لويز غلوك.. تجاوز الخسارات

| 16 أكتوبر 2020 |
(في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلنت الأكاديمية السويدية منح الشاعرة الأميركية «لويز غلوك» جائزة «نوبل» في الأدب، وأوضحت الأكاديمية السويدية للعلوم في حيثيات قرارها أن «غلوك» مُنِحت الجائزة «لصوتها الشاعري المميَّز الذي يحمل جمالاً مجرَّداً يضفي، بجماله، طابعاً عالميّاً على الوجود الفردي»، وهي الشاعرة الأميركية الثانية التي تحصل على «نوبل» في الأدب بعد بوب ديلان خلال القرن الحالي).
■
لماذا مُنحت جائزة «نوبل» في الأدب، للشاعرة الأميركية لويز غلوك، ولم تُمنَح لهاروكي موراكامي، أو مارغريت آتوود؟
من هي لويز غلوك؟ لماذا تمكّنت من الحصول على «نوبل» في الأدب؟ من خلال هذا المقال، سنلقي نظرة فاحصة على ألمع الشعراء الأميركيين المعاصرين، لتكون نقطة الانطلاق للتعرّف إلى الماضي، والواقع المتعلِّق بجائزة «نوبل» في الأدب.
من هي لويز غلوك؟ هي أعظم شاعرة أميركية بعد ديكنسون، وبيشوب
كشفت لويز غلوك عن فلسفتها الشعرية قائلة: «أقع دائماً في حيرة، بسبب الحذف والإيجاز، وعدم الإفصاح، والإيحاءات، والبلاغة، والصمت الهادئ». وبالنسبة إلى القرّاء الصينيين ليس اسم الشاعرة لويز غلوك مألوفاً بينهم، بينما في الولايات المتَّحدة الأميركية، هي إحدى النجوم المبهرة في عالم الشعر، في الوقت الراهن، وهي الأكثر شهرةً بعد ديكنسون، وماريان مور، وبيشوب، وقد كرَّست قصائدها لإعادة بناء العلاقة مع الحياة، واستكشاف الأصوات النسائية الثريّة، مع الاحتفاظ بالتجارب اليومية، كما تفتح قصائدها آفاقاً شعرية جديدة، يتسربل بها الثراء والعمق والغموض، وقد بلغت أعلى درجات الإتقان والإجادة في مجموعتها «حياة الريف». حتى الآن (الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول، 2020) صدرت ثلاثة أعمال لها داخل الصين؛ «حتى يعكس العالم أعمق احتياجات الروح» الصادر عن مجموعة شنغهاي سينشري للنشر/ دار الشعب في شنغهاي، و«سبائك القمر»، و«مختارات لويز غلوك»، التي صدرت عن جمعية ييتشانغ للشعر الحديث، في عام 2015.
يُعَدّ وجود لويز غلوك في عالم الشعر الأميركي أشبه بالكلاسيكيات الحيّة. ولدت في عام 1943 في عائلة مجرية يهودية الديانة، وفي السابعة عشرة تركت المدرسة بسبب فقدان الشهية، وبدأت تتلقّى العلاج النفسي لمدّة سبع سنوات، ثم درست الشعر في رابطة الشعر، في جامعة كولومبيا، وفي عام 1968، نشرت ديوانها الأوَّل «الوليد الأوَّل»، ثم انطلق مشوارها الشعري. في طفولتها، كان العالم يعاني ويلات الحرب العالمية الثانية، وكان، وقتها، «روزفلت» الشهير، رئيس الولايات المتَّحدة الأميركية، لكنها حصلت، الآن، على جائزة الشاعر الأميركي، وجائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب المتميز، وجائزة النقَّاد الوطنية، وجائزة بولينجن، فلا شيء يبقى على حاله، وخارج النافذة تتغيّر، دائماً، صورة العالم، فظهرت أمامها أميركا المستقطبة، لكنها لم تتعامل مع الأمورالسياسية بشكل مباشر، بل كانت تتعامل مع مشاعر إنسانية لتجارب أعمق وأكثر سرِّيّةً تسكن حنايا القلب.
لويز غلوك، شاعرة غنائية من طراز أصيل، وينقسم إبداعها الشعري إلى مرحلتَيْن؛ المرحلة الأولى هي مرحلة تدريب الشاعر، وكان معظم نتاجها الشعري نابعاً من تجارب حياتية ممثّلة في ديوانها «صورة متداعية» (1980)، وقد أدرجت موادّ لتجاربها الذاتية في كلمات الأغاني المنطوقة، وغذَّت حساسيّتها المرهفة وروحانيَّتها العالية قصائدها، وأضحى التردُّد والتشوُّق إلى الحبّ موضوعات مشتركة تتجسَّد في قصائدها.
على سبيل المثال، في ديوان «الصيف»، قالت: «ضعنا أنا وأنت، ألا تشعر؟»، وفي «إيثاكا»: «المحبوب ليس في حاجة إلى الحياة.. المحبوب يحيا في عقل الحبيب»، وفي «انتصارات أخيل» وصفت الحزن الذي انغمس به «أخيل»، وتفهُّم الآلهة لحالته: «هو، بالفعل، شخص ميِّت، والجزء الذي سيحبّ، هو ذات الجزء الذي سيموت».
وفيما يتعلَّق بالإبداع الشعري، أقرَّت لويز غلوك قائلة: «أنا على يقين تامّ بأنني أتعلّم كتابة الشعر، فليس ضرورياً أن تكون الصور الشعرية انعكاساً لصور ذاتية تمور داخلي، دون السماح بتوليد صور حيّة بسيطة، دون تعقيد.. توليد الصور دون أن تقف الروح عائقاً أمامها، بل لابدّ من استخدام الروح لاستكشاف الأثر الشعري، والفصل بين الضحالة والعمق، وانتقاء أشياء على قدر من العمق».
ويمكن أن نتَّخذ من مجموعتها «الزنبقة البرِّيّة» الحاصلة على جائزة «بوليتزر» للشعر، مثالاً على أنها تسير على درب من النضج، فلم تجسِّد قصائد المجموعة علم النفس البشري الدقيق، فحسب، بل كان لها السبق في استخدام الإحالات الأسطورية، والتزاوج بين الأساطير والخرافات والشعر، للكشف عن المشاكل الأساسية للوجود البشري؛ مثال ذلك في ديوان «عتاب» الذي يتحدَّث فيه الشاعر مع إله الحبّ «إيروس» في الأساطير اليونانية، وفي «مقتطفات أسطورية» اقتبست قصّة إله الشمس «أبوللو» وهو يلاحق «دافني»، ابنة إله النهر «يينيوس»، وأكثر ما أثنت عليه غلوك التمازج بين الأساطير وأسرار الحياة، فنجدها تقول في «أسطورة الوفاء»:
انتظر سنوات طوال
وخلق عالماً، وراح يراقب بيرسيفوني.
راحت بيرسيفوني تتشمَّم وتتذوَّق
الأشياء من حولها.
وفكَّر: آهٍ، لو كنت تمتلكين شهية جيّدة
لتتمتعتي بكلّ ما هو موجود
ألا يشتهي كلّ حبيب أن يلمس؟
البوصلة ونجمة الشمال.
استمعي إلى الأنفاس وهي تردِّد:
«أنا على قيد الحياة»؛
وهذا يعني أنك على قيد الحياة؛
لأنك لحديثي تستمعين.
حطَّمت غلوك عمود الأنماط التعبيرية التقليدية التي وضعها الشعراء الرجال، وخلقت صوتاً خاصّاً بالمرأة، ومن خلال كتابات شعرية دقيقة بالغة الحساسية، وغير مألوفة، جسَّدت التجربة الحياتية النسائية، وحاولت المزج بين الشعر الحديث واللاهوت الكلاسيكي، لفتح آفاق أكثر رحابة وعمقاً أمام معاني القصيدة.
في الكتابات الأدبية التقليدية، عادة ما يُقمع الصوت النسائي، وتتعلم النساء المزيد من الصبر والتسامح، وقد شجَّعت كتابات «صافو» المرأة على الحديث عن تجربتها العاطفية الحقيقية، والتعبير، بشجاعة، عن «لحظة عدم الاحتمال». وقد سارت غلوك على نهج ديكنسوت، وسيمون ويل، وسارت، ورغم نتاجها الشعري الكبير ومكانتها في الحركة الشعرية الأميركية، لا تزال محدودة الانتشار، وما زالت معروفة على نطاق ضيِّق جدّاً في الصين.
وفي ديوانها «زنبقة برِّيّة» الحاصل على جائزة «بوليتزر»، لم تعد لويز غلوك راضية عن الدور الوصفي للقصيدة، بل راحت تستخدم الاستعارات لتضفي روحانية إلى كلّ الأشياء، من خلال الصور اليوميّة، و- من ثَمَّ- يتسنّى لها أن تنقل المعاني الفلسفية. في مجموعتها «جليد الربيع»، استعارت جليد الربيع، ونظمت قصيدة على غرار «الشعر الطائفي»، قائلة:
انظر إلى سماء الليل.
أمتلك ذاتَيْن،
وأملك قوَّتَيْن.
أنا هنا معك، بجوار الشرفة،
وأراقب ردّة فعلك.
بالأمس، ارتفع القمر فوق الأرض الرطبة،
وهوى داخل بستاني.
في هذي اللحظة، أضاءت الأرض كقمر منير
مثل شيء ميّت مغطّى بشعاع نور.
في هذي اللحظة، فتحت عينيك
وسمعت صرختك المدوِّيّة،
وصرخات ملتاعة من أمامك،
وغاية تبغاها..
وأريتك ما تتلهَّف لكي تراه
ليس ثقةً فيك،
بل هو استسلام،
استسلام للطغيان.
لويز غلوك، شاعرة تتَّخذ من الحياة والموت نواة أساسية لقصائدها، وتضجّ كتاباتها بالنقاش حول الموت، على سبيل المثال: «هدوء يقابل هدوء، لا مبالاة تقابل لامبالاة، البقاء على قيد الحياة، الحياة تحت الأرض، الموت، من يموت، يموت بلا معاناة». تبدو قصائد لويز غلوك كسكاكين صغيرة تضيء، وسط العتمة الجامحة، بضوء فضّي، فهي لا تتجنَّب تناول الموضوعات الدسمة، فالموت، بالنسبة إليها، ليس أمراً مؤقَّتاً، بل عمليّة بطئية ومتكرّرة، فنجدها تقول: «الميلاد وليس الموت، هو خسارة لا تحتمل، أريد أن أخبرك بشيء: كلّ يوم، الناس يموتون، وهذه ليست سوى البداية».
ومن منظور علم الأنساب الشعرية، تقترب لويز غلوك من إيميلي ديكنسون، وماريان مور، بيشوب، وكاتولوس. وبالعودة إلى الشعر الكلاسيكي، نجدها الأقرب إلى الشاعرة اليونانية القديمة صافو، فهؤلاء الشعراء يولون اهتماماً بالتجربة الحسِّيّة للجسد، ويجمعون بين التجارب الروحية، والاستكشافات الفنِّيّة الشعرية، كما ابتكروا قوالب شعرية جديدة، وتناولت قصائدهم موضوعات افتراضية خلود العالم البشري، مثل الخسارة والفقد والحبّ والوحدة والموت والحياة، حتى هذه العلاقة بين الواقع والخيال. وداخل الأوساط الأدبية الأميركية، التي تنخرط في السياسة على نحو كبير، نجد أن لويز غلوك تسلك منحى آخر، فهي تعود إلى الصمت، وتبحث، في الكتابة والصمت، عن «لحظة الوعي»، وهذا لا يعني أن الشاعر لا يولي عناية بالسياسة، لكنه يعي أن البداية المتلهِّفة قد تكون غير مناسبة، ووسط خضمّ الضجيج، يكون للتراجع إلى الوراء قيمة كبيرة.
الاهتمام بالإنجازات الأدبية وتحقيق التوازن الجنسي والجغرافي
على الرغم من أن لويز غلوك تحظى بمكانة أدبية، لا يمكن لغيرها أن يشغلها، لكن الشعراء العظماء في عالمنا ليسوا قليلين، فلماذا، إذن، فضَّلتها الأكاديمية السويدية عمَّن سواها من الشعراء؟
في ظاهرة مثيرة للاهتمام، في يوم إعلان نتيجة جائزة «نوبل» في الأدب، ارتفعت احتمالات فوزها، رغم أنها لم تكن، فيما قبل، من المرشَّحين الأقوياء لنيل الجائزة. وإستناداً إلى المعلومات بشأن الاحتمالات السابقة، والإنجازات الأدبية، والطبيعة الجغرافية، يتسنّى إعداد قائمة بالمرشّحين، ولم تكن لويز غلوك واحدة المرشّحين، ومنهم آنا كارسون، ونغوجي، وغروسمان، ولازلو، وآخرون، وجميعهم يفوقونها في عدد الجوائز، وخاصّةً بعد تتويج بوب ميلان، في عام 2016، بالجائزة، فكان احتمالية حصول شاعر أميركي آخر، على المدى القصير، منخفضةً إلى حدٍّ ما.
ورغم ذلك، حصولها على الجائزة أمر معقول، لأنها شاعرة لا يمكن إغفال وجودها في المنطقة الناطقة باللغة الإنجليزية، والمنطقة غير الأوروبية، وبعد حادث الاعتداء الجنسي، كان من المنطق أن تفكِّر بها لجنة التحكيم؛ لتحقيق توازن جنسي وجغرافي. وكما هو معروف لدى الجميع، أن جائزة «نوبل» في الأدب تُمنح إلى أكثر كاتب تتمتَّع أعماله بالمثالية في المجال الأدبي، لكن بعد حادث الاعتداء الجنسي في عام 2018، باتت جائزة «نوبل» في الأدب تعاني أزمة ثقة.
وفي عام 2019، تَمَّ استبدال الحكّام في لجنة التحكيم، وإضافة أكاديميين نساء جدد، تختلف ذائقتهم الأدبية عن الحكّام السابقين، و- من ثَمَّ، وبكلّ واقعيّة- لم تساعد نتائج الجائزة، قبل عام 2018، في التنبُّؤ بجائزة هذا العام، لكن ما مكَّنَنا حقّاً، من وضع أيدينا على الأدلّة، هو بيان لجنة التحكيم، والجوائز المرجعية لجائزة «نوبل» في 2019. وقد جاء في هذا البيان تعهُّد الحكّام ببذل الجهود لتحقيق المساواة بين الجنسين، وكذلك التوزان الجغرافي، ومنحت توكار تشوك الجائزة في عام 2018، وهذا برهان ساطع على حُسْن اتِّجاه سير جائزة «نوبل»، وفي المستقبل ستتضمَّن قائمة الترشيحات المزيد من الكاتبات.
تغيُّر طفيف قد طرأ على الجائزة، هو أن «نوبل»، في السنوات الأخيرة، صارت أكثر ارتباطاً بجائزة «بوكر» العالمية، و«جائزة الأكاديمية الجديدة»؛ فجائزة «بوكر» جائزة موثوقة في المجال الأدبي، وتثني على الكتّاب الجادّين والمعنيِّين بالقضايا العامّة. على سبيل المثال، قبل حصول توكار تشوك على «نوبل»، صارت المفضَّلة الجديدة لدى جائزة «بوكر» العالمية، والأمر المثير للاهتمام، هو أن رواية الكاتبة «تسان شويه» «حكاية حب القرن الجديد» قد أُدرجت ضمن قائمة «بوكر» الطويلة، وذلك لأن تسان شويه، في العام الفائت، كانت ضمن أعلى خمسة احتمالات في قائمة «Nicer Odds» قبيل إعلان نتيجة جائزة «نوبل»، مع الأخذ في الاعتبار أن الكاتب الياباني «كازوو إيشيغورو» كان ضمن هؤلاء الخمسة المرشَّحين، فضلاً على أن الجائزة، لمدّة ثلاث سنوات متتالية، مُنحت لأدباء من أوروبا، وحُرِم من التتويج بها، منذ أمد طويل، كتَّاب من أسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية وأستراليا، و- من ثَمَّ- كان الهدف، هذا العام، هو حصول كاتب يحظى باحترام كبير من منطقة غير أوروبية، لاستعادة جائزة «نوبل» لسمعتها، وانطلاقاً من هذا المنطق، إن حصول لويز غلوك على الجائزة، هذا العام، أمر معقول جدّاً!
لماذا ظلَّ هاروكي موراكامي وآخرون، في مضمار سباق «نوبل»، فترات طويلة؟
وعند الحديث عن ترشيحات «نوبل»، سنتطرَّق إلى سؤال، وهو: لماذا ظلَّت أسماء، منها هاروكي موراكامي، وأدونيس، ونغوجي، وآتوود في مضمار سباق «نوبل» فترات طويلة؟
في البداية، ينبغي توضيح أمر، هو أن لجنة تحكيم جائزة «نوبل» لا تعلن عن قائمة الترشيحات، وكلّ ما نطالعه على شبكة الإنترنت هو ترشيحات وكلاء شركات المراهنات. على سبيل المثال، تضع شركات الألعاب الرياضية الشهيرة وشركات أخرى، على قوائمها، هاروكي موراكامي، على قائمة الاحتمالات كلّ عام، وذات مرّة، في العام الماضي، وضعت تسان شويه على قائمة الاحتمالات، مما أحدثَ ضجّة كبيرة في وسائل الإعلام الصينية، لكن هذا، في الواقع، ليس له علاقة بلجنة تحكيم الجائزة. لا تعلن اللجنة عن قائمة الترشيحات، لكنها تعلن عن قائمة المرشَّحين قبل خمسين عاماً؛ وذلك بسبب الحفاظ على مبدأ السرِّيّة لمدّة خمسين عاماً، وكلّ ما نراه متداول على شبكة الإنترنت، هو ترشيحات عام 1969 (بينما ترشيحات عام 1970 سيتمّ الكشف عنها في الأوَّل من يناير/ كانون الثاني، عام 2021)، وما يتسنّى مطالعته، الآن، هي الأسماء قبل عام 1970.
واللافت للانتباه، أن قائمة الترشيحات تتضمَّن اسم تولستوي ستَّة عشر مرّة (يمكن ترشيح الاسم الواحد من قِبَل محكِّمين مختلفين، عدة مرَّات، خلال العام الواحد) كما تَمَّ ترشيح مولرو، وغراهام جرين، وماغام ، وأودن، لكنهم لم يحصلوا على الجائزة، ولم يتمّ ترشيح أساتذة الأدب اللامعين مثل تشيخوف، وبروست، وكافكا.
بينما، في الصين، كان من الكتَّاب الذين ترشَّحوا، بالفعل، هم: هو شي، ولين يي تانغ، أمّا بالنسبة إلى ترشيح لاو شيه، ولوشون، فهذه مجرَّد شائعات لا أساس لها من الصحّة، وفي السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى مويان، ومن بين الكتَّاب المؤثِّرين على المستوى العالمي، الذي تتردّد شائعات عن احتمالية حصولهم على «نوبل»: يوهوا، وجيا بينغ وا، وتسان شويه، ووانغ آني، ويان ليان كه، ولي روي، ووتساو ناي تشيان. أمّا بالنسبة إلى مشاركة هاروكي موراكامي وغيره في مضمار السباق، فلا شكَّ في أن لجنة تحكيم «نوبل» لن تفصح عن الأسباب، لكن، بسبب طبيعة جائزة «نوبل» ذاتها، وسمات الكتاب، ما زالت أسباب الترشُّح قائمة.
ولتحرّي الصدق، لا يُعَدّ أدب هاروكي موراكامي جديداً بالنسبة إلى لجنة تحكيم جائزة «نوبل»، فمن المحتمل أن الطرق التعبيرية تبدو قديمة بعض الشيء، حتى صارت قوالب وتقاليد لا تلبّي توقّعات لجنة التحكيم إزاء الابتكارات الأدبية، فروايات هاروكي موراكامي متوارثة من التراث الأدبي لدوستويفسكي، وسكوت فيتسجيرالد ، وريموند تشاندلر. وعلى الرغم من أنه ياباني الجنسية، هو يميل إلى أسلوب كتابة الأدب الأميركي في القرن العشرين، وهو الوريث الياباني للكتابات السردية خلال عصر الجاز، وبعد الألفية. لم يعد حكّام لجنة تحكيم «نوبل» يولون اهتماماً بالأدب الأميركي، وعلى الرغم من أن الولايات المتَّحدة بلدٌ أدبي كبير، فاز، في السنوات العشر الماضية، بوب ديلان، فقط، بجائزة «نوبل» في الأدب، وكتّاب عظماء مثل دون ديليلو، وروبرت روس، وجيمس أوتس، وكورماك مكارثي، وبول أوستر، بينما غيرهم آخرون فاتتهم جميعاً جائزة «نوبل»، وحتى الكتّاب العظماء، مثل فيليب روز، لم يعتدّ بهم من قِبَل حكام جائزة «نوبل»، فضلاً عن هاروكي موراكامي.
وبعد حصول الكاتب كازوو إيشيغورو على الجائزة، باعتباره كاتباً بريطانياً ويابانياً في آن معاً، تقلَّصت فرصة حصول هاروكي موراكامي على «نوبل»، والأقرب للترشيح من هاروكي موراكامي، الكاتبة اليابانية يوكو تاوادا، وهي متخصِّصة في كتابة الشعر والروايات، وتتبع طريقة الكتابة التجريبية، وتمتلك حسّاً بالتطوُّر الأدبي، وتعيش، حاليّاً، في ألمانيا
لم يتمكَّن أدونيس، ونغوجي، وبيتر كاري، وغيرهم من الحصول على «نوبل» لأسباب مماثلة، وجميعم بارزون في مناطقهم الخاصّة، ويرمزون إلى قوّة أدبية في المناطق الهامشية للعالم الأدبي التقليدي، ومنها: سورية وإفريقيا وأستراليا، وحصولهم على «نوبل» لن يثار حوله الجدل أو اللغط، لكن، من منظور الابتكارات الأدبية، ما زال بشأنهم تحفّظات من قِبَل لجنة التحكيم.
ومن بين الكتّاب الصينيين المتوقَّع أن يتنافسوا على الترشيح للجائزة ؛ يان ليان كه، وتسان شويه، ولي روي، ويو هوا. ومن المرجح، نسبيّاً، أن يتنافس يان ليان كه، وتسان شويه، على الجائزة، لان أسلوبهما الأدبي يقترب من نكهة الجوائز الأوروبية الكبرى؛ فهما يسيران على خطى الأدب الحديث الذي ابتكره كافكا، وجويس، وفولكنر، وغيرهم آخرون. ومن حيث المحتوى الأدبي، تجسِّد أعمالهم مفهوم «الصين في عيون الغرب»، وهي أعمال ستلتمع أمام أعين حكّام الأدب الأوروبيين، ورغم هذا فإن احتمال فوزهم، في السنوات الأخيرة، كان ضئيلاً جدّاً، لأن أعمالهم الأدبية لا ترقى فوق مستوى كتَّاب آسيا وأوروبا، و- ربَّما- كتَّاب هذه المناطق هم في أمَسَّ الحاجة لحصد الجائزة.
تاريخ جائزة «نوبل» والجدل: المركزية الأوروبية وأدبيات التدخُّلات السياسية
بعد تغيير لجنة تحكيم الجائزة، بدأت تولي عناية أكبر من الناحية الجغرافية بالكتاب، حيث المناطق غير الناطقة بالإنجليزية، لكن- بشكل عام- ما زال أدب المناطق الناطقة بالإنجليزية هو محور اهتمام جائزة «نوبل»، وعلى مدار التاريخ، كانت المركزية الأوروبية أمراً واضحاً. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت جائزة «نوبل»، في الأساس، لعبة أوروبية، قبل عام 1939 – باستثناء طاغور، من الهند (فاز بالجائزة عام 1913)، وسيم لويس، من الولايات المتَّحدة (فاز بالجائزة في عام 1930) – كان بقيّة الفائزين من الأوروبيين، وتركَّزوا في أوروبا الغربية وشمال أوروبا.
بين عامَيْ 1901 و 1939 ، مُنحت جائزة «نوبل» للفرنسيين، ست مرَّات (برودوم، وفردريك ميسترال، وموريس ماترلينك، ورومان رولان، وأناتول فرانس، وروجه مارتين دوغار)، تَمَّ منحها ثلاث مرّات للسويديين (لاغرلوف، وهايدنستام، وألفيلد)، كما مُنحت للنرويجيين (يورنستيارنه بيورنسون، وكنوت همسون، وسيغريد آوندست) ثلاث مرّات. والآن، راح هؤلاء الكتَّاب في غياهب النسيان، ولم يعد أحد يتذكَّرهم، وفي الوقت الذي فضَّلهم فيه حكام جائزة «نوبل»، كانوا قد نحّوا كلّاً من تشيخوف، وبروست، وكافكا، وجويس، وتولستوي، ولوشون، جانباً. منذ عام 1950، كانت أكثر الدول تفضيلاً لجائزة «نوبل» هي المملكة المتَّحدة (سبعة فائزين: راسل، وتشرشل، وكانيتي، وويليام جولدينج، ونايبول، وليسينج، وكازوو إيشيغورو)، ثم فرنسا (ثمانية فائزين: مورياك، وكامو، وسانت جوان بيس، وسارتر، وكلود سيمون، وجاو شينغ جيان، وكليزيو، وموديانو)، ثم الولايات المتَّحدة الأميركية (همنغواي، وشتاينبك، وسول بيلو، وسينجر، وبرودسكي، وتوني موريسون، وبوب ديلان)، وبلدان أخرى تأتي في المرتبة الوسطى، بينما تأتي كلٌّ من إيطاليا وإسبانيا والسويد في المرتبة الثانية. ومن حيث المساواة بين الجنسين، تفوق الرجال على النساء، فقد انعكست معاناة المرأة في الأدب في تحكيم جائزة «نوبل»، وفي الأربعة عشرة سنة، الأخيرة، تبوَّأ الكتَّاب الرجال تسعة مقاعد من أصل أربعة عشر مقعداً، لكن الأمر الذي يدعو إلى الأمل، هو أنه، خلال سبع سنوات، حصدت الجائزةَ ثلاثُ كاتبات، وهذا يشير إلى أن جائزة «نوبل» شرعت تولي اهتمامها بالمرأة. يطمح العديد من الكتَّاب إلى الحصول على جائزة «نوبل»، وفي الوقت نفسه هناك بعض الكتَّاب يجرؤون على رفض الجائزة أو الاستخفاف بها والتقليل من شأنها، فقد سبق أن رفض المفكِّر الفرنسي سارتر الجائزة، وبعد أن علم الكاتب الإفريقي كوتزي أنه حصل على الجائزة، قال في استخفاف: «هذا أمر غير متوقَّع، على الإطلاق. لم أكن أعلم حتى بأمر الإعلان عن الجائزة».
في الذكرى المئة والعشرون لجائزة «نوبل»، ماذا تعني «نوبل» للكُتّاب، ودور النشر، والقرّاء العاديِّين؟
تصادف، هذا العام، الذكرى المئة والعشرون لجائزة «نوبل». ولكونها جائزة أدبية عريقة، وعلى الرغم من الجدل الواسع الذي شهدته، ما زالت، حتى اليوم، أكثر مؤشِّر أدبي يتمتَّع بقوّة تأثير عالمية. أمّا بالنسبة إلى الكتَّاب الجادّين، فهي فرصة ذهبية لزيادة مبيعاتهم، وبالنسبة إلى القرّاء العاديِّين، تجعلهم يتعرَّفون، بصورة أكبر، على أعمال أدبية شائقة، وبالنسبة إلى دور النشر، ليست فرصة لبيع الكتب، فحسب، بل هي فرصة لتقديم الأدب الجيّد، والترويج للكتَّاب الكلاسيكيِّين. وعلى الرغم من أن الكاتب النرويجي لازلو بولغار يتمتَّع بشهرة عالية، داخل أوروبا، ويُعَدّ رائداً من روّاد الأدب الكلاسيكي، لم تترجَم، حتى الآن، سوى ثلاث روايات، فقط، من أعماله، وتَمَّ نشرها في الصين، بينما الكاتب كازوو إيشيغورو، الحاصل على «نوبل»، في 2017، تُرجِمت روايته من سنوات، ونشرتها دار نشر (ييلين). لكنها لم تحقِّق مبيعات مُرضِية، وعندما حصل على «نوبل»، تساءل الكثير من الصينيين: «من هو كازوو إيشيغورو؟»؛ ما يفسِّر أن الطريق أمام الترويج للأدب العالمي ما زال طويلاً، أمّا بالنسبة إلى المحرِّرين التسوقيِّين والمحرّرين المسؤولين، فتقع على عاتقهم مسؤولية بيع الكتب الجيّدة، والترويج لها بين القرّاء، ولأن جائزة «نوبل» تأتي، مرّة واحدةً، كلّ عام، من الصعب أن يفوّتوا هذه الفرصة.
وبعد جائزة «نوبل»، عمل محرّرو دور النشر على الترويج لبوب ديلان، وتوكار تشوك، وبيترهانديك؛ لأن هذا هو الوقت الذي يمكن أن ترى أعمالهم في يد العديد من القرّاء خارج دور النشر، والأوساط العلمية، ووسائل الإعلام. قبل فوز توكار تشوك بـ«نوبل»، لم تتخطَّ المبيعات، داخل الصين، سوى بضعة آلاف نسخة، لكن نسبة البيع قد تضاعفت بعد حصولها على الجائزة، وفجأةً قفزت إلى عدّة أضعاف، وخلف هذه المبيعات، ربَّما، هناك عشرات الآلاف من الأشخاص لم يقرأوا أعمالها، طيلة حياتهم، لكن، في النهاية، سيتسنّى لهم قراءتها، بينما لا يولون اهتماماً بالكتّاب الذين لم يحالفهم الحظّ، وحصلوا على الجائزة. العالم، بأسره، يهتمّ بالجوائز، خاصّة الجوائز الرسمية المعترف بها على المستوى العالمي، وإذا فكَّرنا في الأمر، بعض الشيء، فسنجد أن حصول الكاتب على جائزة أمرٌ يدعو إلى الفخر، ويمكن التباهي به، فربَّما لم يختلف المستوى الأدبي للكاتب، هذا العام، عن العام الفائت، لكن- بسبب حصوله على الجائزة- ينظر إليه العالم بعيون مغايرة. وهناك البعض يروِّجون الشائعات حول دخول بعض الكتَّاب الصينيين إلى قائمة الترشيحات لـ«نوبل»، ليثيروا فرحة الشعب الصيني، لكن إذا تَمَّ الكشف عن حقيقة هذه الشائعات، فسيصاب المتابعون بخيبة أمل كبيرة، وكأن الكاتب قد فقد شيئاً، لأنه خيَّب توقّعاته. وعلى الرغم من أن الكتَّاب العظماء مثل كافكا، وجيمس جويس، وبروست، وهيرمان بلوخ، لم يحصلوا على جائزة «نوبل»، لم يضرّ هذا بأدبهم، بل- على العكس- قد أظهر حيويّة أعمالهم، وقوَّتها.
بعد مئة عام، بعضٌ ممّن نالوا الجائزة قد خبا نجمهم الساطع، لكن أعمالهم ظلَّت باقية تسطع وتنير للأجيال اللاحقة، وصاروا أفضل بكثير من أقرانهم الذين تجاوزوهم شهرةً، وطغت قوَّتهم في تلك السنوات المنقضية، وعندما نفكِّر في الأمر، سنجد أن التقدير الذي يمنحه الزمن للكاتب، هو أغلى ثناء يحظى به.
لي مو ياو، ترجمة: ميرا أحمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■■
عن الشعر، والشيخوخة، ومفاجأة «نوبل»
«إنني اجتماعية للغاية، وكوني أكره إجراء الحوارات لا يعني، بالضرورة، أنني شخص انطوائي». «لويز غلوك»، قبل إجراء الحوار.
في صباح يوم الثلاثاء، الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، 2020، فازت «لويز غلوك» بجائزة «نوبل» للآداب. اصطفَّ الصحافيون في الشارع حول منزلها، في كامبريدج، بماساتشوستس، ولم يتوقَّف هاتفها لحظةً عن الرنين. كان الأمر أشبه بهجوم ضارٍ، وقد وصفته «غلوك» بأنه «كابوس».
ولكن، من الآن فصاعداً، يجب أن تعتاد على الإشادة بها. ففي مسيرتها، التي استمرَّت لأكثر من خمسة عقود، نشرت أكثر من عشرة مجلَّدات شعرية، وحصلت، تقريباً، على كلّ جائزة أدبية مرموقة، من بينها جائزة «بوليترز» عن مجموعتها «القزحية المتوحِّشة» عام 1992، وجائزة «ناشيونال بوك كريتيك سيركل» عن مجموعة «انتصار آخيل» عام 1985، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الوطنية، والوسام الوطني للعلوم الإنسانية، وجوائز أخرى.
يقول «جوناثان جالاسي»، صديقها المقرَّب ومحرِّر أعمالها، ورئيس شركة «فارار وستراوس وجيرو» للنشر: «شِعرها يشبه حواراً داخليّاً- ربّما- يجري بينها وبين نفسها، وربّما بينها وبيننا، وهناك مفارقة في هذا الأمر. أمّا الشيء الوحيد الثابت، في كلّ أعمالها، فهو وجود ذلك الصوت داخلها».
كانت الأشهر القليلة الماضية، في حياة، «غلوك» عصيبة، فهي المُطلَّقة التي تعيش بمفردها، والتي كانت معتادة- قبل الوباء- أن تتناول عشاءها، مع أصدقائها، ستّ ليال في الأسبوع. وقد حاولت، عبثاً، أن تكتب خلال أشهر الربيع، ثمّ عادت لكتابة القصائد، مرّة أخرى، في أواخر الصيف، فكانت النتيجة مجموعة شعرية جديدة تحت عنوان «Winter Recipes From the Collective»، والتي تخطِّط شركة «فارار وستراوس وجيرو» لإصدارها في العام المقبل.
«كلّ ما آمله هو أن يُختَم شقاؤنا بمعنًى جميل يرضينا ويُسعدنا». – لويز غلوك
تحدَّثت «غلوك» إلى صحيفة «التايمز» بعد ساعات قليلة من إعلان فوزها بجائزة «نوبل». وفيما يلي مقتطفات من الحوار:
كيف كان وقع الخبر عليك، في أوَّل الأمر؟
– في هذا اليوم، تلقَّيت مكالمة هاتفية في حوالي السابعة إلّا ربعاً، صباحاً، وكنت قد استيقظت للتوّ. وعندما رفعت سمّاعة الهاتف، قدَّم المتَّصل نفسه قائلاً إنه أمين عام الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة «نوبل»، وأردف قائلاً: «أهاتفك لأخبرك بأنك، اليوم، فزتِ بجائزة «نوبل» للآداب». لا أتذكَّر، بالضبط، ماذا قلت له، لكنني شككتُ في الأمر، برمَّته. أظنّ أنني لم أكن مهيَّأة لتلقّي خبر كهذا.
كيف كان شعورك بعد إدراكك أن الأمر حقيقي؟
– شعرت باندهاش تامّ؛ ذلك أنهم اختاروا كاتبة شعر غنائي، أميركية، وبيضاء، أيضاً! هذا غير منطقي. والآن، يعجّ الشارع الذي أقطن فيه بالصحافيين، ويستمرّ الناس في إخباري بأنني متواضعة، لكنني، في حقيقة الأمر، لستُ كذلك؛ فأنا، فقط، أنتمي إلى دولة مرموقة، لا يسعني أن أفكِّر فيها بطريقة حميمية، الآن، كما أنني امرأة بيضاء، ونحن- البيض- نحصل على غالبية الجوائز غالباً، ومع ذلك، فقد ظننت أن فُرصتي للفوز بمثل هذه الجائزة ضعيفة، للغاية.
كيف كانت حياتك طيلة هذه الأوقات العصيبة، والعزلة التي دامت، لشهور، في ظلّ الجائحة؟ هل تمكَّنت من الكتابة خلالها؟
– إنني أكتب على نحو متقطِّع، في العموم؛ لذلك ليست الكتابة عندي نظاماً ثابتاً. فقد استغرق مني كتاب واحد ما يقرب من أربع سنوات، وقد أرّقني هذا الأمر. ثم في أواخر يوليو/تموز، وأغسطس/آب، تدفَّق مني سيل من القصائد، بشكلٍ غير متوقَّع، وتراءى لي، فجأةً، كيف يمكنني تهيئة هذه المخطوطة وإنهاؤها. كان الأمر أشبه بمعجزة!، ولكن «كوفيد» أودى بشعوري بالنشوة والارتياح؛ حيث كنت أخوض معارك يوميّة مع الخوف والقيود اللازمة التي فُرضت على حياتي اليوميّة.
ما موضوع المجموعة الشعرية الجديدة؟
– موضوعها هو الانهيار. هناك الكثير من الرثاء في هذا الكتاب، والكثير من الهزل، أيضاً، والقصائد نفسها سريالية، للغاية.
منذ عهدي بالكتابة وأنا أكتب عن الموت؛ فبالرغم من أني كنت طفلة مفعمة بالحياة، كنت كثيراً ما أكتب عن الموت منذ بلوغي سنّ العاشرة. أمّا عن الشيخوخة، فهي أكثر تعقيداً؛ إنها ليست مجرَّد حقيقة، مفادها أنك أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الموت، بل مفادها أن جميع الملكات العقلية التي اعتمدت، دوماً، على صحّة الجسد والعقل أصبحت، الآن، عرضةً للخطر والتهديد، ومجرَّد التفكير في هذا الأمر والكتابة عنه يثير اهتمامي، بشكلٍ كبير.
تستمدِّين الإلهام من الأساطير الكلاسيكية في الكثير من أعمالك، وتنسجين، في قصائدك، شخصيات أسطورية مع القصائد الحميمة التي تدور حول الروابط العائلية والعلاقات العاطفية. ما الذي يجذبك إلى تلك الشخصيات الأسطورية؟ وكيف يمكن لهذه القصص أن تعزّز ما تحاولين استكشافه، والتواصل معه، من خلال شعرك؟
– يقتات كلّ كاتب على ذكرياته القديمة، كالأشياء التي دفعته نحو التغيير، أو لمست قلبه، أو غمرته بالسعادة العارمة. أمّا عن طفولتي، أنا (شخصياً)، فقد تركت الأساطير الكلاسيكية، التي قرأها لي والدي، بصماتها، في وقت مبكِّر، فكنت أقرأ الأساطير اليونانية بأعين والديَّ، وواصلت قراءتها، بمفردي، بعدما تعلَّمت القراءة. كانت شخصيات الآلهة والأبطال أكثر وضوحاً، بالنسبة إليّ، منها بالنسبة إلى الأطفال الصغار الآخرين الذين يقطنون جزيرة «لونغ آيلاند»؛ أي أن الأمر لا يعني أنني مشدوهة لأمور اكتشفتها مؤخَّراً وأردت إدراجها في أعمالي، لأمنح قصائدي نوعاً من الصقل؛ إنما كانت تلك الأساطير هي القصص التي تُروى لي قبل النوم في طفولتي. وبعض من هذه القصص كان لها تأثيرها الخاصّ، لا سيَّما قصّة «بيرسيفون»(1)، فأصبحت أكتب عنها، من آن إلى آخر، على مدار خمسين عاماً. وكنت كثيرة الشجار مع والدتي، شأني في ذلك شأن كلّ الفتيات الطموحات. وأعتقد أن هذه الأسطورة، بالذات، أضافت جانباً جديداً إلى تلك المشاجرات؛ فكنت، عندما أكتب، لا أشكو من والدتي، إنما أشكو من «ديميتري»(2).
البعض يقارن أعمالك بأعمال «سيلفيا بلاث»، كما يصفون أشعارك بأنها طائفية وحميمة. إلى أيّ مدى أوردت تجاربك الشخصية في أعمالك؟ وإلى أيّ مدى تستقصين القضايا الإنسانية العالمية؟
– غالباً ما يعتمد المرء على تجاربه الشخصية، بدءاً من مرحلة الطفولة، لأنها هي جوهر الحياة. أمّا أنا، فأنقّب في التجارب التوراتية، وأعتقد أن معاناتي وسعادتي ليستا فريدتَيْن من نوعهما، كما أنني لست مهتمّة بتسليط الضوء على نفسي أو على حياتي الشخصية، بل على معاناة البشرية، وسعادتها جمعاء؛ حيث يجيء المرء إلى الحياة بغير إرادته، ويخرج منها بغير إرادته أيضاً. أعتقد أنني أكتب كثيراً عن الفناء، ربَّما، لأن وقع الصدمة عليَّ كان رهيباً عندما أدركت، في طفولتي، أن هذا كلّه لا يدوم إلى الأبد، ولن يدوم.
لقد جرَّبت أنماطاً شعرية مختلفة خلال مسيرتك المهنية، ومع ذلك يظلّ صوتك الشعري متميّزاً، ولا لبس فيه. فهل كان هذا الجهد متعمَّداً وبوعيٍ منكِ، لتحفيز نفسك عن طريق تجربة أنماط شعرية مختلفة؟
– نعم. أفعل هذا دائماً؛ فالمرء يكتب ليصبح مغامراً، وأنا أعشقُ الترحال إلى أماكن لا أعرف عنها شيئاً، وأرغب في أن أكون غريبة على أرضٍ غريبة. ومن الأشياء الجيّدة القليلة التي أودّ قولها، عن الشيخوخة، أنها تمنحك تجربة جديدة. رغم أن التضاؤل ليس بالأمر الممتع الذي يترقَّبه الجميع، إلّا أن هناك أموراً جديدة تحدث خلال هذه المرحلة، وهذه الأمور، بالنسبة إلى الشاعر أو الكاتب، لا تُقَدَّر بثمن. أعتقد أنه يجب عليَّ أن أكون متفاجئة، دائماً، وأن أكون- بطريقة ما- مبتدئًة، مرّة أخرى، وإلّا فسأنفجر باكية. وهناك أوقات، كما تعلم، أفكِّر فيها في كتابة قصيدة ما، وبعد الانتهاء منها أدرك أن هذه القصيدة قد كتبتها من قبل.
ما الطُّرق التي جعلتك تشعرين بأن الشيخوخة دفعتك لاستكشاف مناطق جديدة، بوصفك شاعرة؟
– مثلاً، أن أجد نفسي، من حين إلى آخر، قد نسيت بعض الأسماء، وأن العبارات مليئة بالثغرات الشاسعة في منتصفها، وبذلك يتوجَّب عليَّ؛ إمّا إعادة هيكلة الجملة، أو إقصاؤها. ولكن بيت القصيد، هنا، هو خوض هذه التجربة، فمثل هذه الأمور لم تكن تحدث لي من قبل. وعلى الرغم من أنها تجربة كئيبة ومزعجة ولا تُبشِّر بالخير، إلا أنها لا تزال مثيرة وجديدة من وجهة نظر كلّ فنَّان.
غالباً ما يوصف أسلوبك بأنه متقطِّع أو مختصر. هل هذا هو الصوت الداخلي الذي يأتي إليك، بشكل طبيعي، في أوقات الكتابة، أم أنها مهارة طوَّرتِها وشذَّبتِها بنفسكِ؟
– قد تكون أشعاري مختصرة، في بعض الأحيان، وهذا صحيح؛ لأنني، أحياناً، أكتب بشكل تحاوري، ولكن هذا الصوت الداخلي لا يمكنني مجاراته دائماً؛ ولذلك تجد الجملة لنفسها طريقة ما للتحدُّث عن نفسها، ومن الصعب مناقشة هذه المسألة المتعلِّقة بالصوت؛ ذلك أن هذا الصوت، غالباً ما يكون مبهماً، للغاية. أظنّ أنني شغوفة بالأساليب الشعرية، وأشعر، دائماً، بمتانتها؛ فالقصائد التي هزَّتني، كليّّاً، لم تكن الأثرى بألفاظها، وهذا تمثَّل بشعراء، منهم «بلايك»، و«ميلتون»، ممَّن برعوا بأسلوبهم، وهذا ماكان سبباً لانتشار أساليبهم الشعرية.
قمتِ بالتدريس في جامعة «ييل»، وتحدَّثتِ عن دور التدريس في مساعدتك للتغلُّب على الصعوبات التي واجهتِها في أثناء كتاباتك. حدِّثيني عن دور التدريس في حياتك، بوصفك شاعرة؟
– يجب أن ينصبّ تفكير المُعلم، باستمرار، على ما هو جديد وغير متوقَّع، كما يجب عليه إعادة ترتيب أفكاره حتى يتمكَّن من استخلاص ما يثير اهتمام الطلّاب. كان طلّابي يُدهشونني، بل يُبهرونني!، وعلى الرغم من أنني لم أستطيع الكتابة، بشكل دائم، لكنني قادرة، دوماً، على قراءة كتابات الآخرين.
شكراً جزيلاً على وقتك. هل تودِّين إضافة المزيد؟
– أردتُ ألّا أنبس بكلمة، ولكنكِ جئتِ وجعلتِني أفيض بما كتمت، ولم يُكفِك هذا، بل تريدين المزيد! لا مزيد عندي. وإذا كانت هناك حاجة ملحّة لقول شيء ما، فإنه يخرج مني في شكل قصائد. أمّا البقيّة، فما هو إلّا مجرَّد ترفيه.
حوار: ألكسندرا ألتر، ترجمة: قمر عبدالحكيم
المصدر:
صحيفة ذا نيويورك تايمز
هوامش:
1 – «بيرسيفون»، هي ابنة «زيوس»، و«ديميتري» في الأساطير الإغريقية.
2 – «ديميتري»، إلهة الطبيعة والنبات والفلاحة عند الإغريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■■■
القليل من الشّعر في عالم المتنمِّرين
عندما فاز «شاول بيلو» بجائزة «نوبل» في الأدب، عام 1976، قال: «بداخلي طفل مسرور، وراشد متشكّك». واعتبرها «إهانة خفيّة لبعض كتَّاب القرن العظماء الذين لم يحصلوا عليها». ولطالما كانت «لويز غلوك»، التي فازت بالجائزة، هذه السنة، متشكّكة، منذ فترة طويلة، من كلّ الثناء على أعمالها. في مقابلة، عام 2009، قالت: «عندما قيل لي إن عدد قرّائي كبير، قلت في نفسي: هذا رائع ، سأصبح «هنري وادزورث لونغفيلو» الجديد: شخص يسهل فهمه، يسهل الإعجاب به، من نوع التجربة المخفّفة المتاحة للكثيرين. لكني لا أريد أن أكون «هنري وادزورث لونغفيلو». آسفة، يا هنري، لكنني لست كذلك، فقد اعتقدت أن الثناء على عملي، ربَّما، كان بسبب عيب فيه».
بعد خمس سنوات صاخبة اتَّسمت بالجدل والفضائح الأخلاقية، تكافئ أكاديمية «نوبل»، هذه السنة، «لويز غلوك»، الشاعرة التي نالت استحساناً، بالإجماع، وهي- بذلك- أوّل شاعرة تفوز بجائزة «نوبل» في الأدب، منذ فوز السويدي «توماس ترانسترومر» بها عام 2011، وأوّل أميركية تفوز منذ فوز «توني موريسون» عام 1993. ويتَّفق الجميع على أنه كان من الصعب، للغاية، توقُّع اسم صاحب الجائزة هذا العام، وسط تخمينات واحتمالات شتّى. هل ستختار الأكاديمية السويدية، التي أزعجها النقَّاد، شخصية أكثر توافقيَّة، أكثر أصالة، أم أنها ستواصل في نهجها، حيث التمثيل الزائد للكتَّاب الأوروبيِّين (خمسة من أصل جوائزها الأخيرة الستة)؟ في الأخير، اختارت الأكاديمية المرشَّحين الغامضين بالنسبة إلى المشاهير، رغم تداول أسماء كبيرة مثل «موراكامي» أو «ميلان كونديرا» الفرنسي- التشيكي، دون جدوى.
الشاعرة الأقلّ إزعاجاً على (انستغرام)
لا يمكن أن تسبِّب «لويز غلوك» ضجّة، بالحجم نفسه الذي كان للمتوَّجين في السنوات القليلة الماضية؛ فهذه الشاعرة الأميركية المعاصرة قد حصلت، بالفعل، على العديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك جائزة «بوليتسر»، في عام 1993، عن مجموعتها «L’Iris sauvage». وفي تعليقه على الحدث، كتب الناقد الأميركي «أليكس شيبارد»، بأسلوبه الناعم، عن «لويز غلوك»: «لقد كانت أقلّ الشعراء، الذين يتمّ الاستشهاد بهم على (انستغرام)، إزعاجاً».
وُلِدَت «لويز غلوك» عام 1943، في «نيويورك»، لعائلة يهودية مجريّة، ونشأت في «لونغ آيلاند». وفي سنوات المراهقة، عانت من فقدان الشهية، لفترة طويلة، وهي تجربة صعبة عطّلت دراستها طويلاً، لكنها آثرت كتاباتها. وفي عام 1968، ظهرت على الساحة الأدبية، بمجموعة أولى، عنوانها «البكر».
وفي غضون 50 عاماً، نشرت «لويز غلوك» عشرات المجموعات، بما في ذلك «أفيرنو» (2006) ، وهي تفسير رؤيوي لأسطورة «بيرسفوني»، ونزولها إلى الجحيم بعد أن يأسرها «هاديس» إله الموت، وكذلك «الليل الصادق والفاضل». تتميّز قصائدها بطابعها الشخصي، للغاية، وغالباً ما تكون بضمير المتكلّم، وتميل إلى التحليل النفسي بقدر ما تتأثَّر بأبيات «إميلي ديكنسون» أو «ريلكه»، بموضوع الخسارة، وكذلك بدوافع كلٍّ من الطبيعة، والأنوثة، بأسلوب واضح وبعيد عن التكلّف. الطفولة، والأسرة، والعلاقة الوثيقة مع الوالدين والأشقّاء، هي أفكار رئيسية في أعمال «لويز غلوك». ركَّزت «غلوك»، في عملها، على إلقاء الضوء على جوانب الصدمة، والرغبة، والطبيعة، واشتهر شعرها بتعبيراته الصريحة عن الحزن والعزلة. وركَّز النقَّاد، أيضاً، على بنائها للشخصيات الشعرية، والعلاقة في قصائدها بين السيرة الذاتية والأسطورة الكلاسيكية.
ويمكن أن نرى تشابهاً كبيراً وارتباطاً واسعاً بين «غلوك» والسويدي «توماس ترانسترومر»، الحائز على جائزة «نوبل» في الأدب، عام 2011، بتركيزهما على مشاكل الحياة اليومية بدل المشاركة المباشرة في القضايا السياسية، والقضايا الاجتماعية. في الظاهر، رغم ذلك، لا يبدو «موريسون» و«غلوك» أكثر اختلافاً، حيث يكشف عمل «موريسون» عن الندوب الدائمة والطابع الراسخ للصدمة الأميركية، في حين يتميّز عمل «غلوك» بالهدوء والمحلِّيّة، ويفتقر- على ما يبدو- إلى تلك اللوحة الواسعة، والمشاركة الاجتماعية، والمشاركة السياسية.
لكننا، بالنظر إلى ما وراء السطح، نتبيّن صلات بين الكاتبَيْن، ونقاط تشابه كثيرة. منذ بدايات قصائدها، اهتمَّت «غلوك» برسم ما يعنيه أن تعيش، بوصفك فرداً، في أميركا. إنه شكل دقيق ومحكوم من الشعر الغنائي، يهتمّ بما لم يكن من الممكن قوله مثل ما قيل، وبالطرق التي يطارد بها الأخير الأوّل، ويشكّله. تكتب «غلوك»: «لا أحبّ أن أكون محكومة باليقين». نحن نعيش في عصر، يسود فيه اليقين على أيّ شيء آخر، تقريباً. يبدو أننا نرغب، على سبيل المثال، في التأكُّد من وجود لقاح ضدّ «كوفيد 19»، واليقين بأن الوباء سينتهي، واليقين بأننا لن نموت.. على الأقلّ، ليس الآن، وليس هكذا.لكن هناك شيئاً مهمّاً للغاية: عندما نتذكّر أن الحياة، بكلّ أشكالها: الاجتماعية، والسياسية، والشخصية، تظلّ غير مكتملة، وغير مؤكَّدة، ومعدّلة إلى ما لا نهاية. في «حكاية البجع»، ضمن مجموعتها، لعام 1996، «Meadowlands – ميدولاندز»، تعيش بجعة وزوجها «على بحيرة صغيرة خارج / خريطة العالم». يقضي زوج البجع الكثير من الوقت في تأمُّل ذاتيّ، وأحياناً يتأمَّل أحدهما الآخر. بعد عشر سنوات «هاجما / الماء اللزج».
وتكمل:
عاجلاً أم آجلاً، في فترة طويلة
من الحياة معاً، يواجه كلّ زوجَيْن
بعض الطوارئ كهذه: شكل
من الدراما التي توقعنا
في أذى.
إنها حكاية عن الحياة الأسريّة، مدمِّرة في صراحتها، وأكثر دماراً عندما نعلم بوجود مثل هذه الحالات الدرامية خلف معظم الأبواب المغلقة، والتي لا تظهر إلّا عند فتح الباب، فقط، لنظهر بوجه عامّ لا يعرض سوى التملُّك والاطمئنان.
الفرد المُعَولَم
بعد إعلان تتويجها، رحّبت لجنة «نوبل» بالشاعرة «غلوك»، وأشادت «بصوتها الشعري المميَّز، والذي يُضفي- بجماله المجرَّد- طابعاً كونيّاً على الوجود الفردي»، وهو توصيف شامل، يمكن قوله عن الكثير من الشعر الغنائي. ولكن اهتمام «غلوك» بالتجربة الفردية كان مميّزاً، على مَرّ السنين، فهي تؤكّد أن كلّ شيء، حتى في حياتنا الخاصّة، يتأثَّر (ويتشكّل) بالمجال العامّ. وبغضّ النظر عمّا قد يدَّعيه البعض من أفكار عكس ذلك، فنحن جميعاً نتاج العالم من حولنا.
وتسلّط «لويز غلوك» هذا الضوء على مثل هذه التأثيرات والعواقب؛ لا بدافع إخبارنا، فحسب، بل لتكشف لنا عن كيفية القيام بذلك. إنه تصحيح متواضع لخطابات السّلطة، التي غالباً ما تكون ذكورية، والتي تصبغ أشياء كبيرة ممّا يتم تشجيعنا على اعتبارها مهمّة، وتفسدها. كلّ فرد من المجتمع مسؤول عن الطريقة التي يختار العيش بها، أو كما قالت الشاعرة في «حكاية البجع»: «الحبّ هو عمل المرء».
بعيداً عن الجدل
ويبدو أن جائزة «نوبل» تسعى إلى ترميم صورتها، بعد الكثير من الانتقادات التي وُجِّهت لها على خلفيّة اتّهامها بالتمييز والتحيُّز؛ ما طرح الكثير من التساؤل حول مدى التزام المؤسَّسة بالشفافية والنزاهة والمساواة. وبعد عامين من الخلافات الداخلية، والقرارات غير المفهومة، اختارت لجنة «نوبل» أن تسند الجائزة، هذه المرّة، إلى شاعرة، لم تكن مثيرة للجدل. وفي جانب آخر، اختارت اللجنة، عن قصد، تجنُّب ما كان يمكن أن يكون تدخُّلاً مباشراً مؤثّراً في المناقشات الضرورية حول التنوُّع والشمولية – مناقشات قد لا تتمّ بسبب رغبة بعض السياسيين المؤثّرين، على اعتبارهم يشنّون حرباً ضدّ الوباء.
لا شكّ في أن هذه الحجج ستجد صدى من هذا الجانب أو ذاك، لكن انتقاد الجائزة، على كلتا الجبهتين، يعني، أيضاً، إهمال الصفات، والصدى الخاصّ بعمل «لويز غلوك». إن تميّزها في الشعر الغنائي، يكشف عن جانب محدّد، للغاية، لطبيعة الحياة التي نختار أن نعيشها.
تكتب الشاعرة في السطور الأخيرة من قصيدة «الفجر»، عام 2008:
تصل إلى المنزل، فتلاحظ العفن.
بعبارة أخرى، فات الأوان.
وبكشفها المستور، تسمح لنا «غلوك» برؤية ما يتمّ تجاهله في كثير من الأحيان، والعواقب التي تنشأ من التهوّر، بسبب عدم الاهتمام بأنفسنا، والطريقة التي نعيش بها في هذا العالم.
نيكولاي دافي، ترجمة: مروى بن مسعود
المصدر:
theconversation.com
2020/10/9
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■■■■
خسارة مُتجاوَزَة
يكتنفها الضوء والظلام في الوقت نفسه، الفائزة الأخيرة بجائزة «نوبل» في الأدب، تطلق صوتها دون صخب. لا تفرض يأسها الداخلي. قصائدها مضبوطة وصريحة، لكنها ليست أقلّ حدّةً وسرِّيّة. الوضوح مجرَّد مظهر. الصُّور تتسلّق، وتسمو، وترتقي مثل فصل الربيع الذي ينبع من الأرض، والذي لا يمكننا فهمه، أحياناً.
الحبّ في قصائد «لويز غلوك» (نيويورك، 1943)، لا يتجاهل نهايته أبداً، حتى عندما يكون كلّ شيء في بدايته. ما يمكن حبّه ينتهي به الأمر إلى التدمير على يد الإنسان. لا شيء ينجو. العلاقات الأسريّة، كما في ديوانها «أرارات»، مشحونة بالحزن؛ ربّما لأنها مليئة بالرغبات التي لم تتحقَّق، والموت الذي طرق أبواب المنزل في وقت مبكِّر جدّاً، وأحرق بمرورِه كلّ أحلام البراءة. قصائدها تصدح؛ «حيثُ يوجَدُ الانْشِقاق، يوجَدُ انْكِسار». نساء مجروحات أصبحن قويَّات من خلال الاستيعاب في ذواتهن، وخاصّةً المرأة التي تحمل فراغ والدها، والتي تنظر إلى جمال والدتها، الذي يتحدَّث عنه الجميع.
الحسد موجود، أيضاً، في هذه العلاقات، مثل علاقة أختَيْن لم تتفاهما مُطلَقاً، أو الحسد الحتميّ للغضب، مقابل سعادة البشر، كما نجدها في تلك القصيدة المسمّاة «اعتراف». ديوان «أرارات» هو تأريخ لعائلة «متخصِّصة في لزوم الصمت»؛ هي متخصِّصة في تمثيل الأدوار الزائفة التي تنتهي بانقراض اللغة، أيضاً. هذا الطَّبع قد تَمَّ ارتداؤه منذ وقت مبكِّر، منذ أصبحت الذاكرة تعمل، و- ربَّما- أضحى ضروريّاً إنشاءُ لغة جديدة تقول «لويز غلوك»:
«الذي يَعود /
يَعودُ مِنَ النَّسْيان /
لِلعُثورِ على صَوْت».
بأسلوب أكثر تركيزاً على السمة السردية لأبياتها، على الرغم من أنه في الخطّ التأمُّلي العميق نفسه، هناك ديوان آخر يسمّى «ريّاض»، حيث يحضر النشوز نتيجة زواج غير متكافئ، والشعور بالوحدة لتلك «القِوى المتعارضة» تحت أنظار الابن، في تجسُّد «تلماك»، الذي يترك العلاقة بين والدَيْه: «أوديسيوس»، و«بينيلوب» مُصاغةً ببعض الشفقة؛ والديه اللذين- بدورهما- يتناولان الكلمة للمُرافعة.
الرّوح، الجسد، الأشواك، الخطيئة، الذنب، المغفرة.. هي السِّمات، والفُتات الذي يبقى على طريق القراءة، علامات تربطها بعالم الدين وكلّ ما يعنيه فقدان الإيمان أو ما يتطلَّب ذلك. تفاهة الوجود. تظهر السماء التي يتمّ النظر إليها، دائماً، بحثاً عن شيء ما، «الأنت» التي لا تنتهي، أبداً، من الظهور، أو تفعل ذلك بصوتها الذي لا يرحم:
«كمْ مَرَّةٍ يَجِبُ أَنْ أُدَمِّرَ خَلْقي
لِأُعَلِّمَكَ
أنَّ عِقابك هذا هو:
إيماءَةٌ واحِدَةٌ تَكْفيني أنْ تَسْتَقِرّ
في الزَّمان وفي الجَنَّة»!
حُبٌّ قاسٍ وحَنون مثل كلِّ حبٍّ إلهي، والذي يتطلَّب، حتى يكونَ مُتَبادَلاً،
«تَعَلُّم الحُبّ،
والظَّلام، والصَّمْت»
«لويز غلوك»، مؤلِّفة أحد عشر كتاباً؛ سبعة منها مترجمة إلى الإسبانية من قِبَل دار النشر «Pre-Textos»، كما أنها أستاذة جامعية، تُعيد كتابة الأساطير وقراءة التقاليد التي كانت تتأمَّلها منذ أن كانت صغيرة، وتستلزِم ملاحظة حادّة لجوانب وتفاصيل معيَّنة لشخصيَّاتها. كما لو أن هذه الأشكال التي أدخلتها، في كتاباتها، كانت- بطريقة ما- الأصوات التي تجسِّد المناطق الغامضة للذات، وتترجمها. تُظهِر الحياة اليوميّة للحبّ، والطفولة المُصابة بالضَّرر، ولكن من منظور جديد يتضمّن صوّراً أخرى، هي صور حاضرها. يمرّ الوقت في قصائدها:
«من الفِعْلِ إِلى الدَّافِع /
وإِلى الأَمامِ، اتِّجاه قَرارٍ عادِل».
من الدواوين الأخرى التي تستخدم الأساطير للتحدُّث عن الحبّ والرغبة في الذات المنكسِرة، على سبيل المثال،«حياة جديدة أو أفيرنو»، التي نجد فيها قصائد تتحدَّث عن الكارثة، ومن خلالِها تحاول الشّاعرة تخليد آثار الحبّ؛ وتسمو كتابة هذه الأبيات كشكل من أشكال مقاومة القلب الذي تَصَلَّبَ بحكم الضرورة، من أجل الاحتِماء من الضَّرَر، كما نجده، أيضاً. الحاجة إلى خداع النفس والاعتقاد بأن هذا الخداع، غالباً ما يُشكِّل سعادة، هي فكرة تتجاوز هذه الدواوين وغيرها؛ حاجة لحضور الحبّ، للاستمرار فترةً، ربَّما، بدافع الرغبة، بسبب الجزَع، قبل أن يُدَمَّر كلّ شيء. ومع ذلك، تحيا الأشياء، ولا شيء يمنع ظهور ومضات معيَّنة في الظلام «الخلفية الثابتة للقلب».
«غلوك»، باللغة الألمانية، تعني السعادة. ففي نهاية المطاف، الحبّ هو خطوة عبر النار التي تلتهم كلّ شيء، ومع ذلك، لا يمكنك أن تكون غافلاً، يمكنُك المشي بمفردك. دائماً، الصوت مفرد، وملفوف بالنور والظلام، في الوقت نفسه، تُخرجه الشاعرة لأنه من الضروري القيام بذلك، لبناء:
«كلّ شَيء، شَيْءٌ جَميل، صورَة /
قادِرَةٌ عَلى العَيْشِ بِمُفْرَدِها».
«لويز غلوك»، التي يقال عنها إنها تميل إلى الوحدة والانطواء، تطلق صوتها دون صخب، لا تفرض يأسها الداخلي. قصائدها مضبوطة وصريحة، لكنها ليست قليلة الحدّة والسرِّيَّة؛ كما لو كنّا، في قراءة أبياتها، نتعمَّق أكثر في حياتها أو في انعكاس حياتها على حياتنا، فهي تتوالى حتى يظهر (واحد أو اثنان أو ثلاثة) ليكسر التسلسل السردي بغرابته، ويكشف الصورة التي تحتويه، ويحمل معنى القصيدة بأكملها. الوضوح مجرَّد مظهر. الصُّور تتسلَّق، وتسمو، وترتقي مثل فصل الربيع الذي ينبع من الأرض، والذي لا يمكننا فكّ رموزه مرّات عديدة، و- مع ذلك- يمكننا أن نقدِّر روعته. مثل ذلك الحبّ الآخر أو نقص الحبّ، بالقدر نفسه من الشدَّة، ولكن الأكثر غموضاً، يحضر «الأنتَ» الذي يغطّي كلّ شيء، في خفائه إيمانٌ، و- ربُّما- ألوهية غير مسمّاة، ولكنها محسوسة في أبيات أحد دواوينها الأكثر أهمِّيةً وقوّةً، الذي جعلها فازت بجائزة «بوليتزر»، عام 1993، وهو «السوسن البرّي».
الطبيعَة، كانت، دائماً، شيئاً جوهريّاً في شعرها، ففي ديوان «السوسن البرِّي» لا تبدو الطبيعة أجمل، ولا حياديّةً أكثر من مواجهة الألم البشري. الفُقدان الذي يخترق الصفحات يزيد من لمعان الأوراق، والأنهار، وتغريد، الطيور وزهور السوسن؛ ولكننا، في الوقت نفسه، يمكننا- بالفعل- أن نُسقِط ذلك على بقية أعمالها.
كما بالنسبة إلى «إميلي ديكنسون – Emily Dickinson»، التي كانت حديقتها، قبل كلّ شيء، هي عالمها وعالم شِعرها، ومن هذا التأمُّل كانت ترى الباقي، وكلّ شيء؛ في قصائد «لويز غلوك»، الشيء الوحيد الذي يبقى، ويضيء عالمها هو رؤية الطبيعة التي نراها تتحوَّل وتزدهر وتذبل في دورة حياتها. وبطريقة ما، يُبقى الأمل، لدى الشاعرة، أمل الإبداع، ربَّما، هو الشيء نفسه الذي يترسَّب في الأحلام، ذلك العالم حيث لا حاجة فيه إلى أكثر من جسد الحالم، وروحه.
قصائد مختارة:
الرِّداء
(من ديوان «حياة جديدة»)
جَفَّت روحي..
مِثْلَ روحٍ أُلْقِيَتْ في النّار
ولَكِنْ لِيْسَ تَماماً..
لَيْسَ حَدّ الفَناء. مُتَعَطِّشَة
مَضَتْ قُدُماً. مُتَشَنِّجَة،
ليسَ بِسَبَبِ الوَحْدَة، ولَكِن بسبب عَدَمِ الثِّقَة،
نَتيجَةَ العُنْف.
الرُّوحُ، مَدْعُوَّة لِمُغادَرَة الجَسَد،
لِتَبْقى مَكْشوفَة، لِلَحْظَة،
تَرْتَعِشُ، كما كانَتْ مِن قبل…
تَمَّت غِوايَةُ الرُّوحِ، بسَبب وَحْدَتها،
بِوَعْدِ الصَّفْح.
كَيْفَ يُمْكِنُك أَنْ تَثِقَ، مَرَّةً، أُخْرى،
في حُبِّ كائِنٍ آخَرَ؟
ذَبُلَتْ روحي وتَقَلَّصَت.
أصْبَحَ الجَسَدُ رِداءً، أيضاً،
كبيراً
لها.
وعِندَما اِسْتَعادَت الأَمَل،
كان أمَلاً مُخْتَلِفاً تماماً.
السوسن البرّي
(من ديوان «السوسن البرِّيّ»)
في نهاية المُعاناة
باب في انتظاري.
اسمعني جيّداً: ما تسمِّيه الموت
أتذكَّره.
هناك، في الأعلى، ضوضاء، وأغصان الصنوبر تقشعرّ،
ثم لا شيء. الشمس الضعيفة
ترتجف على السطح الجافّ.
رهيب هو البقاء على قيد الحياة،
كضمير
مدفون تحت أرض مظلمة.
ثم انتهى كلّ شيء: ما كنتَ تخشاه:
أن تصير روحاً غير قادرة على الكلام،
ينتهي فجأةً. الأرض الصلبة
تنحني قليلاً، وما خِلتَه طيوراً
تغرق مثل أسهم في الشجيرات الواطئة.
أنت الذي لا تتذكَّر
مرور عالم آخر، أقول لك:
يمكن أن يتكلَّم، مرّةً أخرى، ما يأتي
من النسيان يعودُ
للعثور على صوت:
من وسط حياتي نبتَ
ربيع طريّ، وظلال زرقاء
وعميقة في زبرجد أزرق.
اعتِراف
القَولُ بِعدَمِ الخوفِ مِن أيّ شَيء
استِهانة بالحَقيقَة.
المرَض، الذُّلّ،
يُخيفانَني.
لديَّ أحْلام، مِثْلَ أيِّ شَخصٍ آخَر.
لكِنَّني تَعَلَّمتُ إخْفاءها
لِحِمايَتي
من الكَمال: السَّعادَة
تَجذِب الغضَب.
إنَّهُنَّ أخَوات مُتَوَحِّشات،
أؤلئك اللّاتي ليْسَ لَدَيهنَّ مَشاعِر،
إلّا الحَسَد.
ميلاغروس أبالو، ترجمة: عبد اللطيف شهيد
المصدر:
https://bit.ly/3bgejgn