ليونورا ميانو: «لا بدَّ لإفريقيا من أن تستعيد اعتبارها أمام نفسها»

| 07 ديسمبر 2020 |
من أين يتأتَّى احترام الآخرين لنا؟ من استقامتنا دون تصلُّب، ومن قوّة صوتنا دون ارتفاعه، كما أن احترام الناس لنا لا يتأتَّى من خلال احترامنا لأنفسنا، أوَّلاً؛ هذا ما توحي لنا به الكاتبة «ليونورا ميانو» من خلال حضورها، ومن خلال مقالتها التي صدرت هذا الخريف تحت عنوان «أفروبيا. يوتوبيا ما بعد غربية وما بعد عنصرية» (منشورات غراسيه). وللحديث عن ذلك، التقينا بها في أحد المطاعم الباريسية، وقد خلعت كمامتها، وطلبت شاياً أخضر. وعلى الجدران، صور زيتية لأعيان أوروبيين من زمن آخر، يراقبونها من داخل إطاراتهم المذهَّبة.
لمَنْ كنتِ تنوين التوجُّه بكتابك «أفروبيا»، عندما كنت بصدد تصميم مشروع كتابته؟
– بعد أن عشت، لفترة طويلة، في فرنسا، حيث أنجبت طفلة فرنسية وقمت بتربيتها، كان من الطبيعي أن أنشغل بهموم الأَقلّيّة الأفرو أوروبية. أردت أن أرى ابنتي تكبر وتتفتَّق شخصيتها داخل مجتمع يقدِّم الممكنات نفسها للجميع؛ ذلك يتوجَّه الكتاب إلى مجتمع أصبح، الآن، مجتمعي نظراً لوجود آصرة الأمومة تلك، كما يتوجَّه، بشكلٍ خاصّ، للشباب المنحدر من مجموعات ينظر إليها على أنها أقلّيّة. إن قلَّة الصبر والغضب اللذيْن نلمحهما لدى هؤلاء، أمر مفهوم.
ما سبب هذا الغضب؟
– سببه هو غياب الإنصات في مجتمع، يريد الجميع فيه أن يُسمِع صوته للجميع، دون أن يبذل هو أيّ جهد لفهم الآخرين. مع ذلك، يمكن أن يفضي الغضب إلى أمور غير محمودة. على المرء أن يفرض وجوده وشرعيَّته، ولكن ذلك يحتاج، أيضاً، لشيء من الحبّ. إذا كنت تكره مَنْ حولك، وإذا كنت لا ترى فيهم جزءأ منك، فلن يكون بمقدورك أن تغيّر فيهم شيئاً. وإذا لم تتمكَّن من اعتبار الآخر شبيهاً لك فلن يكون بوسعك أن تطالبه بأيّ شيء.
ماذا تقصدين بعبارة «أفروبيا»؟
– أقصد بها تلك الشبكة البشرية التي تتكوَّن من الأشخاص الأوروبيين المنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء، وأيضاً، جميع الأقلّيّات الموجودة في المجتمعات الغربية والتي لا تجد لها مكاناً داخلها، وهي أقلِّيّات تعود أصولها، أساساً، للتاريخ الاستعماري. جزء كبير من هؤلاء السكّان يعيشون، هنا، نظراً لأن أوروبا الغربية كانت قد بدأت تغزو العالم منذ نهاية القرن الخامس عشر. ورغبةً منها في الاستيلاء على العالم، أسلمت نفسها له؛ ولذلك هي مضطرّة، الآن، إلى قبول مختلف أشكال الاختلاط الناتجة عن الغزوات الاستعمارية.

حسناً، لكن كيف يمكننا أن «ننصهر في مجتمع واحد» في ظلّ وجود هذا الماضي؟
– التحدّي هو بناء شكل جديد من الارتباط بين الأنا والآخر، لا يحاكي ارتباط الفرس مع الحصان. إلغاء الهيمنة هو اختيار. ليس عليك أن تسحق الآخرين، وأن تجرِّدهم ممّا يملكون لكي تحقِّق لنفسك الرخاء. يمكنك اختيار المشاركة والاختلاط بالآخرين. وبالنسبة إلى المجتمعات الأوروبية، لن تتسنّى إعادة التوازن هذه للعلاقات إلّا عبر اختيار الطريقة التي تتحمَّل، من خلالها، مسؤولية تدبير النتائج الداخلية للتاريخ الاستعماري، وأعني بذلك، على وجه الخصوص، وجود سكّان من أصول إفريقية في المجتمع الأوروبي.
كيف تنظرين إلى حراك ربيع 2020، الذي رفع شعار «حياة السود مهمّة»؟
– من السهل قياس مدى أهمِّيّة حياة «السود» بالنسبة إلى الغربيين الذين روَّعتهم جريمة فظيعة، ولكن أسلوب حياتهم ما زال يعتمد على السرقة المؤسَّسية؛ لأن هؤلاء الناس الذين احتشدوا ضدّ العنصرية يصوّتون، بانتظام، لصالح الأنظمة السياسية التي تهدف إلى تجريد شعوب النصف الجنوبي للكرة الأرضية ممّا يملكون، وتحويل بلدانهم إلى مكبّ للنفايات. وفيما يتعلَّق بالأفراد المنحدرين من إفريقيا والذين هم مواطنون لبلدان غربية ما زالت تهمِّشهم وتقابلهم بالعنف، في كثير من الأحيان، أنا أفهم زخم الاحتجاج هذا، و- من ناحية أخرى- أنا لا أحبّ هذا الشعار. ويمكنني أن أقبل به كشهادة على ممارسات حبّ الذات التي لا بدَّ من ترسيخها في المجتمعات المضطهدة التي تواجه مجتمعات معادية. وخارج إطار الجماعة، هذه الكلمات تنبئ باستمرار الهزيمة: إذ في اليوم الذي ستكون فيه حياتنا مهمّة، في نظرنا نحن، أوَّلاً، أؤكِّد لكم أنه لن نحتاج إلى رفع الصوت عالياً بهذا الشعار. فحينئذ سنكون قد ضمنا وجود قوّة تقف وراء أضعف ضعفائنا. إذن، لن يسمح أحد لنفسه بقتلنا في وضح النهار مثل الكلاب؛ لذلك هناك حاجة ملحّة إلى أن نستعيد قوَّتنا نحن. وبالنسبة إليَّ، إن الجزء الأهمّ من هذه القوّة يجب أن ينبثق من إفريقيا. إن النبذ والإقصاء الذي يعانيه الأفراد المنحدرون من أصل إفريقي، له ارتباط بمكانة قارَّتنا في مخيال العالم وعلى الرقعة الجيوسياسية.
كيف يُمكّن تلقين تاريخ أكثر صحَّةً من معالجة الوضع؟
– حين يتعلَّق الأمر بجريمة ضدّ الإنسانية، من عيار جريمة الترحيل عبر المحيطات وأمام حجم الجروح التي لم تندمل بعد، سيكون شرفاً للدول الأوروبية أن تتشاور فيما بينها لتحدِّد ما يجب القيام به من أجل تصحيح التاريخ، وتلقينه على أفضل وجه ممكن. ومن المهمّ تسليط الضوء على آراء المضطهدين، وكذا مختلف ردود الفعل التي قاموا بها للحفاظ على كرامتهم الإنسانية وتحرير أنفسهم. يجب أن نعبِّر عن مدى الفظاعة، أيضاً، وعن مدى المرونة والإبداع والنبل الذي أبان عنه أولئك، الذين اعتقد الأوروبيون أنهم قد أفلحوا في تجريدهم من الإنسانية. إن تكوين المعلّمين يبقى أمراً ضرورياً حتى لا يتمّ اختزال البعض في وضع الجلّاد، والبعض الآخر في وضع الضحيّة.
وكيف يمكن للأدب أن يساعدنا؟
– يمكنه أن يشكِّل أحد «الأسلحة الخارقة» التي تحدَّث عنها «إيمي سيزير»، شرط أن يكون قد تمَّ الاشتغال، بجدِّيّة، على مسألة تمثِّل الآخر. في رواياتي، أعمل كثيراً على أفكار الشخصيات، وحميميَّتها، وبعدها الكوني. لكن مجرَّد حقيقة أن القصّة تدور في إفريقيا يشكِّل، بالنسبة إلى العديد من القرّاء، عائقاً أمام تماهيهم مع الشخوص. يتعيَّن على الأوروبيين أن يتعلَّموا، من جديد، كيف يعيشون بوصفهم جنساً بشرياً ضمن أجناس أخرى.
ألم تخلِّف روايتك «Rouge impératrice» صدًى طيِّباً، ورشِّحت لجائزة «غونكور»، وهي الرواية التي تجري أحداثها في إفريقيا فيدرالية تتمتَّع بالرخاء وبالسيادة؟
– نعم، ولم أكن أتوقَّع ذلك، على الإطلاق. هذا يعني أننا يجب ألّا نفقد الأمل، تماماً، في أوروبا، وفي قدرتنا على خلق عالم مختلف. علينا، فقط، أن نطرح سبلاً للوصول إلى ذلك. كثيرون يرغبون في التغيير، لكنهم يجهلون الطريقة. وعلى الرغم من كلّ ما شهده التاريخ من عنف، نحن ما زلنا هنا. يمكننا أن نقرِّر خلق واقع مختلف، ثم إن الظروف تجبرنا على القيام بذلك. فنحن نعلم أن المناخ يتَّجه نحو مزيد من الاحترار، وأن الموارد محدودة. وسيتعيَّن على المناطق الأكثر اعتدالاً أن تستقبل الشعوب التي ستهاجر إليها. الناس لن يسلّموا أنفسهم للموت، دون أن يجرِّبوا حظَّهم في مكان آخر.
كثير من الناس يريدون عالماً مختلفاً، أيضاً، في مجال التسامح، وعلاقات هادئة بين الرجال والنساء، ويريدون الابتعاد عن إصدار الأحكام والأفكار النمطية. هل لدى شخصيّاتك ما تقدِّمه في هذا الشأن، أيضاً؟
– نعم. يمكن لأيّ شخص الشعور بهذا النوع من الغموض في داخله. نحن جميعاً مزدوجون بعض الشيء، كلّنا متعدِّدون. في ثقافة دول جنوب الصحراء الإفريقية، أو لنقل لدى قبائل (البانتو)، على الأَقلّ، يُعتَقد أن في داخل كلّ إنسان طاقات أنثوية وأخرى ذكورية. وأنا أسمع، اليوم، أن بعض الناس لا يريدون إلغاء الفئات المتعلِّقة بالنوع، فحسب، بل الفئات الجنسانية، أيضاً. شخصيّاً، لم أصل إلى هذا الحَدّ، ولكنني مهتمّة بفكرة تعدّدية الأنواع.
يمكننا، إذن، قراءة كتاب «أفروبيا» على أنه بيان سياسي. هل يغريك عالم السياسة؟
– لا. أنا أعرّف هذه المقالة بأنها تأمُّل سياسي. إن كتابة بيان أفروأوروبي ليست مسؤوليتي أنا، ولم يعد عمري يسمح بذلك… أنا شغوفة بالسياسة، لكنني لن أتمكَّن من الارتباط بفضاء وحيد. لديَّ انتماءات متعدِّدة، وأفضّل أن أُوجَدَ في مكان، أستطيع فيه العمل لصالح مواطنين قادمين من عدّة قارات.
في روايتك «Crépuscule du tourment»، تسأل إحدى الشخصيّات، وهي معالجة اسمها «سيسكو»، الشابّة «تيكي»: «ماذا تنتظرين من الحياة؟ ماذا تقدّمين للحياة؟». ماذا لو طرحنا عليك السؤالين كليهما؟
– ما أنتظره من الحياة هو أن تستعيد إفريقيا اعتبارها أمام نفسها؛ هذا ما أعمل عليه. فما إن تعيد اكتشاف طريقة أكثر إيجابيّةً للنظر إلى نفسها، فستتمكَّن من استعادة سلطتها، وستجد الطريقة التي تمارس، من خلالها، هذه السلطة. ماذا أقدِّم للحياة؟ الكثير من الفرح! أنا سعيدة جدّاً لوجودي هنا، وأتطلَّع بنفاد صبر إلى عيد ميلادي الخمسين.
حوار: سيليا هيرون، ترجمة: إلهام إد عبد الله أومبارك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الأصلي والمصدر:
«Léonora Miano L’Afrique doit se réhabiliter à ses propres yeux».
https://www.letemps.ch/societe/leonora-miano-lafrique-se-rehabiliter-propres-yeux