كيف شوَّهت الرّقمنة والجَائِحة لغة الجسد؟!

| 30 سبتمبر 2021 |
«تناقصت قيمة الأيدي برمزيتها الديناميكيّة والحسيّة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في ظلّ هيمنة الآلة، لتأتي ظروف الجَائِحة كي تُفاقِم من سيناريو الإهمال الواضح لقيمة الأيدي في تفاصيل الحياة اليوميّة. كأننا نودِّع طقساً قديماً انتزع حميمية التواصل»… هكذا يتساءل «يوخن هوريش»، المُفكِّر المُعاصِر وأستاذ الدراسات الألمانيّة الحديثة وتحليل وسائل الإعلام بجامعة «مانهايم»، في كتابه الجديد «الأيدي.. تاريخ ثقافيّ/Hände..Eine Kulturgeschichte» الصادر عن دار نشر «Hanser»، عمّا إذا كانت حياتنا لا تزال في أيدينا. يتناول الكتاب لغة الجسد من زاوية ثقافيّة، خاصّة في ظلّ ما لحق بهذه اللّغة من تصدُّعات بالتزامن مع الجَائِحة التي فرضت انحساراً قسرياً للتواصل الجسدي، حيث يرى «هوريش» أن البشرَ ماضون في طريقهم لتدشين علاقة أكثر اضطراباً مع الجسد بعد أن صارت «لغة الجسد» مجرَّد «أوقات منسيّة» في زمن الوباء.
يشرح «هوريش» التأثيرات المعرفية لهذه اللّغة شديدة الخصوصية في الموروث الثقافيّ، مع التركيز على «الأيدي» باعتبارها العضو الأكثر فاعلية وتأثيراً في هذه اللّغة الحسيّة، إذ يُعَدُّ الكتاب بمثابة دراسة خارج الصندوق حول التاريخ الثقافيّ للأيدي والذي يمتد إلى ما وراء الدراسات الأدبية إلى الاعتبارات الأنثروبولوجيّة من خلال التنقيب في كلاسيكيّات الأدب الألمانيّ، حيث يغوص الكاتِب داخل الاشتقاقات التاريخيّة للكلمات والمُصطلحات، التي يرجع أغلبها إلى الأصل اللاتينيّ لكلمة يد «manus»، والوقوف على العديد من التعابير الاصطلاحية للمُدخلات المعجمية المُبكِّرة المُتعلِّقة باستخدام هذه المُفردة ودلالتها اللُّغويّة التشعبيّة.
سيد «هوريش».. هل هي مصادفة أن يكون بطل أشهر كلاسيكيّات الأدب الألمانيّ للكاتب الكبير «يوهان فولفجانج جوته» يسمَّى «فاوست» وهو ما يعني لغويّاً «قبضة اليد»؟ إلى أي مدى هذه الصلة قائمة بين الاسم ودلالته في واحدة من أهمّ كلاسيكيّات الأدب الألمانيّ والعالميّ؟ ولم اخترت لغة «جوته» تحديداً لتقوم بتشريحها في كتابك؟
– بالطبع، ليس ذلك من قبيل الصدفة. لقد كان جوته شديد الحساسية في انتقاء أسماء أبطاله، ودائماً ما كان لديه مغزى أدبي من اختيار أسماء بعينها. ربّما رأى البعض أن ذلك تفسير مبالَغ فيه من جانبي، لكنني أثق بأن «فاوست»، بطل المسرحية الأشهر في تاريخنا الأدبيّ، هو اسم وصفي دلالي من الدرجة الأولى، وليس بأي حال من الأحوال، تم انتقاؤه لأسبابٍ تاريخيّة فقط. لقد كان «فاوست» شخصيّة مثيرة للفضول ودائمة البحث عن الجوهر الحقيقيّ للحياة، ما قاده إلى استدعاءات مثيرة عبر الأحداث. كما أنه كان دائم البحث عن يد الله التي تنتشله من الغواية، وهنا يتَّضح الربط الفلسفيّ الذي صنعه «جوته» بين اسم بطله ورحلته الحياتية. فنحن لا ننتزع الأشياء سوى بقبضة تستميت في البحث عن غاياتها.لقد واجه «فاوست» السؤال الأكثر إلغازاً في الحياة: «ما الذي يربط العالَم معاً في جوهره». في هذا «الالتصاق» تكمن بالفعل استعارة يدوية. إنه يريد أن يعرف بالفعل ما الذي يملكه في يديه وما الذي ينحصر تواجده في أيدي القوى العليا فقط؟ وما اللحظة الحاسمة التي تلتقطه فيها اليد الإلهية؟ كذلك لم يقع اختياري على أعمال «جوته» كي أدلل بها على أطروحتي من فراغ.. هناك حضورٌ قوي جدّاً لاستخدام «جوته» للدوائر الدلالية التشعبيّة لكلمة «يد» في كثير من مؤلَّفاته. هذه «الفكرة المُهيمنة» في نصوصه لم يلحظها الباحثون بعد.
أنت متحمِّس للفرضية اللُّغويّة التي تقول إن كلمة «يد» حاضرة بقوة في لغتنا الألمانيّة ولغاتٍ أخرى… حيث تقول في كتابك: «تكرَّرت كلمة «يد» في كتاب «Buddenbrooks» لـ«توماس مان» فيما يقرب من 643 موضعاً في حوالي 837 صفحة».. والواقع أن هذا رقمٌ مثير للدهشة. كيف تفسِّر هيمنة هذه المُفردة أدبيّاً كـ«ظاهرة لغويّة»؟
– يبدو الأمر أشبه باللعبة، لقد كان «توماس مان» مهووساً بمفهوم «اليد» ودلالته في اللّغة.كما هو معروف، أن رواية «Buddenbrooks» تتحدَّث عن عائلة ثريّة منخرطة في مجال التجارة. إذن أنت تتداول العديد من المُفردات المُتعلِّقة بالبضائع وطرق تبادلها. فالتجارة لا تعني شيئاً سوى حركة نشطة بين اليدين. والأسئلة التي تمَّ تناولها في الرواية تدور تحديداً حول هذا: هل سيتمكن «آل بودنبروكس» من العمل يداً بيد؟ هل السيدة «توني بودنبروك» لها حظوظ مع الرجال الذين يطلبون يدها؟ وهكذا من الاستخدمات اللانهائية على المُستوى الدلالي التي ترتبط جميعها بمُفردة «اليد». ولكن، في الواقع، هذا الاستخدام اللُّغويّ المُكثف عكس حقيقة هامة للغاية في الرواية، ألا وهي أن جميع محاولات أبطال الرواية ودأبهم لانتزاع الحياة بأيديهم قد باءت بالفشل تماماً، ومن هنا يتبيَّن مدى التنوُّع في التوظيف اللُّغويّ لمُفردة واحدة ورحابة استخدامها أدبيّاً لخلق إسقاطات حياتية عديدة.
نحن نعيش زمن «التفاصيل المنسية».. يستعرض كتابك هذه الأطروحة. ففي ظلّ الوباء، أصبح من المُستحيل لمس الأشخاص غير المُقربين. لقد قلت: «إننا نعيش عصر نسيان الأيدي». فهل تدعو في كتابك الجموع إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بأيدينا مرّة أخرى؟
– في الواقع يدرك أي شخص ينظر إلى هذا العَالَم بعيونٍ يقظة أننا نولي اهتماماً كبيراً بأجزاءٍ أخرى في جسدنا. الدماغ مثلاً هو «مقر الشخصيّة»، أو الرئتان لأنها عضو معرض للخطر بشكلٍ خاص، أو الأمعاء لأن الكثيرين يعتقدون أن سلامتهم ترتبط إلى حدٍّ كبير بها. في حين، يتمُّ إيلاء اهتمام متناقص بالأيدي وقدراتها المُتنوِّعة. دعونا نفكِّر فقط في تقليص قيمة العديد من المظاهر الثقافيّة اليدويّة، مثل المخطوطات اليدويّة أو العزف على آلة موسيقيّة أو رسم اللوحات وتصميم الملابس وتسريحات الشعر والجراحات الدقيقة وما إلى غير ذلك من مهاراتٍ حياتية حيويّة تعتمد على الأيدي بصفةٍ خاصّة. هذا مجرَّد مثال بسيط يشرح الديناميكيّة الخفية بين العقل واليد، وكأنها تقوم بدور المُترجم الفوري للعديد من العمليات المعرفيّة والإبداعيّة والتي يصعب استعاضتها ببديل له نفس الاستجابة المُدهشة.
اتفق معك تماماً.. نستخدم، على سبيل المثال، هواتفنا الذَّكية عدّة مرّات في اليوم بواسطة أيدينا. هذا المثال البسيط يعكس أيضاً الدور الهام الذي تلعبه أيدينا…
– ستندهش أكثر عندما أفكّك لك هذه الآلية من منطلقٍ لغويّ. في البداية، يبدو الأمر كما ذكرت وإننا نستخدم هواتفنا بأيدينا، لكن لو ألقينا نظرةً فاحصةً على الأمر، سنجد أننا لا نستخدم هواتفنا المحمولة بأيدينا كاملة، ولكن بأصابعنا. لذلك كان بديهياً للغاية أن نطلق على عصرنا الحالي اسم «الحقبة الرَّقميّة/ Digital Era». وبتتبُّع الأصل اللُّغويّ لكلمة «Digit» نجدها تعود إلى كلمة لاتينيّة «Digitus» بمعنى «الإصبع». تخيَّل إننا -مع كلّ هذه التكنولوجيا الرَّقميّة- نعيش في عصر الأصابع وليس اليد الكاملة.. «ضاحكاً».
هل تعتبرها أحد أشكال الخسارة أننا نكتفي باستخدام الأصابع فحسب عندما تتيح لنا طبيعتنا البشريّة استخدام أيدينا بالكامل ولا نفعل؟ وهل هذا نتاجاً لهيمنة الرقمنة؟
– لا أريد أن يبدو الأمر بائساً تماماً، لكنني أعتقد أننا نحرم أنفسنا من جزءٍ مهمّ من تجريب عالمنا إذا كنّا نصل إليه بشكلٍ أساسي عن طريق التمرير السريع والتواصل الافتراضي. يبدو لي أن اللمس هو مركز القضايا المُعقَّدة وأداة الوصول الكبرى. هناك عبارة شهيرة لأرسطو يقول فيها: «اليد هي أداة كلّ الأدوات.. إن ما نعيشه الآن من تناقص لقيمة التلامس واكتشاف ماهية الأشياء إنما هو وليد لمفهوم «الافتراضية» الذي بدأ ينسحب على كافة تفاصيل الحياة وكأننا صرنا نكتفي باختبارها عن بُعد. لقد صار «العَالَم الافتراضي» بديلاً منافساً «للعَالَم الفعلي». الرقمنة بالفعل ليست بعيدة عمّا نتحدَّث عنه، فهي مشتقة من كلمة «أصابع» التي وثَّقت تناقص أهمِّيّة الأيدي وتراجعها، لتنحصر في عدد من النقرات السريعة بدلاً من الاستغراق في الجانب الحسي للأشياء. لم نعد نتحكم في الأشياء بأيدينا، بل بأصابعنا. وحتى هذا العصر، أصبحنا نتركه وراءنا تدريجياً. نحن نقفز الآن إلى مساحة أخرى ستلغي حتى استخدام الأصابع؛ كأن نتحكَّم في الأجهزة المُختلفة عبر بصمة الصوت أو الوجه. نقوم بتجريب القيادة عن بُعد في الطائرات والملاحة، وفتح هواتفنا ببصمة الوجه أو الصوت. هذا ما اعتبره تغييراً حاسماً في علاقتنا المادية بالعَالَم، والتي تتحوَّل إلى علاقة لم تعد ملموسة من الأصل. نحن نطوِّر علاقة مضطربة تماماً مع كلّ ما هو جسدي وله علاقة بالجسد. وبالتالي أيضاً نمضي نحو علاقة مضطربة مع الكون. حقيقة أننا لم نعد نكتب بأيدينا، بل نكتفي بالكتابة الإلكترونيّة أو الإملاء، لها تأثيرات معرفية كبيرة، إذ يتفق علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأحياء التطوُّرية على أن تطوُّر اليد هو الذي أدّى إلى قفزة كبيرة في تطوُّر نشاط المخ.
أتعتقد أنه يوجد وراء العديد من الاستعارات اليدوية افتراضات ميتافيزيقية؟ وهل يمكنك شرح الارتباط الوثيق بين اليد والعقل، فكيف يمكنك وصف أدائنا المعرفيّ في ضوء هذا الربط؟ وكذلك كيف تربط اللُغة بين اليد والمشاعر، فيما نسميه بـ«الأحاسيس»؟
– من منظورٍ نقديّ أيديولوجيّ، أرى أنه من الذكاء أن تُترجَم اليد ميتافيزيقياً على أنها مثال للواقعية الصحيّة. كما أن منجزنا الفكريّ الأساسي لفهم الأشياء من حولنا قائم على اليد. لكننا كثيراً ما ننسى هذا الارتباط الوثيق. لغتنا تعيد إنتاجها بشكلٍ جيّد للغاية، عندما نتحدَّث عن «استيعاب» شيء ما، ونعني بذلك مفهوماً فكرياً أو عملية معرفية موازية. وفيما يخصُّ الجانب الحسي في اللّغة وعلاقته بالأيدي، أسوق لك مثالاً بسيطاً عندما نتأثّر بشيء ما، لابدّ أن يكون ذلك نتاجاً لاقتراب مادي مع هذا الشيء. كلّ هذه الاختلاجات يولدها نطاق اللمس، بحيث تشترك كلّ من «اليد» وفعل «اللمس» في مركزية حسية واحدة. اسمح لي أن أكون عاطفياً بعض الشيء وأقتبس شطرات من القصيدة الرائعة التي كتبها «ريلكه»، والتي تقول:
لكن كلّ ما يمسنا، أنا وأنت
يجمعنا معاً مثل القوس
يسحب الصوت من خيطين
تُرى أي آلة هذه التي توقد حماسنا؟
وأي عازف كمان ذلك الذي يسكن أيدينا؟
أفقدنا الوباء قدرتنا على المُصافحة… ما الذي خسرناه جرَّاء ذلك الفقد؟
– تزداد حياتنا ثقلاً، وتبتعد أكثر فأكثر عن دائرة الملموس والحسي، لنصبح بلغة «هايدجر» العامية: مجرَّد «كائنات». ففي نهاية المطاف يسفر هذا أيضاً عن توليد المزيد من الأخبار الزائفة وتفشّي نظريّات المُؤامرة في ضوء تفاقم مساحة الرهاب الاجتماعيّ والفجوة الحسيّة بين البشر بفعل التباعُد الجسديّ والشعوريّ، إذ يؤدِّي ذلك التناقص الحاد في منحنى التواصل الجسديّ البشريّ وتغيُّر طبيعته المألوفة إلى اضطراباتٍ نفسيّة كبيرة، ربّما لا يتمُّ تقدير خطورتها وانعكاساتها النفسيّة بدقّة، خاصّة بالنسبة للأطفال الذي يتعيَّن عليهم البقاء دون اتصال لفترةٍ طويلة جدّاً، ممّا يُحدِث خللاً في سلوكياتهم الاجتماعيّة لاحقاً.
إذا حاولت الوصول إلى ماهية قيمة «الجمال»، فأنت تدرك، بمفهوم «جوته»، أن الشيء الوحيد الذي تمَّ إنشاؤه باليد هو فريدٌ من نوعه ولا يمكن تكراره. وذلك على النقيض من شيء يتمُّ تصنيعه بالآلات أو بصورةٍ رقميّة، ليبقى العمل اليدوي ليس مثالياً بأي حال من الأحوال مقارنةً بنظيره الآلي، لكنه يحمل ملمحاً من روح صانعه وهو ما يكسبه تفرُّده… ففي نهاية المطاف نجد أنفسنا نتوقَّف عند الفارق المُدهش الذي يخلقه العمل باليد مرّةً أخرى..
– «اليد» هي مايسترو الحياة وضابطة إيقاعها. أعرف بعض الأشخاص البارعين في العزف على الكمان أو البيانو، وقد أكَّدوا لي جميعاً أنه من غير المعقول تماماً بالنسبة لهم أن يعطي المخ الأوامر لليد عند عزف المُوسيقى، بل اليد هنا هي التي تحرِّك الدماغ وليس العكس. هنا نجد أن العزف، مثلاً، قد تجاوز كونه معادلة من التفكير الواعي، ليصبح ذلك البريق والاتقاد الذي صنعته اليد وحدها في حضور العقل. أعني الأمر بجدية شديدة: أجزاء من الدماغ مسؤولة فعلياً عن نشاط اليد، ولكن هناك جزء حر تصوغه اليد بتفرُّد شديد. العديد من الفَنَّانين، بما في ذلك الرسّامين، يقفون أمام لوحاتهم، ليصنعوا خطوطاً معيَّنة لا يصنعها غيرهم، فيما يشبه بصمة تميِّزهم عن غيرهم. وهذا بالطبع غير مخطّط له سلفاً في الدماغ البشريّ.. اليد تحرِّر نفسها بنفسها. وكلمة «تحرير» مشتقة أيضاً من كلمة «يد»: حرّيّة اليد لها قوة فائقة وغامضة. إن تحرير اليد من سيطرة الدماغ يعني أيضاً أن الفَنَّانين ليسوا دائماً الأجدر على تشريح أعمالهم وتحليلها. هم صانعوها لا بأس، لكنهم لم يفكِّروا في الأمر كلّه بوعي كامل، وهو ما نسمّيه بـ«شطحات الفَنَّانين».
حدِّثنا عن الفلسفة، التي يمكن سرد قصتها أيضاً على أنها نزاع دائم مع مصداقية حواس المرء. ما هو الدور الذي تلعبه الأيدي في حب «الحكمة»؟
– إذا كنت تريد أن تبدأ بالفلسفة الغربيّة مع أفلاطون، فعليك أن تلاحظ انخفاضاً في قيمة الأيدي منذ البداية. في حالة أفلاطون التي اعتبرها حالة خاصّة، كان هذا يرجع إلى كونه ينحدر من عائلة ثريّة ولم يكن مطروحاً لرجل من شريحته الاجتماعيّة القيام بعمل يدويّ. لذلك لم تظهر هذه العلاقة بقوة في فلسفته. لقد كان يرى هؤلاء العُمَّال عبيداً لا أكثر. أمّا بالنسبة لـ«كانط»، فنجده يغفل هذه الفلسفة تقريباً، فهو صاحب نظرة تجريديّة عنيفة بعض الشيء، إذ يرى الميلاد بمثابة فعل قهري تحكمه الطبيعة، وأن الأشخاص لا يملكون حتى تفاصيل هذه الحياة في أيديهم. أمّا المُفكِّرون الماديون؛ من أمثال «لودفيج فيورباخ» أو الفلاسفة الحِسيين مثل «فريدريك نيتشه» فقد خصَّصوا لهذه الفرضية صفحات قليلة جدّاً. حتى في القرن العشرين مع «تيودور دبليو أدورنو» أو «لودفيج فيتجنشتاين» لا يوجد شيء عملياً على ذلك. فهذا السحر الذي أحدِّثك عنه، له جانب مظلم أيضاً يرافقه. ولكن، يبقى الاستثناء الكبير هو «مارتن هايدجر»، الذي تفلسف يدوياً بصورةٍ عمليّة، وهو ما اتضح جليّاً في مصطلحاته اللُّغويّة السخية. شدّد أيضاً «كونديلاك» على أن ما يُستشعَر بواسطة اللمس له حقيقة أعمق ممّا يُرى أو يُسمَع «فقط». كما وصف «شليغل» الأيدي بأنها «هوائيات العقل» و«فضاءاته الحرّة»، فيما شدّد «هيردر» على أهمِّيتها في اكتشاف الذات، قائلاً: من خلال لمس الأشياء الأخرى، يختبر المرءُ حدوداً ووجوداً خاصّاً به؛ فقط يتحقَّق ذلك من خلال اللمس، هكذا يدرك المرءُ نفسه».
تستشهد في كتابك أيضاً بمقطع من كتاب «جان بول سارتر»: «The Disgust»، الذي يعرب فيه عن قلقه العميق من أن يده التي أمامه على الطاولة، ربّما لا يملك سلطاناً عليها، فتبدو كأنها على قيد حياة لا يعرفها.. ماذا تقصد بهذا الاستشهاد؟
– أعتقد أننا جميعاً نعرف هذا الشعور بطريقةٍ أو بأخرى. على الأقلّ نحن جميعاً على دراية بتعابير تفسِّر ذلك مثل «انزلقت يدي». لدينا معرفة بديهية أن اليد يمكن أن تصبح مستقلّة في أفعالها، في سياقات سلبية. يتحدَّث العديد من الفَنَّانين أيضاً عن هيمنة أياديهم وأحياناً سلطويتها. يتحدَّثون عن عدم معرفة ما تفعله أيديهم بالضبط عندما يرسمون أو يعزفون. لو فكّرنا في اللحظات المُثيرة، نجد أن الأيدي تعرف من تلقاء نفسها إلى أين تريد الذهاب دون توجيه أو تحديد مسار. هناك أيضاً أدلة كثيرة في علم الأعصاب على أن أيدينا تكون أحياناً شبحية، وأحياناً تكون خصوماً ودودة لأدمغتنا. وفقاً لذلك، أردت الحديث أيضاً عن تمرُّد الجسد، لكنني في المُجمل أتحدَّث عن انسجامه، الذي يجب أن نكرس أنفسنا له أكثر، خاصةً عندما يُسمَح لنا بمُعانقة الناس مرّة أخرى وعودة اللمسات التي هجرت حياتنا.
كيف خلق الله العَالَم؟ بيده أم بالكلمات؟ هذا المنظور كيف تفلسفه في ضوء أطروحتك اللُّغويّة؟
– كلاهما. هذا هو الشيء المُدهش في سفر التكوين. من ناحية، قال الله إنه سيكون هناك نور، وكان بالفعل. لذلك فهي عملية لوغولوجيّة للخلق من خلال قوة الكلمة الخلّاقة. من ناحيةٍ أخرى، قِيل لاحقاً، إن الله خلقنا من التراب والطين. وهو ما يُعظِّم «علوياً» من دور اليد. لقد صنعنا اللهُ دون الحاجة إلى شروح. هذا الفعل المزدوج موجود في جميع ديانات الوحي التوحيديّة الرئيسيّة الثلاث. الله هو أكثر من إله للكلمة يُنزل وحي الكلمات، لكنه يمد يده أيضاً إلى خلقه بطريقة خفيّة يصعب شرحها، لكنها حقيقة لا تقبل الجدل.. يد الله كائنة بين خلقه دائماً وأبداً.
حوار: فينكا هوسمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
https://www.zeit.de/kultur/2021-05/haende-jochen-hoerisch