لا تحمِلْ الحياةَ على محمَلِ الجد

هدى حمد  |  13 مايو 2020  |  

«لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره للأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس. لم تعد ثمّة مقاومة ممكنة سوى ألّا نأخذه على محمل الجد». أتأمَّل ما يقوله كونديرا لنا في كتابه «حفلة التفاهة». إنّه يقول شيئاً مُلهماً لهذه المرحلة التي تعصف بالعالم. إذ في اللحظة التي يعترينا فيها العجز واليأس، تجعلنا هذه الجملة على نحوٍ ما أكثر اطمئناناً وراحة، لأنّ العالم يتغيَّر بتسارع أكبر من قدرتنا على تأمُّله، وبالتالي يغدو عدم حمله على محمل الجد مريحاً بعض الشيء.

لم يحدث طوال العقود الأربعة التي عشتها على وجه هذه البسيطة أن شهدتُ أمراً مماثلاً. لا أتذكّر أنّ المدرسة أغلقت لأكثر من يوم أو يومين لأسبابٍ تتعلّق بالأيام الممطرة، لا أتذكّر أوقاتاً صار فيها لمس وجهي أو حكّ يديّ أمراً ينطوي على مخاطر. لم أعد قادرة على الثقة بجسدي، فقد يصبح عدواً لي خلال أسبوعين وحسب. لم يحصل أن مرّ وقت بهذا الطول دون مصافحة أو أحضان متبادلة مع أحبتنا. لم أعتقد للحظة أنه سيتعذَّر عليَّ الذهاب إلى بيت أهلي لمجرَّد أنني أعيش في مسقط الواقعة تحت الإغلاق، بينما يعيشون في محافظة الباطنة، كما لم أتوقَّع أن تغدو أكياس الطعام التي أحملها لبيتي من الدكان المجاور مفزعة كمسخ كافكا!

من حُسن الحظ أنّ الكُتَّاب كائنات تحبُّ العزلة، ولذا يمكن أن يتحوَّل البقاء في البيت دون توقع زيارات طارئة نعيماً كبيراً. أتذكَّر الآن عزلة بوهوميل هرابال الصاخبة جدّاً، إذ وبرفقة الفئران التي تنهرس تحت أكداس الكتب، كانت تمضي حياة «هانتا» بطل الرواية، ذلك المضي المستمر في حقل السُّلطة المطلقة التي يتوهمها عن جنته، وأعني هنا مستودع الكتب، ذاك الذي أخد عمره كلّه، فهانتا قضى خمسة وثلاثين عاماً من حياته في سحق الكتب بآلة صغيرة، ولكنه قبل أن يفعل ذلك كان يغرق في قراءتها وتأمّلها كما يتأمَّل النجوم المُرصَّعة في السماء، بل إنّه يستدعي جُمَلاً منها ليقولها لحبيبته، أو ليضعها على قبر عمه المُتوفى. عزلة هانتا كانت كافية جدّاً بالنسبة له برفقة أرسطو وأفلاطون وسارتر وكامو وغوته، وغيرهم.

أكتشفُ أنّي وزوجي لدينا قدرة على التأقلم والبقاء برفقة الكتب ومشاهدة الأفلام، ومزاولة أعمالنا العالقة من البيت دون مشقة أو تبرم، إلّا أنّ ذلك لا يغدو سهلاً برفقة الأولاد. عندما سُئل القاص والشاعر الأميركي ريموند كارفر: «لماذا تكتب القصص ولا تكتب الروايات؟» أجاب أن بقاءه برفقة الأولاد في مكانٍ واحد يمنعه من ذلك. لقد تزوّج وهو في الثامنة عشرة من عمره وكانت زوجته حاملاً في السابعة عشرة من عمرها، ولذا لطالما كان يبحث عن عمل كتابي ينهيه في جلسة واحدة إلى المنضدة. الآن أفهمه جيّداً. إذ كنتُ على منضدة العمل أنهي الكثير من المسائل المتعلّقة بالعمل ومسائل أخرى تتعلّق بمشاريعي الشخصيّة، كالقراءة والكتابة، والآن أنا أجلس إلى منضدة البيت، ولا أنجز إلّا النزر اليسير. الأبناء يقاطعون كثيراً. الجلوس لساعة متواصلة بات أمراً شاقاً ويتطلَّب معجزة. 

لا أتذكّر حرفياً ما قالته أليس مونرو، لكني لا أستطيع أن أنزع الصورة التي تركتها كلماتها في رأسي في أحد حواراتها البعيدة، وهي تقول إنها تضع يداً على رأس ابنتها المُتطلبة وأخرى على أزرار الآلة الكاتبة. إننا بطبيعة الحال نهوى العُزلة، ولكن الأبناء يقوِّضونها بطريقتهم. وبالمناسبة لم تكتب مونرو رواية أيضاً، لم تكن تستطيع الكتابة إلّا في قيلولة بناتها.

الأمر بدا سيئاً في الأيام الأولى. الأولاد يأكلون الوقت بمعنى الكلمة. الطلبات لا تهدأ. يريدون الطعام من يد الأمّ. يريدون النوم على قصص الأمّ. يريدون أن يملأوا بواسطة الأم الفراغ الكبير الذي أحدثه تغيُّبهم عن المدرسة، والأمّ تحلم بأن تجلس إلى منضدة الكتابة وحسب.

تتكثف العذابات عندما يرفعُ ابني الصغير، والذي ليس بحوزته كلمات بعد، سبابته مشيراً إلى حذائه، راغباً في المشاوير المعتادة للدكان أو للحديقة المجاورة لبيتنا كما عوَّدته من قبل. يبدو إفهامه أصعب ممّا توقَّعت، لكن باحة البيت وحديقته الصغيرة، كانت تؤمِّنُ لنا مشواراً صغيراً. ما إنْ تخفت درجة الحرارة بعد الخامسة مساء، وبينما نشرب الشاي ونتناول الكعك في الباحة الصغيرة، أفكِّر بحزن بالآخرين الذين يقطنون الشقق الصغيرة وتتضاءل مساحاتهم أكثر فأكثر! 

بمرور الأيام بدأت الأشياء تنتظم. أحدنا بدأ يقدِّر احتياج الآخر. قلتُ في نفسي: على الأمّ الكاتبة أيضاً أن تتحرَّر قليلاً من أنانيتها، وأن تفتح شباكاً صغيراً للعب والضحك ومشاركات المطبخ. أمضينا وقتاً مشتركاً نحضّر أطباقاً لم نكن لنظن أنّ تحضيرها بالبيت ممكن، وقد شكّل الزوج العاشق للطبخ مشاركة لا تقلّ أهمِّية. يمكن لأيدي الجميع أن تُحرك البيض الآن، وأن تعجن الطحين، أو تضع البهارات المنتقاة ليكون طعم اللحم ساحراً بعد الطهو.

كما أنّ انقسام العائلة لفريقين صغيرين، يعيدان اكتشاف لعبة قديمة لعبتها الأمّ والأب في طفولة بعيدة، لم يعد أمراً يمكن استثناؤه من المخطط اليوميّ. فما إنْ تخفت درجة حرارة الشمس حتى نستعيد حرارة لعبة «صيد الحمام»؛ فريق يتكوَّن من الحمام، وآخر يتكوَّن من الصيادين، وتتغيَّر أدوارنا بحسب الربح والخسارة. الأمّ والأب اختارا كلمة «الكتب» للتعريف بفريقهما، واختار الأبناء كلمة «الألعاب» للتعريف بفريقهم. يقول الأبناء إن الألعاب الإلكترونية هي معرفة حديثة تنتصر على الكتب، إلّا أنّ فريق «الكتب» ما يزال متقدِّما بعِدّة انتصارات حتى لحظة الكتابة هذه.    

يتأخر موعد النوم قليلاً لمشاهدة أفلام عائلية. تنشب العديد من الخلافات. إذْ ليس من السهل أن نتفق على فيلم، ثم تجري المفاوضات، ويعقبها قرارات حاسمة. ثمّ يأتي وقت النوم «وفي النوم يتساوى الجميع، تذوب خبراتهم وذواتهم وذكرياتهم وتصبح كلّها مشاعاً بينهم، حتى غيابهم غير القابل للمشاركة يصبح مشتركاً، فالنوم يقترح نوعاً آخر من الجماعية. ليس حاصل حضور أفرادها، وإنما حاصل الغياب المشترك» هذا ما يقوله هيثم الورداني في كتابه الجميل عن «النوم». 

عندما يمر شريط الأخبار بأرقام خيالية لإصابات كورونا نصاب بجرعة إحباط، ونتذكّر نفق ساباتو: «لا شيء له معنى. نولد وسط الآلام، على كوكب صغير، يسير نحو العدم منذ ملايين السنين. ونترعرع ونجاهد ونمرض ونتألم ونسبب الألم للآخرين ونصخب ونموت ويموت أناس، في حين يولد أناس آخرون، ليبدأ تكرار الملهاة من جديد». 

أحاول أن أكون أقلّ سوداوية، إلّا أنني وفي هذه الظروف، أقرأ رواية للكاتب الألماني توماس مان «موت في البندقية»، أقرأ عن الموت الذي يترصَّد مدينة الجمال في رواية كتبت عام 1912، والتي حوَّلها المُخرج لوتشينو فسكونتي إلى فيلم أتوق لمشاهدته حقّاً. المدينة التي تتحوَّل في مشهدٍ عجائبي لعربات نقل موتى الطاعون، تحيلنا الرواية بشكلٍ دراماتيكي لعربات موتى عام 2020 في الصين وإيطاليا وأميركا وإسبانيا وفرنسا. مشهد مرعب بين حدثين يفصل بينهما مئة عام من اختلاف القيم الإنسانية والطب والتقنية، إلّا أنّه لا يمكن لأحد أن يرد الموت الكثيف!  

أفضِّل الآن أن أصغي لنصيحة كونديرا، وألّا أحمل المسألة على محمل الجد. إذ يمكن بعد هذه التجربة الشاقة أن يستيقظ العالم من أدرانه وخيباته، وأن يستعيد بعض سحره اللافت.

مواضيع مرتبطة

استاد خليفة الدوليّ.. عراقة، حداثة واستدامة
شربل بكاسيني 07 أكتوبر 2022
استاد المدينة التعليمية.. حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة
وائل السمهوري 07 أكتوبر 2022
استاد الثمامة.. يغطّي ضيوف «كأس العَالَم» بطاقيّة عربيّة
إبراهيم السواعير 07 أكتوبر 2022
استاد الجنوب.. بوابة بين الماضي والمُستقبل
فراس السيد 07 أكتوبر 2022
استاد أحمد بن علي.. بوابة الصحراء
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد لوسيل.. سحر الكرة أم سحر المكان؟
محمد أدهم السيد 07 أكتوبر 2022
استاد البيت.. خيمة ليست كباقي الخيام
ليال المحمد 07 أكتوبر 2022
«والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي».. اِرتيابُ الحكاية في حدَثها ونِسبَتها
خالد بلقاسم 02 يناير 2022
عبد الفتاح كيليطو في «والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي»: أحداث الرواية تنتهي في أغلب الأحيان بالفشل، باضمحلال الأماني وتبخُّر الأوهام
حوار: خالد بلقاسم 15 ديسمبر 2021
عبد الرّحمن بدوي.. وجه الرّوائي
محمّد صلاح بوشتلّة 06 أكتوبر 2021