال الذي يوفّره لسد فجواته وفك أحاجيه. ومن الواضح أنَّ القصائد المنبرية تعوزها هذه المواصفات، فالشعر الحديث يعتمدُ على القناع والمراوغة والمكر اللغوي… ومن المؤكد أنَّ هذا المستوى من التعبير الإبداعي يفرضُ مناخاً جديداً لناحية التعاطي مع المضمون والعناصر المكونة لتشكيلته.
أملنا في أقلية نادرة
حمدان طاهر المالكي (شاعر عراقي):
القصيدة المنبرية هي قصيدة مهرجانات وأغلب الذين يتجهون بسبب هذه الملتقيات، أي إنها قصائد مهرجان أو مناسبة أو لقاء عبر التلفاز، هناك من يبحث عن التصفيق وكلمات التشجيع وكأنه طفل في مدرسة ابتدائية، تسكره كلمات الإطراء، رغم معرفته الأكيدة أن قصيدته لن تتجاوز جدران القاعة، وإن هذه القصيدة ستنسى بعد جلسة الاستراحة. ولعلّ أكبر حافز للسير في هذا المنزلق الذي لا يفضي إلى روح الشعر هو ظاهرة البرامج المموَّلة من قبيل مهرجان «أمير الشعراء»، وغيره من المهرجانات التي تكون الغلبة فيها لتصويت الجمهور، والجمهور معروف أمره (مع احترامي لمن يفهمون كينونة الشعر). إلى هنا، وانظر كم هي عظيمة مصيبة الشعر في هكذا مواقف!: بلدان عربية تنفق الملايين من الدولارات على مثل هذه النشاطات التي تخرب ذائقة المستمع والقارئ معاً، بلدان حديثة وعصرية بكلّ شيء إلّا في موضوعة الشعر. ومن طبيعة الشاعر المشغول بالشعر أن يكون في مستوى اقتصادي صعب، تهمه الجوائز لما تقدمه من مال ومن عطايا يستطيع أن يعيش بها، ويسد بها حاجاته. المستمع العربي للشعر (وهو اليوم نادر) مايزال يهتم بالموسيقى والجرس العالي للقصيدة على حساب المستوى والقيمة الفنية، وهذه مشكلة بحد ذاتها؛ لأنها تجبر البعض حتى من يمتلكون الأدوات الفنية ولديهم منجز محترم، على النزول لما يريده من يجلس في القاعة. بطبيعة الحال، هي مشكلة تخص القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، ولا شأن لقصيدة النثر بها. فيما يخص العراق ليس هناك رواج للقصيدة التقليدية، وصحيح أن الشعر العربي، بجميع أشكاله، يعاني من أزمة قراءة وسيادة للسرد، لكن المشكلة تكون أعمق وأكبر حين يجري الحديث عن مطبوع للشعر العمودي. وهنا، يحق لنا أن نطرح السؤال الذي طرحه الشاعر العراقي الراحل فوزي كريم: لماذا لا توجد ترجمات للشعر العربي القديم في مكتبات العالم؟ ولماذا لم يهتم أحد من الأوروبيين بشعرنا القديم؛ ترجمة ودراسة وقراءة، وفي المقابل، هناك ترجمات للشعر الفارسي والتركي في مكتبات أوروبا؟ يقول الشاعر الراحل فوزي كريم: الشعر الفارسي والشعر التركي كمثال أهتمَّ بما هو إنساني، وطرحَ أسئلة الوجود العميقة، فيما انشغل شعرنا بالفخر والمثاليات وطبائع الفروسية التي لا يمكن- بأي حال- أن تنسجم مع الحقيقة الإنسانية. بالتأكيد، ليس الشعر العربي كلّه على هذه الشاكلة، لكن المجمل يقول ذلك. لا يمكن نسيان أبي العلاء المعري أو أبو نواس في تجلّيات الصحو. وعلى أية حال، رغم كلّ هذه الأصوات المنبرية التي تهجم على أسماعنا في المهرجانات والمحطات المسموعة، والمرئية، أملنا في أقلية نادرة من الشعراء تعيد للشعر مكانته.
كتبت القصيدة العامّية ولم استغنِ فيها عن الرؤيا
حسّان عزّت (شاعر سوري):
يحيلنا السؤال حول قصيدة المنبر، إلى المشهد الراهن، وما يجري فيه من حروب وكوارث وأحداث كبرى، رغم أن ما نشهده كثيراً ما يبدو خادعاً بتحولاته وعنف ما يجري فيه، فالحرب وكوارثها، من قتل وتدمير وترويع وإرهاب لا تستحضر صور الجمال والفن العالي، بقدر ما تستحضر الحَمِيّة والاستنفار والخطابة، أو تحيل شاعر الرؤيا إلى الصمت والبهت.
فعنف المشهد، وجبروته، وماديته، تجعل كلّ قوى الشاعر في السخونة والمباشرة. وهنا، غالباً ما سينحسر كلّ ما عرفنا من فنيات ونظريات ونماذج، وصلت بالشعر إلى آفاق بعيدة، إضافة إلى أن مسابقات الشعر ومهرجاناته هنا وهناك، تشجع هذا النمط من الشعر، الذي يحمل موضوعات الحماس والوطن والأمجاد بعيداً عن عين الشعر المبدع.
وتبقى فئة من الشعراء تستطيع أن تعزل نفسها بقدرة فريدة عن هول ما يجري، فتكتب قصائدها، ليس للآن، وللإعلام المحرّض، بل لزمن آخر يأتي بعد الحرب وقد وضعت أوزارها.
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه على المبدع، الآن: هل تترك الحرب للمبدع المنضفر في شعبه وتطلعاته خياراً ومنجى مما يجري؟
ليس بين أيدينا، الآن، الهدأة التي تجمع وتستقصي وتحلل بعين الناقد وأدواته الموضوعية والأكاديمية. وحكماً، ثمّة قصائد كبرى تكتب الآن، يصل بعضها إلينا، ولا يصل عمومها.
غالباً يكون هذا الشعر تقليدياً، لأن أدواته معروفة وسهلة، ونماذجه متاحة للجميع، بينما شعر الإبداع والرؤيا، بغض النظر عن اختلاف شكله، يكاد يكون شوارد في التاريخ الأدبي تقتضي البحث والتنقيب عنها.
موقع الآداب ينشر قصائد لشعراء النثر والرؤيا، وقصائد الخطابة والتفعيلة، إضافة إلى ما ينشر من مجموعات، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والتي تستوقفنا، فهي كالكمأ، وأذكر منها شعراء نثر وتفعيلة، كتبوا قصائد لافتة على قدر ذواتهم وتجاربهم، منهم شعراء وروائيون وقصاصون: تمّام التلاوي، فاتن حمودي، ندى منزلجي، فهر الشامي، رشا عمران، أحمد الرفاعي، أحمد بغدادي، نجم الدين السمان أيمن مارديني مرام مصري منذر مصري، سليم بركات، آفين إبراهيم، آلاء حسانين، محمد خير الحلبي، مازن أكثم سليمان، نعمان رزوق، وغسان جباعي، وبشار العيسى، وغيرهم كثيرون.
من تجربتي، كتبت القصيدة العامية القريبة من الناس والتي تحافظ على جماليات القصيدة العامية، وكتبت بالفصحى: معلَّقة حلب- داريا- مضايا، وشرفات الخلق، وبوليرو الحب والحرب، كما كتبت قصائد تفعيلة، ونثر، وعامية، لم استغنِ فيها عن الرؤيا والفلسفة وجماليات الصورة واللغة..
كل قصيدة مستقلة بذاتها
ممدوح رزق (كاتب مصري):
لا يفترض دائماً أن تقدم الخطابية، في حد ذاتها، مبرراً لإزاحة الشعرية التي تتضمنها، وإنما عليها كأسلوب فني يمتلك دوافعه البشرية أن تبقى خارج التصنيفات الطبقية للغة؛ بذلك يمكن لمفردات التنحية والعزل الشعري كـ«التطور»، و«المستوى»، و«القيمة» أن تُستبدل بمفردات المقاومة كـ«التعددية»، و«الملائمة»، و«التجاور».. الاستبدال الذي يمكن اعتباره تقويضاً لإرادة الهيمنة الكامنة في تحوّل الانحياز الذاتي إلى قانون مطلق للفن…
فالشعراء الذين ينجذبون إلى ما يُطلق عليه «الشعر الخطابي» ينتمون إلى أنساق عامة من الأفكار والرؤى التي تدعي قدرتها على تفسير الوجود في ظل المتغيرات كافة؛ الأمر الذي يكلفهم انفصالاً عن واقع يحكمه الشك والإنكار والسخرية من المُثل القديمة، وهو ما يتجسّد في ظواهر القصيدة المعاصرة.. لكن هذه الإجابة السهلة أشبه بالفخ؛ فهي تقترح- في حقيقتها- استفهاماً جوهرياً حول ما إذا كان يجب اعتبارها شرطاً أو معادلة للشعر؛ بتعبير آخر: هل يقتصر «التعبير الخطابي» على ما هو أيديولوجي بأقصى ما تسمح به حدود المصطلح، أم أن القصيدة الحديثة، كما يُشار إليها بناءً على جماليات انتقائية، يمكنها أن تُكتب استناداً إلى مفهوم كلّيّ؟.. كلّ قصيدة، وليس كلّ شاعر، تعطي احتمالاً للإجابة، وليس الإجابة نفسها، وفقاً لما يمكن أن تعنيه الكلمات المستخدمة في هذا السياق عند لحظة معينة؛ ذلك لأن كل قصيدة هي محاولة مستقلة للتفكير في اللغة والشعر والتاريخ، لا تتطابق مع المحاولات الأخرى.
كُتّاب قصيدة النثر الرديئون
هاني نديم (شاعر سوري):
يعمل الشعر بمثابة جهاز مناعي لجسد اللغة، ويضطر هذا الجهاز إلى التبدّل والتحول لمواجهة أزمات الجسد اللغوي الناتجة عن الانهزامات والحروب والبؤس الإنساني، بل الفخر والحماسة وغيرها مما قد يعلق من «بكتيريا» وجودية.
ولا شك في أنك تذكر الفعل المقاوم الذي أبداه الإبداع بعد الحرب العالمية، إن كان الدادائية في التشكيل، وتقدم «الروك» لاحقاً إلى واجهة الموسيقا، مثلما استلهم الشعراء في أمريكا وأوروبا، حينها، الجاز والتجريد في أشعارهم، وظهرت فكرة البوهيمية الشعرية. والمفاجئ أنهم أعادوا «الإيقاع» والوزن احتجاجاً على فشل الشعر في إيقاف الحروب، فبحثت قصائدهم عن قيم جديدة بجرأة صادمة، في كثير من الأحيان، حتى أنهم عادوا للأساطير، ونبشوا في الحضارات القديمة كالفرعونية والهندية. ولكن المدهش أن المدرسة التي كانت هي الأكثر بقاءً وتأثيراً في الموجة الجديدة بالشعر الأمريكي هي مدرسة الإيقاع، فقد ظهر شعراء الإيقاع «Beat Poets» في الخمسينيات من القرن العشرين، وتجمعوا بشكل كثيف في سان فرانسيسكو، حيث كانت مدرسة سان فرانسيسكو للشعر لافتة، آنذاك. ومن أشهرهم: «آلان غينسبيرغ – Allen Ginsberg» و«جاك كرواك – Jack Kerouac» و«وليام بوروز- William Burroughs». وكانت قصيدتهم تعتمد على التكرار الصوتي واللفظي، وتركّزت مضامينها على مناهضة التوحش الإنساني بحيث يقول الكثير من النقَّاد أن فن «الراب»، الذي ظهر لاحقاً، هو وليد تلك التجارب وامتداد لها. أعتقد أن هذا هو ما حصل في العالم العربي، بشكلٍ أو بآخر.
إذن، الشكل هو احتجاج على النسق دوماً. النسق الذي فشل وانهار على حد زعم الاحتجاج الجديد، سواء للنثر أم للوزن.
سيظل هنالك قصائد للمنبر والبلاغة والبحور، تُكتب وتُقال وتُقام لها مهرجانات، بكلّ تأكيد؛ إذ إن لم نعتبره احتجاجاً على ترهّل ونكتة ما يجري في قصيدة النثر، حسب زعم كاتبيها، فعلينا أن نتذكّر إرثنا الشعري الهائل الذي لا يمكن، أبداً، إغفاله من شاعر نثر كبير؛ ذلك الإرث الذي بُني على عجينة اللغة العربية القابلة بأحرفها وألفاظها للمنبر والتقطيع بما يلهب الأنفس، ويستثير الحواس.
دعني أسأل السؤال، هكذا: كيف يجرؤ كتَّاب قصيدة النثر الرديئون على الظهور بنتاجهم، والتباهي به بين شعراء هضموا تاريخ الشعر العربي، وأبدعوا في كلّ الأشكال؟
الشعر للجميع
محمد يويو (شاعر مغربي):
أتى على الشعر زمن، كان يقوم فيه بدور الإعلام البديل؛ بتسجيل البيانات، ورصد الأحداث السياسية بكلّ تقاطيعها، وتلقف الآثار الوجدانية، حتّى تمكّنت نماذجه من ذائقة القرّاء، ما جعلها مستعصية على الاستبدال.
هذه النماذج المعيارية الراسخة حتى الآن؛ أسمعت حتى أصمّت الأسماع بالنزعة الخطابية. فمتى ما قرّر، بعد ذلك، الشاعر منهم الانكفاء، ترتّب على ذلك انقطاع الاستجابة، تبعًا لقدرته على المناورة والتمويه. إذ يبدو أنّ المتحكم الأوحد، هنا هو الارتباط بالسماع الجماهيري وغواية إشباع توقّعاته؛ ما يعتبر توقيع شيك على بياض في مقابل التخلّي عن ركوب الموجات الشعرية المتلاحقة، والوقوع في مأزق الإمارة المتوهّم، في ضياع وطمس لمعالم الشاعريّة، وهو- بالأحرى- وقوع في منطقة التشتّت التي لا يعرف لها هدف سوى تكرار شلاّل هادر في ذاكرة القارئ وانزلاق وراء صوره ومقاطعه الآمنة.. استعاضة عن ضجر التفكيك والتخليق بالمخزون التراكمي النمطيّ.
دون أن ننكر أنّ المدّ الحداثي و«المابعده» في الشعر، وتوظيف ما ذكرت، وغيرها من جماليات فنية وأسلوبية، كل ذلك حدا بالشعر إلى الانحسار والتقوقع داخل شرنقة الصفوة والنخبة؛ إذ إنّ هذا الإمعان في تسريع التحولات الشعرية الخلاقة والمتعالية، فاجأ القارئ حتى أخذ يسبقه بمراحل، ما أدّى إلى حدوث قطيعة بين الشعر وبين عامة القرّاء، ما يتطلبّ من الشاعر المعاصر اجتراح مسالك جديدة وجريئة، تعيد فتح قنوات التواصل الجماليّ مع الجمهور، وتضيّق الهوة القائمة، بل تحدّ منها. فالشعر، في نهاية الأمر للجميع.
أكتب كما ينصحني «ملاك الشعر!»
محمود عثمان (شاعر لبناني):
إذا كانت القصيدة النثرية قد حققت تطوراً فنياً ملحوظاً في عالمنا العربي، فهي، في الوقت نفسه، كما حال القصيدة الكلاسيكية، تزخر بالكتابات الرديئة التي تدعي الانتساب إليها. وأظن أنّ النقاش حول شكل القصيدة قد تجاوزه الزمن؛ إذ إنّ الأهم، أولاً وأخيراً، مستوى القصيدة وجودتها، وما فيها من لهب شعري، وليس تصنيفها من حيث شكلها الخارجي.
وقد أثبتت التجارب أنّ الجمهور العربي ما يزال يطرب للإيقاع، ويأنس بوحدة الروي والقافية، ولا يمكن التعميم في القول إنّ الكلاسيكية تعني المنبرية، فحسب، فلا يجوز إطلاق النعوت عشوائياً.
إنّ تطور القصيدة العربية ليس محض إسقاط خارجي، تقليداً للنماذج الغربية، بل ينبغي أن يكون هذا التطور من داخل تراثنا، وفي صيرورة تلائم حاجاتنا وتطورنا الفكري، والاجتماعي.
هي حالة صحيّة أيضاً
ريم غنايم (مُترجمة فلسطينية):
استحضار القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة، شكلاً، في بيانها ونغمها وخطابيّتها، ونفث أنفاس حيّة في شيخوختها هو جزءٌ من اضطراب الفَقد وإنكار المَوت والانكماش في وضعية جنينيّة؛ دفاعاً عن النّفس من الإحساس بالذّنب تجاه الخسارة أو الهزيمة لصالح كلّ ثقافةٍ أخرى غَزت أو اغتصبت أو مسخت أو أثّرت في كيان القصيدة العربيّة، ففكّكت معماريّتها وزخرف بيانها. وهي تعويضٌ ثقافيّ عن إثم مصاهرة الآخر والتحسس من خطر الانقراض أو الانبلاع في أوهام الآخرين..
القصيدةُ جرحٌ، وهذه الكتابة الموقتة الغائرة في جُرحها هي رفض للتطابق بين وهم الأنا ووهم الآخر، وإعلانٌ بريء وبدئيّ، جنينيّ، ربّما، بأنّ الآخر ليس «أنا». وهي، في حدّ ذاتها، حنين مفرِط في قسوته إلى القصيدة، تُشدّ تلابيبها، عبثاً، إلى الوراء.. حنين إلى «جلبة» اللسان، وضوضاء الإطناب وسلطة المنبر ونرجسيّة العربيّ الجريح المغتَصَب، العربيّ الذي يهوى لغته إلى حدّ التقديس، ووحده القادر على السموّ بها إلى مستوى بيانها الرفيع، وحده. أما الباقي فهم أعاجم، بحسب قول الجابري.
هذه الظّاهرة التي لا تزال قائمة، وتمدّ خيوطها باستماتة هنا وهناك، هي حالة صحيّة أيضا، وجزء من بيت القصيدة العربيّة الذي يُعاد إنتاجه وتعريفه، على الدوام، وإن كانَت ظاهرة يشوبها الوَهن في بحر الشّعر.
لقد ماتت، منذ زمن، القصيدة العربيّة في ردائها المنبريّ، لكنّ وجودها بصرياً، أمامنا، لا بدّ منه تعبيراً شرعياً عن حالة فقدٍ وتكوّر واضطراب، قبل الإعلان الأخير عن تقبّل الخسارة لصالح العالَم. ووجودها يذكّرنا، ونحنُ نعبرُ إلى ضفافٍ أخرى، بأنّ أثر الميّت ما يزال هنا، وكما هو شرعيٌّ الاحتفاء بالتجاوز، شرعيّ هو، أيضاً، تأبينُ الميّت والتبسّم بصَمتٍ للمؤبن.
تعليب الشعر
كمال أخلاقي (شاعر مغربي):
يستمر بعض الشعراء العرب في كتابة قصائد خطابية وحماسية، تفوح منها رائحة الخطابات السياسية القادمة من أيديولوجيات قديمة ومتجاوزة، تاريخياً، في حقلها السياسي، وهم بذلك يحاولون عبثاً ضخَّ هواء في صدر ميت..
مستقبل الشعر العربي رهين بانخراطه في الشعريات الآتية من كلّ قارة في هذا العالم، العالم الذي أصبح كقطعة شطرنج صغيرة، وعلينا أن نلعب في مضماره، منفتحين على ما يصنعه كلّ شعراء العالم الآن..إن سيرة محمود درويش الشعرية، وحدها، كافية لتؤكّد أن الشعر الذي يبقى وينتصر ليس هو شعر الخطاب الواضح بل شعر الوخز بالموسيقى وبالخيال وبالرؤية اللامتناهية للعالم، وهذا ما يحاول قلة من شعراء العربية القيام به بعيداً عن البهرجة الإعلامية المتخصصة في تهميش الشعراء الحقيقيين وتلميع صور شعراء الخطابة المدافعين عن فردوسهم المفقود، يتبعهم قرّاء يحنّون إلى عصور شعرية لن تعود.
كيف تنجو اللغة لتروي؟
فاتن حمودي (شاعرة سورية):
لأن الشاعر هو المسافر الأبدي؛ مسافرٌ نحو الذات، ونحو الآخر، يقف قلقاً ملفتاً حوله، في مكان مشتعل بالكوارث، وأمام شعوب تعيش تراجيديا عاتية، في عالم لم يعد يتحرك للمآسي والشتات ولا لموت آلاف الأطفال، وكأن ضميره وعاطفته الإنسانية انتهت، وكأننا صرنا أمام عالم آلي، غير بشري، وهو ما أوصلتنا إليه أنظمة عربية فاشلة قادت الشعوب للكوارث، فما بالك ونحن السوريين نعيش تحت سماء الموت. وهنا، أستحضر مقولة أبيقور «الموت ليس هو المؤلم، وإنما توقعه هو المؤلم».
في هذا الواقع، لا أستغرب أن يمضي بعض الشعراء إلى قصائد منبرية، انفعالية، تعتمد الوزن والقافية، والشعارات، بعيداً عن العمق الثقافي الحقيقي للمكان. وثمّة شعر عامي أحياناً قريب من الروح، نظراً لقربه من لغة المواطن العادي، سجَّل بعض قائليه تفاصيل الحياة في بداية الثورة، في اثناء هذه الحرب الطويلة، فكان الشعر حاضراً خارج دواوين الشعراء، في هتافات الثورة وساحات الاعتصام.
الأنظمة تدمّر المدن التاريخية، تدمّر ما بقي من جمال. وطبيعي في دول مشوهة لم تكتمل علاقتها بالحداثة، ولم يكتمل فيها الفكر بالعمل، أن تذهب أجيال إلى الفراغ والضياع، أن نرى ونسمع ما هبَّ ودبَّ، ندرك أن الشعر يحتاج إلى مسافة زمنيّة تبعده عن انفعاليّة الحدث، كي يستطيع الشاعر تمثّله فنّياً، وندرك قدرة الشاعر على خلق المسافة تأويليّاً، شعراء كثيرون كتبوا عن مذبحة تل الزعتر، لكن محمود درويش استطاع أن يحوّل الفاجعة إلى نص خالد، حين كتب «أحمد الزعتر»، والذي كان نشيداً حقيقيّاً، غنيّاً بالأسطوري والتراجيدي معاً. على طرف آخر، لا ننسى قصيدته «سجّل أنا عربي»، تلك القصيدة المنبرية التي قالها وهو مقابل عدو يريد أن يطمس هويته..
ورغم أنّ كلّ شيء يدعو إلى اليأس، يأتي الشعر الحقيقي مثل شمعة الأمل، في صورته الكونية والرؤيوية، وتحضر قصائد الحرب والحب، تحضر المدن، يحضر كلّ شيء، في زمن الغبار، فنردد: «وسوى الروم خلف ظهرك روم..» كما يقول المتنبي. وأسأل: ما هذا العالم الذي يهدم؟ وكيف تنجو اللّغة لتروي؟