«كورونا» الذي يُعيد «تربية» العالم 

عبد الرحيم العطري  |  01 أبريل 2020  |  

لربَّما من السابق لأوانه، الدخول في محاولة لاستخلاص الدروس والعبر من رعب كورونا «السائل»، لربَّما من غير المنطقي، الحسم في مآلات الوضع المربك والمخيف الذي نختبره آناً، ومع ذلك لا بأس أن نجرِّب القراءة ونهفو إلى تلّمس الخلاص. الأمر جلل والموقف عصي على الفهم والتأويل، فالعالم الذي كان مطمئنا إلى يقينياته واعتقاداته المتصلّبة، بات غائصاً في حيرة كبرى، وكأنه يجرب دهشة البدايات وقلق النهايات كما في العود الأبدي، فلا حقيقة تصمد ولا معنى يُؤَوِّل ويُؤَوَّل، فقط هو «اللايقين» ما يشمخ عالياً في كلّ المسالك والمتاهات، فقط هو الضعف والخوف والمرض والموت، ما يعيدنا إلى الصفر ويدفعنا نحو المجهول.

لا الحكومات التي أدمنت طويلاً «البلطجة الدولية» والاستبداد السياسي، في الشمال أو الجنوب، استطاعت أن تتغلَّب على هذا العدو اللامرئي، الذي ينتشر سريعاً ولا يبقي ولا يذر. ولا الحكومات التي أدمنت «التبعية» أو «الأنفة وعزة النفس» استطاعت بدورها أن تتحرَّر من لعنة كورونا، وتبقى في حِلٍّ من «رعبه» و«ترعيبه»، فالفقراء كما الأغنياء، المشاهير والمغمورون، آل الشمال وآل الجنوب، الكلّ بات خائفاً من الجائحة، ومُوقِناً بأن رساميله الرمزية والمادية لن تمنع عنه «الوباء السائل».

فجأة توارت عن قصاصات وكالات الأنباء ومسائيات الإذاعة والتلفزة أخبار داعش وقفشات ترامب وتداعيات بريكسيت وثورات الربيع، تراجع كلّ ذلك إلى الوراء، ليصير خبزنا اليومي هو فيروس كورونا القاتل، نداعب شاشات الهاتف وأزرار الريموت كونترول، بحثاً عن أعداد القتلى والمصابين في الهنا والهناك، ونتطلَّع إلى أخبار تُبشّر باكتشاف اللقاح، نَتَنَدَّرُ حيناً بِنُكَتٍ للضحك والتهوين من الواقعة، أو ننخرط خطأ في مسارات التهويل والرفع من منسوب الذعر جراء تقاسم بعض الأخبار الزائفة أو الصادقة.

يبدو أنه «وباء مُعَلِّمٌ» جاء ليضع الإنسانية أمام ضعفها المتأصّل، ليذكّرها بألا شيء يمكن التحكّم فيه، وأن للطبيعة منطقاً آخر، و«رياضيات» أخرى، لا تخضع لقوانين السوق ومتاهات الحداثة المفرطة، جاء لِيُعْلِيَ من فرضية «سردية الرعب المعمم»، حيث قلق الموت ينتصر على قلق المعنى، وحيث غريزة البقاء تحاور غريزة الموت، وتفاوض بشأن التجاوز والانتصار على فيروس، يعبث بالأبدان والأرواح والاقتصاديات ويقودها قسراً نحو أحلك الاحتمالات.

لقد تحوّل العالم إلى محجر صحي كبير، وانسجن الأفراد تحت ضغط الجائحة في منازلهم، وتوقَّفت دورة الإنتاج في كثير من المصانع والإدارات، وباتت البِيَّعُ والكنائس والمساجد، توصد أبوابها في وجه المصلين، فمن كان يعتقد يوماً أن يصير الحرم المكي فارغاً؟ وأن تنتهي السعودية من منح تأشيرات العمرة؟ من كان يعتقد، يوماً، أن تصير المطارات والفنادق والمزارات السياحية بلا مسافرين وزائرين؟ من كان يتخيّل أن تصير فينيسيا «البندقية»، مدينة الحبّ والجمال، خاوية على عروشها؟

إن سردية الرعب المعمم نابعة أساساً من خطاب التهوين أو التهويل الذي رافق الفيروس منذ ظهوره الأول في إقليم ووهان الصيني، فلم تَنْتَهِ الآلة الإعلامية، ولو من غير قصدية مباشرة، من بث القلق والذعر في نفوس المواطنين في أكثر من سياق، مثلما لم تنته قنوات التواصل الشعبية من إنتاج النكت والشائعات والأخبار الزائفة بصدد الفيروس، ليتدخَّل «تجار الحروب وأثرياء الأزمات»، لصب مزيد من الزيت على النار، باحتكار السلع وتوجيه المستهلك نحو سُعار الشراء والتخزين استعداداً للأسوأ، كلّ ذلك كان سبباً رئيساً في تعميم الرعب والهلع وفتح علبة شرور العالم من جديد.

الفيروس فعلها، وأعاد كلّ شيء إلى الصفر، أعاد الإنسان إلى سردية الرعب الممتدة عبر الأزمنة، والتي دعته في حالة «حرب الجميع ضد الجميع» إلى الاحتماء بالسحر والمعتقد والخيال لمواجهة ظلام الجهل والمرض وباقي الشرور. كورونا فعلها وأعاد الإنسان إلى ضعفه وعجزه، فلا يجد بدّاً من الاختباء والامتناع عن اللقاء بالآخر. إنه الفيروس الذي يعيد بناء المسافة الاجتماعية ويعمل في الآن ذاته على تحيين أو تهجين الرابط الاجتماعي. ففي لحظات الخطر تلوح الحاجة إلى الشبيه، لمواجهة عنف المتوقّع واللامتوقّع، فكيف يستقيم الأمر في ظل فيروس يقتضي التباعد لا التقارب؟ هنا يشتغل الرمزي بدرجة أعلى وتصير المسافة «صحية/احترازية»، مع عودة دالة إلى الذات والآخر، في أشكال تضامنية وحدوية لمواجهة الخطر، بل وحتى في مستوى أشكال عدوانية تعلن انتصار الأنانية والجشع والاحتكار. وهو ما لاح بقوة في التسابق نحو إدخار الطعام وإعادة ترتيب الأولويات.

لقد تنازل الفرد، مكرهاً، عن طقوسه اليومية، وانسجن، ضداً على رغباته، في بيته، مذعوراً من خطر محدق، قادم من لمس زر مصعد أو فتح باب أو مصافحة مريض، لم يعد ذات الفرد منشغلاً بالبحث عن الأسفار والرحلات الأَقلّ سعراً، أو مهووساً بالتمشهد الرقمي لحصد اللايكات وتسويق الذات، ما يهمه في سردية الرعب المعمّم هو البقاء وتلافي ممكنات العدوى والاعتلال.

لقد بات الهمّ الوجودي للأفراد والجماعات هو تخزين الطعام والتسابق نحو تأمين أكبر قدر من الدواء، وهو ما فتح الباب لظهور الأنانيات المستحكمة والفردانيات المعطوبة والهويّات القاتلة، وكأن الأمر يتعلَّق بهندسة اجتماعية جديدة أساسها التباعد الاجتماعي والإعلاء من شرط البقاء. فكلّ التعليمات الاحترازية توصي بضرورة الانتهاء من طقوس التحية والتقبيل والعناق، لصالح أشكال جديدة من «اليومي التواصلي»، تنبني على التباعد لا التقارب، وعلى الانفصال لا الاتّصال. وهو ما تعضده خيارات منع التجمعات العامّة وإغلاق دور العبادة والمطارات والمقاهي والمطاعم.

إنها مجتمعات الخطر والمخاطرة التي أهدتنا إياها النيوليبرالية المتوحشة، وقادتنا إليها التفكيكات والتذريرات المتواصلة للرابط الاجتماعي ولكافة أشكال وبنيات التضامن والتعاضد الجمعي، إنها ذات المجتمعات، التي تعرَّضت، ولأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية صرفة، للمزيد من التهجين والمسخ والاحتباس القيمي، وأنتجت في النهاية «مسخاً إنسانياً» هشّاً، لا يصمد طويلاً أمام اختبارات الجوائح والأوبئة، بل يكشف سريعاً عن الجانب المخفق والبائس المتأصّل في أعماقه، يستيقظ فيه الوحش، ويموت فيه الإنسان.

رسائل/دروس الجائحة لا تنتهي، إنها تتجاوز المحلي إلى الكوني، وتتفوّق على كلّ السرديات الدائرة بغير انقطاع، لتعلن للجميع، وفي عتبة العتبات، أن الجائحة ديموقراطية، في استهدافها للدول الغنية كما الفقيرة، وللفئات المهيمن عليها، كما الأخرى التي تهيمن وتمتلك وسائل الإنتاج والإكراه، فهو فيروس لا يختار ضحاياه بسبب اللون أو الدين أو الانتماء المراتبي، مثلما هو الحال بالنسبة لمرض السل الذي يصيب آل القاع الاجتماعي من الذين يقيمون في سكن حاط بالكرامة، أو فيروس الإيبولا الذي استهدف مواطنين من إفريقيا الوسطى بالتحديد. هنا الجائحة تعلن أنها جاءت لتقول للجميع، بألّا واحدة من الدول الكبرى أو الصغرى بمقدورها التحصّن ضد الفيروس.

في عتبة ثانية يعلن الفيروس للجميع أن العلم هو مفتاح الفرج، وأن المراهنة على التفاهة ونجوم الكرة والغناء والبلاهة، لن تنقذ العالم من مصير الهاوية، فقط هو البحث العلمي ما قد يقود إلى اكتشاف اللقاح وتأمين المستقبل، وهو ما يكون قبلاً بالاستثمار في بنيات التربية والتعليم والصحّة. فالفيروس وضع الإنسانية مرّة أخرى أمام حقيقة القطاعات الحيوية التي أُهْمِلت بسبب توصيات المؤسَّسات المانحة والمُقرِضة، والتي توصي دوماً بوجوب تخلي الدولة عن الإنفاق العمومي لصالح الصحّة والتعليم وباقي القطاعات الاجتماعية.

ثمّة عتبة أخرى للفهم والسؤال المستفز، تنكشف من خلال تداعيات «حرب كورونا»، وهي بالضبط عتبة المصير المشترك، فالإنسانية تختبر اليوم، عبر سردية الرعب المعمّم التي أفرزتها وعززتها جائحة كورونا، تختبر أن الألم مشترك والمعاناة واحدة، وأن الخوف من المجهول يتسيّد الوضع، ويلقي بثقله على كلّ الديناميات والفعاليات الإنسانية، فالكلّ بات منشغلاً بعدد المصابين والمتعافين والراحلين تباعاً، في الصين وإيطاليا والمدينة الفلانية والحي الأقرب، لم تعد أهداف ميسي ولا مؤخرة كارديشيان تغري بالمتابعة على اليوتيوب، وتحقّق بالتالي أعلى أرقام «الطوندونس»، فقط هو الخوف من الاعتلال ما يشكل أُسَّ الانهمام ومَكْمَنَ الرهاب.

لقد أحدث كورونا، فينا ومن حولنا، فائق الارتباك وعميق الصدمة، لقد عَرَّانا من الداخل قبل الخارج، وكشف جروحنا النرجسية العميقة، وأعطابنا الاجتماعية والسياسية الثقيلة، وكشف، وهذا هو الأهمّ، خسائرنا القيمية الكبرى، في إنتاج «إنسانية جمعية» أو حتى «فردانية عقلانية» تدبر الأزمات العصيبة بمزيد من الحكمة والتبصّر والإيثار. لهذا يتوجَّب علينا الاعتراف بأن الإنسانية رسبت في هذا الامتحان العسير، وأن ما بشّرت به العولمة والحداثة وحوار الحضارات، وما إلى ذلك من «مفاهيم مسكوكة  وترحالية»، لم نجد له من أثر في قلب الإعصار، وتحديداً في الدول التي لم يُبْنَ فيها الإنسان، وتُرِكَ فيها منذوراً لأدوات «التضبيع» والتتفيه.

في الختام لا بدَّ من التأكيد على أن درس الدرس الذي يتوجَّب الخلوص إليه، من هذي الجائحة، هو البناء الحضاري للأمم والشعوب، عبر بناء الإنسان وجعله محور كلّ الاستهدافات التنموية، مع ما يوجبه هذا البناء من تعاقدات مجتمعية جديدة، ومصالحات ذكية بين الطبيعة والإنسان، وبين الإنسان والإنسان. فهذا الوباء المُعَوْلِمُ للألم والفزع والشر، سيغرس في ذاكرة الشعوب خبرات مؤلمة عن سوء التدبير والتعاطي مع الأزمات، وسيذكرها بأن ما حقّقته البشرية من انتصارات مزعومة على الطبيعة، وما بلغته من شأوٍ في باب المستحدثات التقنية، وأن ما كرّسته من قيم الاستهلاك واحتمالات الضبط والتوجيه، بات بلا معنى، أمام فيروس مجهري أصاب العالم في مقتل، وعمق من جرحه النرجسي.

ستدرك البشرية، ولو بعد حين، أن الحياة تستمر بالضروري من أساسيات حفظ النفس والحياة، وألا حاجة إلى العلامات الفاخرة لتأكيد التمايز الاجتماعي، وألا حاجة إلى «المؤثرين» من صنَّاع التفاهة والبلاهة، لصناعة الرأي العام، وأن ما يمكث وينفع الناس هو العلم/مفتاح الفرج.

إن الحجر الصحي الذي يختبره العالم اليوم، هو أشبه ما يكون بعودة مفروضة إلى الذات، في شكل خلوة تفكير وتغيير وتنوير، لإعادة اكتشاف الأنا والآخر، وإزالة السحر عن الوقائع والأشياء، فالمطلوب أن تصير هذه «الخلوة القسرية» عتبة تأسيساتية فارقة ومائزة لإعادة قراءة وتأويل الحال والمآل، عبر اكتشاف الذات في محدوديتها القصوى، بعيداً عن وهم التضخّم الهويّاتي.

لربَّما كان من الضروري، أن تصفع الجوائح، الإنسان من حين لآخر، علّه يستفيق وينتهي من «رأسمالية الكوارث»، فعالم ما قبل سردية الرعب الكوروني، كان غائصاً في بلطجة دولية فجّة، لم يكن معها يعير أدنى انتباه لِأُمِّنَا الأرض، ولا إلى تلوثها ونهبها وتدميرها الذي فاق كلّ المعدَّلات، كان منشغلاً فقط بالتحريض على الاستهلاك وتوطين قيم السوق والتفاهة. وها هو الفيروس يصفع الجميع، ويعيد الإنسان إلى عُريه وضعفه ودهشة البدء، فهل سيستوعب الواقعة والدرس؟ والتي تتلخّص في هكذا عبارة «ألا ما أضعفك أيها الإنسان».

مواضيع مرتبطة

فنّ لعب كرة القدم
ترجمة: عبدالله بن محمد 10 نوفمبر 2022
نسخة استثنائية في رحاب ثقافتنا
مجلة الدوحة 10 نوفمبر 2022
دموع الفوتبول
دموع الفوتبول 09 نوفمبر 2022
جابر عصفور.. التراث من منظور الوعي بالحاضر
حسن مخافي 07 سبتمبر 2022
القاضي والمتشرِّد لأحمد الصفريوي.. حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو 02 يناير 2022
فيليب باربو: اللّغة، غريزة المعنى؟
ترجمة: مروى بن مسعود 02 يناير 2022
رسالة إلى محمد شكري: الكتابة بيْن الصمت والثرثرة
محمد برادة 02 يناير 2022
إشكاليةُ اللّغةِ العربيّةِ عندَ بعضِ الأُدباءِ والإعلاميين
د. أحمد عبدالملك 15 ديسمبر 2021
محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة
محسن العتيقي 01 نوفمبر 2021
بورخيس خَلَفًا للمعرّي
جوخة الحارثي 06 أكتوبر 2021