ذكريات عن طه حسين (الحلقة الرابعة)

| 06 أبريل 2020 |
عندما انصرفت من بيت طه حسين بعد تلك الزيارة الثانية التي طالت، حتى وفدت السيدة زوجته لإنقاذه من احتمالات أن تطول أكثر وترهقه، كانت تتنازعني مشاعر الفرح والاستياء معاً. الفرح لأن الظروف أتاحت لطه حسين أن يعرف أنني لست مجرد موظف جاء لتدوين محضر الجلسة، وأنني أحد أحفاده المجهولين، والاستياء من قطع السيدة زوجته لأول حوارٍ حقيقيّ بيني وبينه، كان يمكنه أن يمتد، وما أكثر شغفي بأن تطول بنا الحوارات في ذلك الزمن البعيد. لكن هذا الاستياء منها سرعان ما تحوَّل إلى استياء من عجزي عن اهتبال الفرصة التي أتاحها لي الدكتور العميد، حينما طلب مني المجيء مبكراً في المرة القادمة، ولم أنتهز هذه الفرصة لأطلب منه موعداً خاصاً، بعيداً عن مواعيد انعقاد اللجنة، أجيب فيه على ما كان يودّ أن يعرفه عن جيلي من ناحيةٍ، وربَّما استطعت أن أظفر فيها بحوارٍ معه من ناحيةٍ أخرى.
فعلى العكس من نجيب محفوظ الذي كانت تعجبني دائماً سرعة بديهته، فإنني من النوع الذي يُعيد تمحيص ما دار بعد انصرامه، ويكتشف أنه كان باستطاعته دوماً أن يقدِّم أجوبة أفضل، أو أن يتصرَّف بطريقة أحسن ممّا دار. وكلما تأمّل الموقف أكثر ازداد استياءً من نفسه على ما قام به، ونقداً لها. وأخذت في طريق عودتي أُقرّع نفسي مغتاظاً من تفويت تلك الفرصة النادرة التي لا يجود الزمن بمثلها. وأن عليّ أن أنتظر عاماً آخر حتى تتاح لي مثل تلك الفرصة من جديد، لو كان معالي الباشا لا يزال يتذكّر ما دار، وما زال شغوفاً بمعرفة أحوال جيلي الجديد. وحتى لا يفسد عليّ تقريع الذات غبطتي بما حدث، فقد عدت من جديد لتأمُّل ما دار في جلسة طه حسين مع سهيل إدريس، ومفاوضاته البارعة على حقوقه. وكلما استعدت تفاصيل الحوار الذي دار، أدركت كم أن لاعتصام طه حسين بالحديث باللغة العربية الفصحى دوره المهم في الرقي بتلك المفاوضات ونجاعتها. ناهيك عن أسلوبه البارع في تلك المفاوضات والذي يدفعه بعد فعل الأمر المُوجز: زدها قليلاً! إلى الانصراف مباشرةً إلى ما كان يتناوله من شؤون ثقافيّة، وكأنه يضع تلك المفاوضات، ولا أقول المساومات، في سياق ثقافيّ أوسع. فلو دارت تلك المفاوضات باللّغة العامية، سواء المصريّة أو اللبنانيّة، لما كان لها هذا الوقع، وربَّما ما كانت لتنجح بتلك البساطة والسلاسة التي دارت بها بلغة طه حسين الفُصحى والراقية.

وانتظرت عاماً آخر، وقد كنت محظوظاً، حيث جادت عليّ الظروف بلقاءٍ ثالث، وعدت إلى «رامتان» مرةً ثالثة وأخيرة في خريف عام 1972، مبكراً وقبل موعد انعقاد الجلسة بساعة تقريباً. وأخبرت فريد شحاتة الذي استغرب وصولي مبكراً جداً، بأن معالي الباشا طلب مني ذلك في المرة السابقة، حينما عرف بأنني أنشر مقالات نقدية في مجلة (الآداب) البيروتيّة. وكانت عودتي إلى «رامتان» يحدوها الشوق إلى ما قد تسفر عنه من حديث شخصي بين طه حسين وبيني من ناحيةٍ، وإن شابها، من ناحيةٍ أخرى، شيءٌ من الأسف، لأنني لن أرى الدكتور محمد عوض محمد الذي استأثر باهتمامي في المرّتين السابقتين، لرحيله مع بدايات ذلك العام (1972). وطال انتظاري، لأن السيدة سوزان لم تأتِ بزوجها إلى غرفة الاستقبال التي تنعقد فيها الجلسة، وقد أخذت مكاني فيها مبكراً، إلّا قبل موعد انعقاد اللجنة بربع ساعة كالمعتاد. ولاحظت أن الدكتور طه حسين بدا أشدّ انحناءً وهزالاً مما كان عليه في العام الماضي، وإن كان مازال في كامل أناقته ومهابته. في حلة رمادية كاملة وجميلة (من ثلاث قطع)، ورابطة عنق حريريّة راقية.
وما أن أجلسته زوجته في مقعده الوثير المُعتاد، ووضعت على ركبتيه بطانية صغيرة من الصوف، مدَّت فوقها يديه، لاحظت تشنج أصابع يديه قليلاً، وارتعاشهما بشكلٍ خفيف. ولما استوى على مقعده، بادر بتحيتي التي رددت عليها بأحسن منها، وبسؤال فريد شحاتة إن كان قد قدَّم لي القهوة أم لا، فبادرت أنا بالردِّ بدلاً منه بأنه فعل وشكرته. وطلب مني معالي الباشا –كالعادة- أن أقرأ عليه جدول أعمال الجلسة ففعلت. ثم بادرني بالسؤال عما أكتب في مجلة (الآداب)؟ ولما أجبته بأنني أكتب النقد الأدبيّ في أكثر من منبر عربيّ خارج مصر، في لبنان وسوريا، وحتى في العراق. كان سؤاله وماذا عن مصر؟ هل نشرت شيئاً في مصر يا بُني؟ فقلت له نعم يا معالي الباشا! وأخبرته عن أن كثيراً من كتاب جيلنا ينشرون في مصر في الصفحة الأدبيّة لجريدة (المساء) القاهريّة، وأحياناً في مجلة (المجلة) التي كان يشرف عليها يحيى حقي. لكننا ننشر في المنابر العربيّة أكثر بسبب ما تتيحه لنا من حرية في التعبير عمّا نريد. وأن الرقابة المباشرة منها وغير المباشرة هي التي دفعت الكثير منا إلى الكتابة خارج مصر.
هنا صدرت عن معالي الباشا تنهيدة عميقة، وقال: يؤسفني أنكم مضطرون إلى خوض نفس المعارك التي خضناها من أجل حرية التعبير في مصر، ولكن في سياق أسوأ! وفي ظل وضع تتدنى فيه مكانة الثقافة ودور المُثقّف في مجتمعه. كنا نودّ أن تستفيدوا مما حققناه، وأن تبنوا فوقه. ثم سأل، وكأنه يريد أن يغيّر هذا الموضوع المؤسف، قلت لي إنك لم تدرس عندنا، فماذا درست؟ فكرَّرت عليه ما قلته في المرّة الماضية عن مسيرتي الدراسية، وأخبرته بأنني أكملت دراسة عامين للتخصّص في الأدب والنقد المسرحي، من نظام جديد للدراسات العليا في المعهد العالي للفنون المسرحية، أسسه وقتها الدكتور مصطفى سويف، حينما عهدت له وزارة الثقافة بإدارة أكاديمية الفنون. وذكرت له أسماء بعض من تلقيت دروسهم فيه وفي طليعتهم الدكتورة لطيفة الزيات، والدكتورة سامية أسعد، والدكتور شكري عياد، والأستاذ بدر الديب وغيرهم ممن أظن أنهم تتلمذوا على يديه. فردَّد نعم … نعم!
ثم أردف: إذن أنت تريد التخصُّص في النقد الأدبيّ، ومواصلة العمل فيه، فهل تجيد لغة أجنبية يا بُني؟ فقلت، بشيء من التلعثُم، وقد أدركت أنه وضع يده على نقطة ضعف مُهمَّة، إنني أحاول يا معالي الباشا أن أحسِّن لغتي الإنجليزية بالدرس والترجمة. وقد التحقت بقسم الدراسات الحرّة في الجامعة الأميركية بالقاهرة لهذا الغرض. فقال من الضروري يا بُني أن تجيد اللّغة في بلدها، وأن تعرف ثقافتها وحضارتها بشكلٍ جيد، كي تضيف شيئاً لثقافتك. فاللّغة الأوروبيّة مفتاح للحضارة الغربيّة، ولابد أن تعرف تلك الحضارة كي ترهف وعيك النقديّ والعقليّ بالأشياء، وكي ترى حضارتك بعيونٍ جديدة. كنا نحرص يا بُني على أن نرسل النابهين من الشباب إلى أوروبا، كي يدرسوا فيها: لأنهم بذلك يتعلّمون اللّغة ويعيشون الثقافة معاً، لكن هذا الأمر قد انحسر للأسف الشديد مع القضاء على البعثات.
هنا وفدت الدكتورة سهير القلماوي إلى البيت لحضور الاجتماع فانصرف معالي الباشا عني إليها، مما زاد نفوري الطبيعيّ منها بسبب تعاملها السيئ مع يحيى حقي ودورها، في إخراجه من مجلة (المجلة) وتدميرها مع غيرها من منابر الثقافة الجادة في بدايات عصر السادات الكئيب. ثم توالى وفود بقية أعضاء اللجنة وانصرف انتباه معالي الباشا إليهم، وإلى ما ينتظرهم من أمورٍ لإنجازها في تلك الجلسة. وإنْ بدأ الحديث كالعادة بالأمور العامة في حياة كل منهم وأخبار ما يدور في مصر من وجهة نظرهم. وكنا وقتها في خريف الغضب الفعلي، وليس ذلك الذي صكَّ مصطلحه محمد حسنين هيكل –مهندس تمكين السادات من السلطة– بعدما غضب السادات عليه. كانت مصر كلها تعيش عاماً من الغضب الكظيم من حالة اللا حرب واللا سلم التي أخذها السادات لها وقد تعلَّل بالضباب؛ بعدما انصرم عام الحسم (1971) كما سماه دون حسم. وخرج الطلاب إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة، واعتصموا في ميدان التحرير في بداية العام 1972. وتغنَّى بثورتهم أبرز شعراء جيلي مثل أمل دنقل في قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية» ، وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في أغنيته المشهورة «أنا رحت القلعة وشفت ياسين» .
ولما تضامن الكتاب والمُثقفون معهم، ووقّعوا في مكتب توفيق الحكيم الشهير على عريضة مؤيدة لمطالبهم، وتدعو إلى الإفراج عمَّن اعتُقل منهم، عصفت بهم لجنة التنظيم، الذي كان السادات قد وضع على رأسها كادراً إسلامجياً معروفاً هو محمد عثمان إسماعيل. ، فقام على الفور بفصل العشرات منهم، وعلى رأسهم يوسف إدريس ورجاء النقاش وغيرهم من الاتحاد الاشتراكي، مما يفقدهم بشكلٍ مباشر وظائفهم في أجهزة الإعلام الرَّسميّة المملوكة كلية لهذا الاتحاد الاشتراكيّ. وبدأ أغلبهم وقد حرموا من العمل في مصر، أو الظهور في أي من المنابر الإعلاميّة، وضيّق النظام عليهم في رزقهم، في التُشتُّت في المنافي العربيّة والغربيّة على السواء. كما أخذ السادات في إغلاق الدوريات الثقافيّة المختلفة التي كانت تعج بها مصر في ستينيات القرن الماضي. وتخلّقت آليات ما دعوته في أكثر من مقالٍ بالمناخ الطارد الذي أخذ يَدُعّ المثقفين العقلانيين واليساريين من مصر طوال سنوات حكم السادات. بينما أُفسح المجال وأجهزة إعلام الدولة للإسلامجية يعيثون فيها فساداً، ويقومون بغسل عقول المصريين من كل التاريخ العقلانيّ التنويريّ الذي زرعه فيها جيل طه حسين، والأجيال التي تلته، ويسدلون الحجاب على رؤوس النساء، وعلى عقول الرجال في الوقت نفسه.
ولم تكن حقيقة هذا الأمر بغائبة عن طه حسين، الذي لمست طوال نقاشاته في مفتتح هذه الجلسة شدّة حساسيته لأي عصفٍ بدور المُثقفين، وأي تأثيرٍ سلبي على مكانتهم ودورهم في المجتمع. وشعرت وأنا أتابع مناقشاتهم (وكان فيهم مَنْ له ميول إسلاميّة واضحة مثل مهدي علام، أو ميول انتهازية مثل سهير القلماوي التي صعد نجمها مع نظام السادات، وبالتالي يقدِّمون تبريرات متهافتة لما فعله السادات)، وكأن طه حسين يواصل، وإنْ بشكل مغاير، تأكيده لما قاله لي قبل قدومهم، من أن على جيلنا أن يحارب من جديد نفس المعارك التي حاربها جيله: معارك العقل والحرّية واستقلال المُثقّف. واستمرّت الجلسة بأحاديثها الطلية كالعادة، وبتوجيه طه حسين لدفة الأمور فيها بحصافة، بعد اكتمال عدد حضورها إلى ما يتضمّنه جدول أعمالها. ولم ينلْ الخلاف بينه في الرأي فيما يدور في الواقع المصري وبينهم من مناخ الحب والتقدير الذين يحيطونه به. وما أن انتهى من مناقشة كل البنود على جدول الأعمال، وتوصل مع اللجنة إلى قرارات بشأنه حتى كان الإرهاق قد بدا عليه، وازدادت ارتعاشات يديه، فأخذ الأعضاء في الانصراف.
وبعد انصراف آخرهم التفت طه حسين إليَّ وأخذ يُملي عليَّ محضر الجلسة كالعادة. وما أن انتهى منها وبنفس حضور الذهن الذي اعتدته منه، حيث جاءت قراراتها بنفس ترتيب البنود في جدول أعمالها، حتى توجَّه إليَّ بالحديث من جديد. وقال لا تنسَ يا بُني ما قلته لك من ضرورة السفر إلى أوروبا لتتعلّم فيها اللّغة والثقافة معاً! فقلت نعم يا معالي الباشا، ولكنه أمر صعب في هذه الأيام. فقال وفقك الله يا بُني!
ويبدو أن الله استجاب لدعوته لي، رغم استحالة السفر إلى أوروبا لأمثالي في ذلك الوقت. فما أن حان الخريف التالي عام 1973، وهو الخريف الذي فارق طه حسين الحياة فيه، حتى كنت في أوروبا بالفعل، وطلبوا مني أن أقدِّم في ندوة الشرق الأوسط الأسبوعية الشهيرة وقتها في جامعة أوكسفورد ندوةً عنه، بدأتها بأنه لولا دور طه حسين الكبير في الثقافة المصريّة، وما أرساه فيها من قيم وركائز تعليميّة، لما كنت أنا هنا الآن، أتحدّث إليكم في هذه الجامعة. ولكن تلك قصة أخرى تستحق التوقُّف عندها، وعندما رأيته لما جرى في بيته «رامتان»، عقب عودتي لمصر بعد رحيله عنها بست سنوات.
الهامش:
1- تبدأ قصيدة أمل دنقل الطويلة والمهمّة عن هذه المظاهرات: أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ/ أَشهِروا الأَسلِحهْ!/ سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ./ والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!/ المنَازلُ أضرحَةٌ،/ والزنازن أضرحَةٌ،/ والمدَى.. أضرِحهْ/ فارفَعوا الأسلِحهْ/ واتبَعُوني!/ أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ/ رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ،/ وشِعاري: الصَّباحْ!
2- وهي الأغنية التي تقول كلماتها ««أنا رحت القلعة وشفت ياسين/ حواليه العسكر والزنازين/ والشوم والبوم وكلاب الروم/ يا خسارة يا أزهار البساتين/ عيطي يا بهية على القوانين/ أنا شفت شباب الجامعة الزين/ أحمد وبهاء والكردي وزين» والمقصود هنا بهذه الأسماء زعماء حركة الطلبة في يناير عام 1972: أحمد عبدالله رزة، وأحمد بهاء الدين شعبان، وجلال الجميعي، وزين العابدين فؤاد، وشوقي الكردي.
3- كان الملك فيصل قد جاء للسادات وقدَّم له عمر التلمساني مرشد تنظيم الإسلامجية «الإخوان المسلمون» ومئة مليون دولار مقابل إعادتهم للعمل في مصر (حسب رواية هيكل في خريف الغضب) وتخليصه من المعارضة الناصرية واليسارية لمشروعه المدمر، الذي مازالت مصر تعاني من عواقبه حتى اليوم. وكان تعيين محمد عثمان إسماعيل أميناً للتنظيم السياسيّ الوحيد وقتها، وهو الاتحاد الاشتراكي، بداية هذا المُخطط الجهنمي.