«الـناطقُ باسم».. قناعُ الجُبْن والتزييف

| 03 أبريل 2020 |
صحيح أن تــأزُّم المجتمع يُـعلن عن نفســه مـن خلال مظاهــر ومواقف مـادية، ملموسة، تُـشـعـر المواطنين أن خـلـلاً مّا يعـوق السـيْر الطبيعي للعـلائق التي تضـمن الـحـدَّ المطـلوب للـتّـوافُق وتـدبـيـر الشـؤون، ومن ثـمَّ تُـعلن الأزمة عـن نفسها بـطرائق مُتـباينة، ليـبـدأ التشخيص والبحـث عن الحلول الـمُـمكنة… لـكنْ، عند التـدقيق والمراجعة، يـتـبـيَّن أن تلك الأزمة كانت تُـعـلن عن نفسها قبل ذلك بكـثـير، من خلال تـزيـيف الـكلام ولـجوء مَنْ يـقتـسمون السُّلطة في مجالاتها المُـتـبـاينة إلى لـعـبة الأقنـعة الكــلامية التي تُـخـفِّـف من وطأة الانحراف، وتساعد على ربح الوقت… ذلك أن «الكلام» يـضـطلع بـدورٍ أساس في التوصيل والحوار والإقناع، خاصّة في مجال السياسة وسيْـرورة الصِّراع الديموقراطيّ. الكلام المنطوق قبل البلاغ المكتوب. يتـكلَّم الـفرد، وتـتكـلَّم الحكومة، وتـتـكلَّم وسائـط الإعلام، فـيـنْـتـسِــج ذلك الفضاء الواصل مباشرةً بين الأطراف الـمُــكـــوّنة للمجـتمع والـقـُـوى الـمُدبّرة لـحـركـيّــته، كـلّ من مـوقعه. والمفـروض، ضـمـنيـاً، أن لكلّ مجتمع قـيماً أخلاقية يحرص على صـوْنها، وتــعــمــل السياسة على مُـراعاتها. إلَّا أن الـمُـمارسة، في حياة الأفـراد وفي تـدبـير السـياسة، تـكشـف خـلـل الـتباعُـد عن القيم الأخلاقية والمبادئ الـمُتــفق عليها. ومن ثَـمَّ يـطفو على السـطح التحايُـل الـكلامي لِـتـمْـرير الانـحـرافات. وكثـيـراً ما استـوقـفـتْـني صيـغة «الـنـاطق باسـم...» التي تـطالـعُـنـا في مجالات مُتعدِّدة، انطلاقاً من مجال الكتابة الأدبيّة والفكريّة، ووصولاً إلى فضاء السياسة. في عالم الأدب والفكر، يحـلو للـبعض أن يُــرفـــــق اسـمه بـصفة الكاتب القومي أو الوطني أو اليـساري، ليمـنح لـنفسه مـصداقية مّـا تُـعلي من شـأنه، وتـضفي على كلامه هالةً مـرجعية لا يتسرّب إليها الشكّ من قُـدّامٍ أو خــلْــف. وفي نفس الاتجاه، نـجدُ وظـيفة «الناطـق باسم الحكومة» أو باسم الـقصـر الملكي، أو القصـر الجمهوري، وكـلّـها صِـيَـغ تـضـع مسافة بيـن مـصدر الـكلام وبيـن الـمُـخـاطَـبـيـن. وعـند التـدقيق، نـجد أن هذه المسافة التي يـخـلقها «الناطق باسم..» مــا هِــــيَ إلّا قناع يحتمي به مصـدر الكلام، ليـكـتسب فسـحة تـتيح لـه أن «يُـصـحِّـح» ما أخـطأ الناطــق باسمه في تـوصيـله إلى المُـخاطبـين. على هذا النحو، تصبح لعبة الكلام من خلال قناعٍ أو واسطةٍ، وسيـلة للتـحايُـل والتـســتّــر على الـحيَـدان الذي يلجأ إليه الـكُـتّــابُ والـساسة عند مواجهــــــة الواقع. هذه الــمـمارسة التي تـطبع الســلوك البـشـري الـعامّ، تُـوضح صـعوبة «الـوفـاء» للـمـبادئ وعلاقة هذا «الانـحــراف» بـعوامل عميــقـــــة تـعـود إلى منطــقة «أخلاق الشجاعة» وانـعكاساتها على مجال السـياسة، كـما أوضحتْ ذلك الـفيـلسوفة الفرنسية «سانــتيا فْـلوري Cynthia Fleury» في كتابها الـمُـتـمـيِّـز «نــهاية الشجاعة» (دار فـايـار، 2010). انطلقت فـلوري من أن الشجاعة ليست مسألة محض ذاتية، بل يعـــــــود وجودها أو تـلاشيها إلى سـلـوك الـمجتمع وحـرصه على تصـحيح الـمـمارسات التي تـؤدِّي إلى استــبدال الجبن والتـزيـيـف بالشجاعة والـكـــلام الصـريح المُنــتـقد. ذلك أن أخلاق الشجاعة، بهذا المعنى، هي التي تحُولُ دون أن يتحوَّل الكـلام السياسيّ إلى عُـملةٍ للـتّـدليس وتبرير الانزياح عن مبادئ التعاقد الاجتماعي وحماية حقوق المواطنة، والإسهام في تـعطيل آلـيـات الصِّراع الديموقراطيّ: «أيّ معنى للإنـسانية من دون شجاعة؟» تــتسـاءل الكاتــبة. صحيح أن شـروط تطوُّر الحضارة والمجتمعات آلــتْ إلى العمل على تـسـخـيـر الإنسان وتـشــيـيـئه، كما شجّعتْ على اختفاء الشجاعة والدخول في متاهة الإســـهال الكلامي الذي يتـولى تـلْــيـِـيــنَ العقول والحواسّ لــتــنـقاد إلى الانخراط في أوالــيات مجتمع الـفُـــــــرْجة وغـضّ الـبـصـر عن الشـجاعة الداخلية، الـضرورية لـوقْـفِ تـآكُــل الديموقراطية وتـرويض المواطــنين على الاستـسلام لـِلـُـعْبة الكلام الـفــارغ.

من خلال ثلاثة عناصر تـكـوِّنُ إبـسـتـمولوجيا الشجاعة، أو إبسـتـمولوجيا القلب كما تقترح «فـلوري»، تَـتــمّ مُراجعةُ المقايـيس الكفيلة بــتــصحيح مسار «سياسة الشجاعة» القادرة على إعـــادة الاعتـبار إلى الـقيم المطــلوبة في هذا المجال. هذه العـنـاصـر الثلاثة هي: المُـخيّلة الصادقة، وثـمَـنُ الألــم، والـقـوّة الـهـزْلية. كـلّ واحد منها يـحدُّ من غلواء الآخــر ليجعل التـمفصُـل بينها مُتوازناً ضمن مستوى «الـوسَـطيّـة» التي حدّدها أرسطـو. ذلك أن الحقيقة لا تُـسلم نفسها لإدراكٍ مباشر؛ ومن ثَمَّ فـإن عنصر الفكاهة يكشف ما يختبئ عبْر الثنايا ليُسعف «الشجاع» على التقاط الحقيقة… لا يتسع المجال لاستعراض تحليل «فلوري» لمجموع الظاهرات المتَّصلة بمُعوِّقات الشجاعة في الممارسة الأخلاقيّة والسياسيّة، لذلك نورد بعــض الأمثلة التي تشخّص هذه الإشكالية: هناك مثلٌ معاصر يعيشه العالم في هذه الفترة والذي دشـنتْه بجرأتها السيدة «أديلْ هائنيلْ» من خلال حركـــــة «أنـا أيضاً»، التي شرعت الباب أمام الفتيات والنساء ليـفضحنَ ما تعـرَّضْن لـه من تحرُّش الرجال الذين يعتبرون الجنس اللطيف مملكة مُستباحة. لولا شجاعة أديل لظلتْ سـطوة الذكورة وامتيازات الرجل المتحدّرة من الجُـبن، سائدة وسـاترة لهذا السـلوك الـمشـيـن.
والـمـثال الثاني الذي طالما أقـلـقني وطـرح أمامي أسئـلةً مُـحـيّـرة، يـتعـلَّـق بالفـنَّانة النـحاتة «كاميـيْ كلوديـل Camille Claudel» (1864- 1943) التي أمضتْ ثلاثين سنة محجوزة في مـشـفىً للأمـراض العقلية، بـسـبـبِ رجعية أمّـها وجُـبْـن أخيها الشاعـر الكبير «بولْ كلوديلْ» (1955-1868). هذه المرأة المُبدعة التي عاشت تجربة حبٍّ جارف مع مُعلمها النحّات «رودانْ» (1917-1840)، وأبانتْ عن موهبة تجديدية فذّة، تنكَّـر لها الحبيب لأنه كان متزوجاً، وحكمتْ عليها الأم بالحجز والعُـزلة للـتــســتّر على علاقة غـرامية تـسيء إلى سمعة عائـلة بورجوازية كاثوليكيّة، هي ضـحية الجبن واللاشجاعة في أكثر من صورة وتـبــريـر: جُـبن الفنَّان «رودان» الذي فـضَّل الحفاظ على سـمعته والتنـكّـر لعواطفه، ثم قـسوة الأمّ التي ضحّتْ بابنتها في سبيل الوفاء لقيمٍ بـورجوازية مـغشوشة، والـغـدْر الجبان من لـدُن أخٍ كانت شـهـرته الشـعرية تطبق الآفـاق، لكنه فـضَّل طموحه إلى الحصول عـلى منصب مهم في السلك الدبلوماسيّ الفرنسي. موقف الشاعر كلوديلْ هـو الذي يـبعث الغضب في نفسي كلّما تذكَّرتُ موقفه المتخاذل من أخته الفنَّانة التي طالما تـذرَّعتْ إلـيه في رسائلها وخلال زياراته القليلة لها، لكي يُـسعفها على الخروج من محبسها، دون أن تـتحرَّك عواطفه أو يهـتـزّ ضميـرُه. هذه فعلاً، حالة ملموسة عـن فــقدان «شجاعة القلب» التي تتحدَّث عـــنها «فلوري» في كتابها، والتي من دونها يـفـقد المـرءُ السماتِ التي تجعل منه إنساناً، قـبل أن يكون شـاعـراً أو فـنَّاناً.
لـكنْ، لحسن الحظ، يحتفظ سِجـلّ التاريخ بأسماء شعراء ومفكِّرين ومواطنين، تشبَّعــوا بالشجاعة في معناها العميق ومارسوا السياسة من خلالها، من أمثال سقراط، وفيكتور هيجو، الشاعر الشجاع الذي انتــقــد بـِـقُــوّة دكتاتورية شارل لويس نابليون (1808 – 1873) وخصَّص له كتاباً «Napoléon le petit»، شـرح فيه سلوكه ووعوده الكاذبة وتهافته على تجميع المالل… وتـحـمّلَ من أجل ذلك سنواتٍ في المنفى دون أن يتخلّى عن إيقاظ شعبه من غـفوة السُّبات التي قد تؤدِّي إلى الموت. لحسن الحظ أن أمثال هيــجو كُـثْـر، أولئك الذين يجـهـر صوتُهم بالحقيقة الشجاعة، ولا يجعلون من السياسة وسيلة لـتـزييف الكلام أو «تـجـيـيـر» نفوذ حـزبٍ أو تأمين منـصب… إن الشجاعة في الأخلاق والسياسة لـيستْ وقْـفـاً على جنسٍ بعـينه، ولا هي ميزة للرجال، بل هي قيمة كونية، ضرورية لحماية الحقّ والديموقراطية، ووسـيلة لـجعل الانتقـاد عـنصراً حاضراً باستـمرار، يـُـذكـي الحوار الديموقراطي ولا يـجعله قاصراً على الحمـلات الانتـخابيّة. من ثَمَّ، فإن دراسة شجاعة الأخلاق والسياسة، مثلما فعلتْ سانتـيا فـلوري، هي في الآن نفسه مدخل لدراسة نظريّة الإتيك للسياسـة في مُــجـملـها. وبـذلك تـنــتــظمُ أمامنا نـظريّة للشجاعة، مـغايـرة للشجاعة الـعـنـتـرية، تـصِــلُ الـفرديّ بالجماعي.