لويس سِبّولْفِيدا.. أن تحكي يعني أن تقاوم

| 03 يونيو 2020 |
في الـ 16 من أبريل عام 2020، أسلم «لويس سبولفيدا» الروح في مدينة «أوفييدو» الإسبانية، متأثراً بتداعيات إصابته بفيروس كورونا (كوفيد – 19) عن سن تناهز السبعين؛ قضى سحابتها في النضال دفاعاً عن القضايا التي يؤمن بها، مرتحلاً من مكان إلى آخر لا يكاد القلم يفارق يُمناه، ولا الكراسة يُسراه، لاعتقاده الراسخ بقوة الكلمة ودورها المحوري في النضال.. لقد كان يؤمن، حتى النخاع، بقولة «غيماراز روزا» التي أوردها في كتابه «جنون بينوشيه»: «أن تحكي يعني أن تقاوم»؛ وهذا ما ظل يقوم به طيلة سنوات حياته.
عرفت سنة 1992 حدثاً أدبياً مهمّاً على المستوى العالمي، تمثلَ في صدور الترجمة الفرنسية لرواية «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية»، للروائي الشيلي «لويس سبولفيدا – Luis Sepulveda» (صدرت، بالإسبانية، سنة 1989، ونقلها الدكتور «عفيف دمشقية» إلى اللغة العربية، سنة 1993). بفضل هذه الرواية، أصبح اسم كاتبها رائجاً متداولاً بين قراء الأرض؛ بوصفه الشيلي الغريب ذي الأسلوب البسيط الساحر الجذاب، الملتزم بقضايا عصره، لاسيما تفرده بتناول القضايا الإيكولوجية سرديّاً (إعادة النظر في علاقتنا مع الطبيعة)، وانتقاده للأنظمة الشمولية الديكتاتورية (نظام «أوغيستو بينوشي – Augusto Pinochet»، بالخصوص). كانت روايته تلك تحكي قصة الإكوادوري «أنطونيو خوسيه بوليفار – Antonio José Bolivar»، العجوز الذي انزوى لعيش ما تبقى له من حياة في إحدى القرى الأمازونية الصغيرة المأهولة بالهنود الشُّواريين (Shuars)، مكتشفاً متعة الروايات الغرامية التي كانت، بالنسبة إليه، المتنفس الذي -بانغماسه فيه- ينسى بربرية الإنسان، وتجرده من إنسانيته. غير أن حادث مقتل أحد المغامرين البيض ممن يبحثون عن الذهب، ويطاردون الحيوانات والسلالات النادرة، جعله -لظروف معينة- يضطر إلى مغادرة متعته للقيام ببحث شبه بوليسي، ليكتشف، في النهاية، الجاني: أنثى نمر غاضبة تثأر، لا شك في ذلك، ممن حرمها صغارها. وقبل أن يجدها، يسبقه الصيادون إليها، ويردونها قتيلة، ليبكيها «بوليفار» بحرقةِ من عاين، بالملموس، وحشية الإنسان ولامبالاته حتى بالقيم الإنسانية السامية في سبيل تحقيق مآربه.
وُلد «لويس سبولفيدا» في الرابع من أكتوبر، سنة 1949، بمدينة «أوفال» في الشيلي. انخرط مبكراً في مسيرة النضال، قبل أن يَزج به نظام «بينوشي» في السجن، سنة 1973؛ وقد استعاد «سبولفيدا» هذه الفترة المظلمة القاتمة من حياته في كتابه «جنون بينوشيه» الصادر سنة 2003. وبعد صراعات مريرة مع النظام الحاكم، سيغادر ليمضي فترة من الزمن متنقلاً بين عدة مناطق في أمريكا الجنوبية. وقد مكنته مشاركته في بعثة لليونسكو للبحث في آثار الاستعمار الإسباني والبرتغالي للسكان الأصليين/ الهنود الحمر، من فهم الإنسان الأمريكي الجنوبي متعدد الثقافات، بصفة خاصة، والإنسانية جمعاء، بصفة عامة؛ وهو ما تجلَّى واضحاً في نِتاجه الأدبي، قبل أن يهاجر إلى ألمانيا ممارساً مهنة الصحافة (عمل مراسلاً في عدة مناطق في العالم)، ومناضلاً في منظمة «السَّلام الأخضر – Greenpeace»، لينتقل بعدها إلى الاستقرار في إسبانيا.
تنوعت كتاباته -عبر ما يناهز الثلاثين مُؤَلَّفا- بين الرواية، والمقالة الصحافية، والقصة القصيرة، والقصة الموجهة للأطفال. ومن أهم ما عُرف به، عالميّاً، بالإضافة إلى الرواية الآنف ذكرها (العجوز الذي…)، رواية «عالم أقاصي الأرض»، والرواية القصيرة «خط ساخن» (نقلها إلى العربية «محمود عبد الغني» سنة 2008)، والرواية القصيرة «قطار باتاغونيا السريع» (نقلها إلى العربية «إلياس فركوح» سنة 2008)، والرواية القصيرة «مذكرات قاتل عاطفي» (نقلها إلى العربية «إسكندر حبش» سنة 2002)، والقصة الموجهة للأطفال «قصة النورس والقط الذي علَّمه الطيران» (نقلها إلى العربية «رفعت عطفة « سنة 1999)… ملتزماً فيها، بأكملها تقريباً بالأسلوب نفسه الذي يجمع البساطة، بالبحث شبه البوليسي، بهاجس الارتحال الدائم، وبالالتزام بالقضايا الإيكولوجية، وبالتشويق.
تأثر «سبولفيدا»، في حياته، بمجموعة من الأدباء العالميين؛ منهم: «جول فيرن»، و»جاك لندن»، و»إرنيست هيمنجواي»، و»روبرت لويس ستيفنسون»… مؤكِّداً، في أحد حواراته؛ أن الفضل يعود، أساساً، إلى جده الذي كان مولعاً بالقراءة، فنقل شرارتها، من ثَمَّ، إليه، وبفضله تعرَّف بالكاتب الشيلي «فرانسيسكو كولوانا» (1910 – 2002) الذي ترك فيه وفي أعماله عظيم الأثر. وبالنظر إلى ممارسته للأدب الملتزم، فهو يجاهد من خلال أعماله الإبداعية إلى أن يصل قراؤه إلى الخلاصات نفسها التي تتوصل إليها شخصياته الحكائية، دون أن يكون في ذلك مصادرة لحرياتهم أو فرض وجهة نظر الكاتب عليهم، بل هي مناسبة، بالنسبة إليهم، لاكتشاف ثقافات جديدة، وعلاقات بمعايير مخصوصة، ودفعهم -من ثَمَّ- إلى إعادة التفكير في شرطهم الإنساني. لكلّ هذه الأسباب، ولغيرها، تُرجمت أعماله إلى عدد كبير من اللغات فاق الأربعين لغة.
لم يكن نشاط «سبولفيدا» مقتصراً على الأدب، فحسب، بل إنه شارك -بشكل واسع- في مجال إغناء الثقافة البصرية، من خلال إخراجه لأربعة أفلام، على رأسها فيلم «لا مكان»، الذي نال، بفضله، جائزة الجمهور في مهرجان مارسيليا، سنة 2002. كما كتب خمسة سيناريوهات، أهمها مشاركته في كتابة سيناريو فيلم «أرض النار»، سنة 2000. ولم يكتف «سبولفيدا» بهذا، بل إنه أنتج، وصوَّر، ومثَّل، كذلك، مذكِّراً إيّانا بمواطنه «أليخاندرو جودوروفسكي»، عملاق التجريب الموسوعي.