مانغويل في تونس.. انتصار الخيال على الواقع

| 04 أبريل 2020 |
يعود ذلك إلى أسبابٍ عديدة، يتعلَّق بعضها بميّزات الرجل وحضوره، ويتعلَّق بعضها بما حفّ بهذه الزيارة من محطَّات دراماتيكيّة منحتها مذاقاً خاصّاً. وهي فرصةٌ سأظلّ مديناً بها للروائيّ كمال الرياحي، مدير «بيت الرواية»، الذي عهد إليّ بمحاورة الرجل، وهو يعرف صلتي بأعماله منذ صدور مؤلَّفه الشهير «تاريخ القراءة» في طبعته الفرنسيّة سنة .1998
لم يتوقَّع أحد أن تحظى هذه الزيارة بما حظيت به من الاهتمام. ولعلّها ما كانت لتصبح هذا «الحدث الاستثنائيّ» لولا رغبة وزير الثقافة في إلغائها، وإصرار نخبة من المُثقَّفين على إنجازها. تعلّل الوزير بأنّ من الأفضل «إرجاء» الزيارة إلى حين تسلُّم الحكومة الجديدة عهدتَها. وحين جُوبِه بمبدأ «استمرار الدولة» واستمراره في الموافقة على تظاهرات أخرى، اتّضح أنّ ثمّة من «أشاعَ» أنّ الرجل «مُطبِّع»! لا لشيء إلّا لأنّ والده عمل في إسرائيل حين كان هو في السنة الأولى من عمره، وغادرها حين كان هو في الرابعة! أمّا مواقف الرجل ونصوصه وتصريحاته المُناصِرة للقضيّة الفلسطينيّة فقد اتّضح أنّها ليست بالشفيع الكافي!
ما كان لمثْلِ هذا التخبُّطِ الواضح أن يمرّ دون «فضيحة إعلاميّة» مدوّية. لذلك هالَنا أن تفقد تونسُ الجديدةُ مصداقيّتها بسبب تصرُّف لا موجب له إلّا الحسابات السياسواتيّة الضيّقة. وبدا لنا أنّ في القبول بهذا التصرّف المبنيّ على فقرٍ ثقافيّ مدقع نيلاً من كرامة المُثقَّفين التونسيّين. وكان أمام مدير «بيت الرواية» أن ينتصر في شخصه للمُثقَّفين ولموظّفي وزارة الثقافة أيضاً، فهو في النهاية واحدٌ منهم.
لم يخلُ المشهد من محاولات الانتقاص من قيمة الضيف بدعوى أنّه ليس بماركيز الرواية، وليس بأفلاطون الفكر! كما لم يخلُ من محاولات الطعنِ في مضيفيه على أساس أنّهم لم يقفوا من الوزير موقفهم ذاك إلّا لأنّه راحل! والحقّ أنّهم لم ينتظروا هذه «التظاهرة» لمواجهة خيارات الوزير بما استطاعوا. كما أنّ إصرارهم على إنجاز التظاهرة لم يكن استهدافاً لأيّ شخص. لكنْ هَب أنّهم وجدوا في «الخطأ الوزاريّ» ما يسمّيه سُونْ تزُو «التوقيت المناسب والميدان الملائم» لكَسْبِ المعركة، فما العيب في ذلك؟
أمّا قيمة الرجل فلا تحتاج إلى برهان بعد قرابة الثلاثين كتاباً حتّى الآن، في الرواية والقصّة والمُقاربة الفكريّة الأدبيّة العابرة للأجناس. صحيح أنّه لم يصبح ماركيز الرواية ولا أفلاطون الفكر، وليس ذلك من غاياته، لكنّه صار عَلَماً في ميدانه. فهو ذاكرةُ القراءة والكتابة في العالَم بما يُشبه الإجماع. كما استطاع بأسلوبه القريب من أسلوب «مُعَلِّمهِ» بورخيس أن يحقِّق أصعب معادلة: احترام النُقَّاد، وإعجاب الملايين من القُرَّاء في وقتٍ واحد، في مختلف اللّغات العالميّة التي تُرجِمَت إليها أعمالُه. هكذا استحقَّ لقب «الرجل المكتبة» بامتياز. وما انفكّت زياراته إلى مختلف بلاد العالم تحظى بالاهتمام وتترك أثراً في عقول المستمعين إليه ووجدانهم.
وَقَفْتُ على ذلك من خلال حواري معه وهو يحدّثني حديث عاشق الكِتاب، في عالَمٍ يسعى بعضُهُ إلى تعميم «البؤس الفكريّ» لفبركة المزيد من «المُستهلكين»، حيث لا شيء مهمّاً إن لم يُفضِ إلى مردود ماديّ. من ثَمَّ أهمِّيّة الانتباه إلى علاقة الكتابة بالجسد وعلاقة الجسد بالقراءة، فالخطر المحدق بالكتاب اليوم، في نظره، ليس ناجماً عن تعدُّد المحامل الإلكترونيّة أو الرَّقميّة بقدر ما هو ناجم عن الهجوم المنظّم على «القراءة النوعيّة» التي من شأنها أن تساهم في تحرير الجسد والفكر والمخيّلة. من ثَمَّ سعيُ البعض إلى إلغاء الكتاب من المشهد، لأنّ قراءة الكتاب تعلِّم القارئ أن «يُدرِكَ» نفسَه، ومن ثَمَّ أن يفكّر بنفسه، فإذا هو يتحرَّر ويعمل على تغيير واقعه، وقد بات منتجاً لا مستهلكاً، ومبدعاً لا متّبعاً، ومواطناً لا جزءاً من قطيع.
أخذَنا الحوارُ إلى بورخيس، معلِّمه وقدوته، الذي حاور في نصوصه الكثير من الآثار العربيّة الإسلاميّة، بدايةً من القرآن، مروراً بابن سينا وابن رشد والخيّام والرومي والقزويني والجاحظ وغيرهم، وصولاً إلى ألف ليلة وليلة التي كانت مثار إعجابه الكبير، ولكن لا شيء يُذكر بعد ذلك، وكأنّ الأدب العربيّ توقَّف عند تلك المرحلة التي نعتزّ بها طبعاً… فسألتُه وهو الذي تناول نصوصاً عربيّة حديثة لمحمود درويش، ورشيد بوجدرة، ومحمَّد البساطي، وسنان أنطون، لماذا ظلّ حضور المدوّنة العربيّة الحديثة محتشماً لديه ولدى «مُعلِّمه» بالقياس إلى ما تزخر به هذه المدوّنة من أعمالٍ مهمَّة… ما هي الأسباب التي تقف وراء التركيز على الأدب القديم؟ هل هي مسألة ذائقة وتقييم أم مسألة اطّلاع وترجمة، أم أنّ للأمر علاقة بضرب من الاستشراق المزمن؟
لم يتهرَّب الرجل من أيّ سؤال، بل إنّه لم يتهرَّب حتّى من الأسئلة المُحرجة المُتعلِّقة بمواقفه السياسيّة، وتحديداً بموقفه من القضيّة الفلسطينيّة… فإذا هو واضح في انحيازه إلى الفلسطينيّين، واضح في استنكاره خفوت أصوات الكثير من زملائه في الغرب كلّما تعلَّق الأمر بالفظائع الإسرائيليّة، مؤكِّداً انتماءه إلى رؤية إدوارد سعيد للمُثقَّف باعتباره «شخصاً لا يبحث عن الإجماع، بل ينحاز وفق ما يمليه عليه وعيٌ نقديٌّ لا يتوقّف».

الحوار أثرى من هذا بكثير. وفي وسع الراغبين في الاطّلاع عليه كاملاً أن يقصدوا الإنترنت، حيث تولّى موقع «بيت الرواية» وموقع «المكتبة الوطنيّة» توفيره للعموم. لكنّ الحوار على ثرائه ليس سوى جزء بسيط من العناصر التي أكسبت هذه الزيارة بُعدَهَا «الرمزيّ»، وأتاحت للمُثقَّفين تسجيل نقاط مهمَّة، قد تغيِّر طريقة تعامُلهم مع أنفسهم ومع واقعهم.
من بين هذه النقاط:
أوّلاً: أنّ «المسؤوليّة الثقافيّة» رؤيةٌ ومشروع وليست مهارات اتّصاليّة لجمع الأصوات وتلميع الصّوَر، ومن تبعات ذلك ألّا يتصرَّف المسؤولون الثقافيّون كأنّهم في حملة انتخابيّة.
ثانياً: أنّ على «المسؤول الثقافيّ» الذي لم يُنتَخَبْ على أساس رؤيةٍ ومشروع ألّا ينسى أنّه في خدمة أفكار المُثقَّفين والمُبدعين، وليس «مُكلَّفاً» بالتفكير عوضاً عنهم.
ثالثاً: أنّ «المناصب الثقافيّة» مهمَّةٌ عسيرة، يستحيل أن ينهض بها غيرُ الزّاهد فيها، المنحاز بالضرورة إلى الخيارات الثقافيّة على حساب مناورات السياسة مهما كان مأتاها.
رابعاً: أنّ المسائل «القيميّة» أخطر من أن نتركها بين أيدي «السياسواتيّين»، الذين يُغلِّبون الانتهازيّة على كلّ مبدأ، وقد يتغيَّر اتِّجاه البوصلة لديهم ستّين مرّةً في الساعة.
خامساً: أنّ في وسع المُثقَّفين المُبدعين متى تحكَّموا في نرجسيّاتهم وتضامنوا من أجل مشروع، أن ينجزوا أحلامهم وأن ينتزعوا «القرار الثقافيّ» مهما كانت قِلّة مواردهم.
سادساً: أنّ الخيال هو الثروة الحقيقيّة غير القابلة للنفاد، لأنّه يصنع من الضعف قوّةً، ويتيح العمل بحرّيّة بعيداً عن كواليس التباس الدعم والتمويل بالضغط والابتزاز. ولأنّه -وهذا هو الأهمّ- يستطيع متى صدق العزم وتوفَّرت الإرادة أن يُترجِم الحلم إلى حقيقة، وأن ينتصر على الواقع ويغيِّره.