كيف تغيَّرت الطريقة التي نتحدَّث بها في زمن الجائحة؟

| 26 أبريل 2021 |
فيما تُواجه عدداً كبيراً من دول العَالَم موجاتٌ متكرِّرة من الإغلاق لتسطيح منحنى العدوى بفيروس كورونا، يعكف خبراء اللُّغويّات حول العَالَم على دراسة «لغة» الجَائِحة. في مارس/آذار 2020، دخلت حياتنا اليوميّة مصطلحات مثل «تباعُد اجتماعيّ» «حَجْر صحيّ» و«عزل». وعلى الرغم من أن تلك المُصطلحات ليست بجديدة، إلّا أنها اكتسبت معاني جديدة تؤثِّر على إدراكنا للعَالَم من حولنا.
منذ منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي تقوم «بيتسي سنيلر – Betsy Sneller» -الأستاذ المُساعد في علم اللُّغويّات الاجتماعيّّة بجامعة «ميشيجان» الأميركية (MSU)، بمُساعدة «سوزان واجنر – Suzanne Wagner» المدير المُساعد للمشروع ومعهما فريقٌ من الباحثين- بجمع رسائل صوتيّة من سكّان ولاية «ميشيجان» الأميركيّة لتتبُّع ما طرأ على اللُّغة من تغيُّرات خلال الجَائِحة. ويهدف المشروع الذي أُطلق عليه «يوميات MI» إلى تتبُّع تأثير أجواء التباعُد الاجتماعيّ والتعليم الافتراضيّ على اللُّغة، وذلك سواء على المدى القصير أو البعيد. تقول «سنيلر – Sneller»: «ولكن هناك أيضاً ذلك البُعد الإنسانيّ للأشياء (…) أنت تراقب مشاعر الأشخاص من أسبوعٍ لأسبوع، وكيف تتغيَّر بشكلٍ كبير الموضوعات التي يرغبون في الحديث بها».
في بحثٍ لجامعة «ميشيجان» الأميركيّة، تقوم «واجنر – Wagner» -الأستاذ المُساعد في علم اللُّغويّات- بوصف الحرب العالميّة الثانية بأنها تمثِّل منعطفاً حقيقيّاً في اللُّغة الإنجليزيّة لإحداثها تقارباً بين أناس لم يكن لتوجد بينهم أي علاقة. تقول «واجنر – Wagner»: «كان يتمُّ إرسال الجنود الى القواعد العسكريّة فيما دخلت النساء ساحة العمل لأول مرّة». وعلى العكس من ذلك، أجبرنا «كوفيد – 19» على التباعُد جسديّاً، جاعلاً من التعاملات الافتراضيّة شيئاً طبيعياً.
بدأت «سنيلر – Sneller» عملها في جامعة «ميشيجان» في منتصف شهر مارس/آذار 2020، وهو تقريباً نفس التوقيت الذي أعلنت فيه منظَّمة الصحَّة العالميّة حالة الطوارئ العالميّة بسبب الجَائِحة. مدفوعة بتصميمها على توثيق لحظة تاريخيّة، نجحت كلٌّ من «سنيلر» و«واجنر» في الحصول على موافقة مجلس المُراجعة المؤسَّسية في «ميشيجان» لإجراء الدراسة. وتقوم «واجنر» حالياً بلقاء فريق العمل مرّة أسبوعياً لوضع الأسئلة التي يتمُّ طرحها على المُشاركين. أمثلة لبعض الأسئلة التي يتمُّ طرحها: «ماذا كان شعورك في أول مرّة ارتديت فيها القناع خارج المنزل؟» أو «هل اضطررت أنت أو أحد المُقرَّبين إليك إلى إلغاء خطط مهمَّة؟». على الرغم من تعلُّق معظم الأسئلة المطروحة بالوضع الحالي الذي نعيشه الآن، إلّا أن بعض الأسئلة يتمُّ طرحها للتعرُّف بشكلٍ أكبر على المُشاركين، مثل «ماهي الأشياء التي تُشعرك بالامتنان؟». يقوم المُشاركون بتسجيل مدخلاتهم على هواتفهم الشخصيّة، ومن ثَمَّ تحميلها على تطبيق مشروع يوميات (MI).
تحقِّق تلك المُدخلات هدفاً أبعد من التوثيق اللُّغويّ، فهي تقوم بتتبُّع التغيُّرات الاجتماعيّة التاريخيّة التي طرأت تزامناً مع الجَائِحة. لاحظت «سنيلر» تحوُّلاً في نبرات أصوات المُشاركين خلال فترة الثلاثة أشهر التالية، تلقَّى فيها التطبيق عدداً أكبر من المُدخلات من أناسٍ يشعرون بالإحباط وفقدان الأمل. على الرغم من أن البحث مازال في بداياته، إلّا أن «سنيلر» لديها بعض التنبؤات حول الكيفية التي سيؤثِّر بها التباعُد الاجتماعيّ على طريقة الحديث، وبالأحرى فيما يخصُّ مصطلح «الجَائِحة». في بداية شهر أبريل/نيسان 2020، كان المُشاركون والعَالَم بشكلٍ عام غير متأكِّدين ماذا يطلقون على الفيروس، تقول «سنيلر» «كان لدينا أناسٌ يشيرون إلى الفيروس في جمل تتخلَّلها عبارات مثل «الأوقات السابقة» أو «الأوقات الحالية» أو كلمات مثل «إغلاق» و«حجْر صحيّ»، وأضافت أن الأغلبية متفقة الآن على استخدام مصطلح «الجَائِحة».
كلمات لعام غير مسبوق
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصدر قاموس أكسفورد للغة الإنجليزيّة (OED) تقريراً تحت اسم «كلمات لعام غير مسبوق». بعكس الأعوام السابقة، التي كان يتمُّ فيها اختيار كلمة واحدة لتكون كلمة العام (على سبيل المثال كلمة «طوارئ مناخية» لعام 2019) شعر المُحرِّرون باستحالة تلخيص عام 2020 في كلمة واحدة. تضمَّن التقرير عشرات الكلمات مثل «عنصرية ممنهجة/ systemic racism» و«انتقاد متعلِّق بالقناع/mask-shaming» وبالطبع كلمة «فيروس كورونا/Corona virus». وجاء في تحليل التقرير أنه في فترة ما قبل يناير/كانون الثاني 2020 ظهرت كلمة «فيروس كورونا» بمعدل 0.03 مرّة كلّ مليون رمز (وهو مصطلح لُغويّ يشير إلى أصغر وحدات اللُّغة). فيما شهد شهر أبريل/نيسان 2020 قفزةً هائلة في استخدام الكلمة المذكورة -متضمِّنة مشتقاتها مثل كلمة كوفيد- ليصل إلى 1.750 مرّة كلّ مليون رمز لُغويّ، ليصبح بذلك أكثر الأسماء استخداماً في اللُّغة الإنجليزيّة. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن التقرير تضمَّن أكثر عشرين كلمة استخداماً في يناير/كانون الثاني 2020، مثل «حرائق غابات – bushfires» و«عزل الرئيس – Impeachment» و«ضربة جوية – airstrike»، أمّا في مارس/آذار 2020 فكانت جميع الكلمات الأكثر استخداماً ذات صلة بكوفيد. ومازال المُحرِّرون في (OED) عاكفين على تتبُّع التغيُّرات اللُّغويّة ذات الصلة بالجَائِحة، حتى أنهم قاموا بإصدار تحديثين إضافيين بخلاف تقريرهم ربع السنويّ المُعتاد. تجدر الإشارة أيضاً إلى وجود مزاعم بأن الكلمة الوحيدة التي تمَّ إفرازها نتيجة الجَائِحة هي الكلمة المُركَّبة «كوفيد – 19».
غير الناطقين باللّغة السائدة هم الأكثر عرضةً لاتخاذ قرارات أَقلّ وعياً
تعزي «الفريدا كايثلر – Elfrieda Lepp-Kaethler»، أستاذة علم النفس اللُّغويّ، هذا التغيير غير المسبوق في اللُّغة إلى السرعة التي انتشر بها الفيروس، والتي دفعتنا دفعاً إلى الفضاء الافتراضيّ. في فترة الإغلاق، بدأت «كايثلر» في إجراء أبحاث عن «الميمات»، فهي من وجهة نظرها أرضٌ خصبة لتغيُّر اللُّغة. تقول «كايثلر»: «تزدهر (الميمات) بناء على وجود أرضية من الفهم المُشترك» وتضيف أن «كوفيد» يمنحنا خلفية مشتركة تمكِّن الجميع من أن يكونوا مشمولين داخل الوضع ذاته، كما تشير إلى أن الجَائِحة أظهرت كيف يستخدم الناس الدعابة للتأقلم مع الأوضاع الصعبة.
في 2019، أنهت «كايثلر» دراستها في العلاج بالفَنّ التعبيريّ، وهو نوعٌ من العلاج يستخدم مختلف أشكال الفَنّ -كالرسم أو الكتابة- للمُساعدة في التشافي والنمو. في رأيها، الميمات شكل من أشكال الفَنّ التعبيريّ، لذلك فهي تحاول إدماج أبحاثها في الفصول التي تقوم بتدريسها. في مارس/آذار 2020، اضطرت «كايثلر» -شأنها في ذلك شأن العديد من الأساتذة- إلى استخدام نموذج التعليم عبر تطبيق «زووم – zoom». بشكلٍ عام، تسبَّب ذلك النموذج التعليميّ في عدد هائل من معوقات الاتصال، والتي أثَّرت سلباً على المُجتمعات المُهمَّشة، خاصّة إذا ما اقترن ذلك بسيل من المعلومات حول الجَائِحة والتي قد يكون معظمها غير دقيق. وقد أوضحت دراسة أميركيّة نشرتها دورية «تدريس اللُّغة الإنجليزيّة لغير ناطقيها /TOESL» في أغسطس/آب الماضي، أن التعليم الافتراضيّ أثَّر سلباً على الطلاب الناطقين بأكثر من لغة. وفي الوقت الذي تدفَّقت فيه المعلومات باللُّغة الإنجليزيّة، كانت هناك إمكانيات أَقلّ لدارسي اللُّغة الإنجليزيّة في أنظمة التعليم الأميركيّة، وذلك بسبب افتقارها للبنية التحتية التكنولوجيّة التي تمكِّنها من إدارة التحوُّل إلى التعليم عبر الإنترنت.
في الوقت نفسه، أقرَّت منظَّمة «مترجمين بلا حدود» (TWB) -والتي تعمل على ترجمة كل ما يختص بالصحَّة العامّة- في موجز سياستها العامّة، بأن المُجتمعات التي لا تتحدَّث اللُّغة السائدة قد لا تتمكن من اتخاذ قرارات واعية حول ماهية التصرُّف الأمثل خلال الجَائِحة. وأوضحت «إيلي كيمب – Ellie Kemp»، رئيس إدارة الاستجابة للأزمات في منظَّمة «مترجمين بلا حدود»، في حديث لمنصّة «ديفيكس – Devex» الإعلاميّة المعنية بمتابعة مؤشّرات التطوُّر العالميّة، أن الكلمات الاصطلاحيّة مثل كلمة «تباعُد اجتماعيّ» يمكنها أن تكون غير مفيدة على الإطلاق، لأن المُصطلح نفسه غير مألوف. وتقترح «كيمب» استخدام عبارات مثل «الحفاظ على مسافة من الآخرين» كبديل للمُساعدة على نقل التعليمات بشكلٍ أوضح. بالإضافة إلى ذلك، قامت منظَّمة «محامي كندا» بِحَثِّ سلطات الصحَّة العامّة على إتاحة كافة المعلومات المُتعلِّقة بلقاح «كوفيد – 19» لغير الناطقين باللُّغة الإنجليزيّة، وذلك نظراً لتزايد انتشار المعلومات المغلوطة حول أمان اللقاح. في الولايات المُتحدة الأميركيّة نجد أن البرنامج الخاصّ بمُراقبة اللقاح -التابع لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها- والمُصمَّم خصيصاً لتتبُّع الأعراض الجانبية للقاح «كوفيد – 19»، متاح فقط باللُّغة الإنجليزيّة.
للغة أهمِّيتها الحتمية
تقول «سنيلر» «نحن نجد أن اللُّغة مرتبطة بشكلٍ عميق بالهويّة الشخصيّة للأفراد، كما أنها غالباً ما تُظهر التاريخ الفرديّ والجمعيّ»، وتضيف مؤكِّدة «للغة أهمِّيتها!». نجد مثالاً واضحاً عندما قام الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب بتكرار كلمة «الفيروس الصينيّ». إن اللُّغة التي اختارها للإشارة إلى كوفيد أدت الى ظهور مشاعر معادية للآسيويّين عبر البلاد، وبالتبعية تزايدت حالات الاعتداء اللفظيّ والجسديّ بسبب مخاوف تتعلَّق بفيروس كورونا. واستجابة منها لذلك السيناريو، قامت منظَّمة الصحَّة العالميّة بالتغريد «إن الكلمات قادرة على تخليد أفكار وفرضيات نمطية سلبية، ممّا يعزِّز من إيجاد روابط غير حقيقيّة بين «كوفيد» وبعض العوامل الأخرى، كما تخلق حالة من الخوف واسعة الانتشار وتؤدِّي إلى تجريد المُصابين بالمرض من صفة الإنسانيّة». كان استخدام ترامب للمُصطلح متعمَّداً، وهو ما أكَّده مصوِّر صحافي تابع لجريدة «واشنطن بوست» حين التقط صورةً لمُلاحظات خاصّة بترامب خلال إحدى خطبه في مارس/آذار 2020، وكان قد شطب كلمة «كورونا» بخطٍ أسود عريض ليكتب مكانها كلمة «صينيّ».
استخدام الاستعارات/ التشبيهات ذات الصلة بفكرة «الحرب» خلال الجَائِحة ظاهرة لفتت أنظار خبراء اللُّغويّات، إذ حث أغلبهم على استخدام استعارات غير ذات صلة بفكرة الحرب لتشجيع الأفراد على اتباع احتياطات الأمان. فتشبيهات مثل «الحرب ضد فيروس كورونا» قد تؤدِّي إلى إحداث حالة من القلق لا داعي لها، الأمر الذي دعا اللُّغويّين حول العَالَم إلى التشاور بشأن إيجاد عبارات بديلة، وذلك من خلال تفعيل هاشتاج «#Reframe covid» (أعيدوا صياغة كوفيد). أعطت «كايثلر» مثالاً في استخدام لفظ «أبطال» للإشارة إلى العاملين بالصفوف الأمامية خلال الجَائِحة، مؤكِّدةً أن استخدام ذلك اللفظ يُبعد التركيز عن التحدّيات الإنسانيّة التي يواجها هؤلاء العاملون. وأخيراً، تشير «سنيلر» إلى أن حجم الدراسة النهائي مازال مجهولاً، وذلك لأنه مازال يتعيَّن عليهم الاستمرار في توثيق المزيد من المُشاركات حتى بعد إتاحة اللقاح وانتهاء فترة التباعُد الاجتماعيّ، وهو أمرٌ غير معلوم ميعاده حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بيا آرانيتا
المصدر: