مازن أكثم سليمان: الشِّعر السُّوريّ في زمن الحرب

| 07 أبريل 2020 |
في العام (2015) أطلَقَ الشاعر والناقد السوري مازن أكثم سليمان (بَياناً شِعريّاً) بعُنوان (الإعلانُ التَّخارُجيُّ)، كما أطلَقَ بَياناً (شِعريّاً/ نقديّاً) بعُنوان (الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف – الانتصاليّة/ البينشِعريّة) في العام (2018). ويُعدّ النّاقد الوحيد (حتّى الآن) الذي كَتَبَ سلسلة دراسات نقديَّة (نظَريَّة وتطبيقيَّة) عن مَوضوعة الثَّورة والحرب في الشِّعر السُّوريّ، فضلاً عن قصائِدِهِ ونُصوصِهِ ومَقالاتِهِ ودراساتِهِ الفكريّة المُتنوِّعة في هذا المِضمار.
مازن أكثم سليمان حائز على دكتوراه في الدِّراسات الأدبيّة من جامعة دمشق (2015). بدأ بنشرِ الشِّعر والدِّراسات النَّقديّة منذُ العام (1999)، وله ديوانُ شِعرٍ صادِر عن «دار الفاضِل» بدمشق، في العام (2006) بعُنوان (قبلَ غزالة النَّوم)، وكتاب في الدِّراسات النَّقديّة صادر عن «دار موزاييك» للدِّراسات والنَّشر في اسطنبول، بعنوان (حركيّة الشّاغِلات الكيانيّة). نال جائِزة الطَّيِّب صالح العالَميّة للإبداع الكتابيّ، في دورتِها التّاسِعة (2019)، في (مَجال الدِّراسات النَّقديّة) عن مَخطوط كتابه المُعَنْوَن بِـ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها). نشَرَ عشرات القصائِد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديّة والفِكريّة..
نبدأ من كتابكَ النَّقديّ الجديد «حركيّة الشّاغلات الكيانيّة- مهيمنات شِعريّة في زمن الثَّورة والحرب في سوريّة (2011 – 2018)»، الذي صدر، حديثاً، عن «دار موزاييك» في إسطنبول، ويُعَدّ أوَّل كتاب نقديّ يعالج قضايا تتعلَّق بشعر الثَّورة والحرب. ما الأسس التي أسَّست عليها البحث؟
– تُمثِّلُ دراسات هذا الكتاب، التي كتبتُها في دمشق، ونشرْتُها خلالَ الأعوام المُمتدّة بينَ 2015 و2018، مَساراً من المَسارات الثَّقافيّة المُتعدِّدة التي عملْتُ عليها، والتي يتشابَكُ فيها مُستوى مُواكَبة أحداث الثَّورة السُّوريّة، والرَّبيع العربيّ، وتفحُّصِها، وتحليلِها، والتَّنظير لها، من جانبٍ أوَّل، معَ مُستوى مَشاريعي العامّة الإبداعيّة/ الفنِّيّة، والنَّقديّة، والفكريّة، بما هيَ خُطوط مُتراكِبة، مَعرفيّاً، من جانبٍ ثانٍ، إذ كانَ لابُدَّ لي من التَّصدِّي لمُغامَرة قراءة المُنجَز الثَّقافيّ السُّوريّ في حِقبة الثَّورة، لا سيّما ما يتعلَّقُ بالمُنجَز الشِّعريّ، على نحْوٍ خاصّ، وهيَ المَسألة التي نهَضَتْ لديَّ على بُعْدٍ تجريبيّ، على مُستوى النَّقد، تنظيراً وتطبيقاً، بما يتوازى ويتقاطَعُ -في آنٍ معاً- مع المُنتَج الشِّعريّ الذي كانَ ينتشِرُ ويَتنامى، مُواكِباً أحداث الثَّورة السُّورية، وتداعياتِها المُختلِفة، ومنها الحَرب طبعاً؛ لذلكَ، تبدو دراساتي لهذِهِ النُّصوص أشبه بمُحاوَلة إضاءة (بانوراميّة)، واكبَتِ اللَّحظةَ الشِّعريّة كما انفتحَتْ في تلكَ الحِقبة الثَّوريّة، إذ تكمن أهمِّيّة قراءة الشِّعر السُّوريّ في هذِهِ الحِقبة -كما أعتقدُ- في التَّأسيس النَّقديّ الضَّروريّ تأريخيّاً؛ أي: ترتبِطُ بأهمِّيّة تلمُّس الأبعاد (الفنِّيّة/ المَدرسيّة) لهذِهِ التَّجارِب الغزيرة جدّاً، بلا مُبالَغة، ومُحاوَلة وضْعِها في أُطُر مَفهوميّة قابِلة للانتظام المَعرفيّ، نقديّاً، وقد سعيْتُ، في هذِهِ القِراءات، إلى مُحاوَلة القيام بعمليّة سَبر نصِّيّ واسِع، وتأصيليّ، لـِ «حَرَكيّة الشّاغِلات الكَيانيّة» في هذا الشِّعر، وإلى أنْ أُصنِّفَ التَّيّارات السّائدة فيه، وأؤرِّخَ -فنِّيّاً- لاتّجاهاتها، مُفكِّكاً -قدْرَ المُستطاع- جُملة المَسارات، والمَرجعيات (المُهيمِنة) عليه، ومُقارِباً سِماتِهِ الرَّئيسة، بوصفِهِ حِقبةً قابلةً- من حيثُ المبدأ- للإحاطة المَنهجيّة، نقديّاً، والتَّبويب النَّظَري، فنِّيّاً وجَماليّاً، فضْلاً عن تلمُّس بعض المَلامِح التَّجريبيّة المُتشكِّلة فيه، بما يفتحُ الطَّريق عريضاً لمُحاوَلة استقراء آفاقِهِ المُستقبَليّة.
كيف يُقيِّم مازن أكثم سليمان المرحلة الشِّعريّة السُّوريّة في زمن الثَّورة والحرب؟
– تُمثِّلُ مُعاصَرةُ الشُّعراء للتَّحوُّلات التّاريخيّة الكُبرى، وفي مُقدِّمتها الثَّورات والحُروب، فرصةً نادرةً؛ كي يُقدِّموا شهاداتهم الشِّعريّة على عصرهم. فالشِّعرُ -في أحدِ مَفاهيمِهِ الحَداثيّة- هوَ تعبيرٌ عن روح كُلِّ عصرٍ جديدٍ، بلُغةٍ مُغايِرة، وهُوِيّةٍ فريدة، وجَمالٍ مُختلِف؛ لذلكَ، بقدر ما تبدو مُعاصَرةُ الشُّعراء للثَّورة السُّوريّة، وتحوُّلاتها المفصليّة الكبيرة، حدَثاً شِعريّاً عظيماً، على نحْوٍ خاصّ، تُشكِّلُ هذه المُعاصَرة مَأزقاً جَماليّاً، وفَخّاً فنِّيّاً بالِغَ الوُعورة، قد يُوقِعُ تخارُجَهُم الشِّعريّ فريسةَ المُباشَرة، أو الاستسهال، لا سيّما في ضَوء الإغواء العارِم، والطُّغيان الشَّديد الذي تُمارسُهُ اللّحظةُ الرّاهنةُ، بوَقائِعها الضّاغِطة على النُّصوص؛ لهذا، يحتاجُ الشّاعرُ السُّوريّ (الحقيقيّ/ الأصيل) إلى جُملة من الشُّروط المَعرفيّة، والفنِّيّة، والتَّجريبيّة، كي يُنجِزَ حُضورَهُ الجَماليَّ، شِعريّاً، ومن ذلكَ أنْ يَمتلِئَ امتلاءً حيويّاً برُوح المَرحلة العابِرة، من ناحيةٍ أولى، وبالزَّمن الكُلِّيّ، من ناحيةٍ ثانية، وأنْ يتزوَّدَ تزوُّداً جمّاً بمَعرفةٍ نظَريّة مُعمَّقة بالبُعد (التأريخيّ- الفنّيّ) للشِّعر السُّوريّ، والشعر العالميّ، وتيّاراتِهِما المُختلِفة في العُقود الأخيرة، على أقلّ تقدير؛ ليكونَ كلُّ ذلكَ أساساً صلباً للانطلاق نحْوَ مُجاوَزةٍ، يُبذَلُ من أجلها كُلُّ غالٍ ونفيس، وهيَ الأُمور التي تضَعُ الشّعراءَ (الحقيقيِّينَ/ الأصيلينَ) في تحدٍّ عميق، بوصفِهِم مُطالَبينَ بأنْ ينفخوا الرُّوحَ (الوجوديّة/ اللُّغويّة) الأصيلة في الشِّعر، وأنْ يَبعثوهُ صافِياً حُرَّاً، وأنْ يَستنطِقوا -جَماليّاً- أيَّ جديدٍ، وغائبٍ، ومَجهولٍ. وأظنُّ أنَّ الشُّعراء الذين حقَّقوا هذه المُجاوَزة، في مرحلة شعر الثَّورة والحرب، ما زالوا قليلي العدد، والأفضلُ أنْ أقولَ إنَّ هذه المُجاوَزة قد تحقَّقتْ في قصائد أو نصوص أو مقاطع بعينِها، لا في تجارب كاملة؛ لذلكَ ركَّزتُ، في دراساتي، على النُّصوص التي وجدتُها مُقنِعةً، نسبيّاً؛ سعياً منِّي إلى وضع معالم (حدسيّة/ كُلِّيّة) لتيّار مُستقبليّ قابل للتَّشكُّل؛ فإذا كانَ من المُمكن الحديث عن وجود إرهاصات وتجارب تُبشِّر بحقبة شِعريّة جديدة قادمة، فإنَّ المُهمّ الإشارة إلى أنَّها لم تنضجْ حتّى الآن، ولم تتكشَّفْ سماتُها المُستقرّة، بعد.
ما الإشكاليّات الإبداعيّة التي ظهرت في شعر الثَّورة والحرب في سوريّة، كما تعتقد؟

– تبدو لي أنَّ أيّة مُقارَبةٍ تحقيبيّةٍ لشِعر الثَّورة والحَرب، في سُوريّة، مُطالَبةٌ، في العُمْق، بالحَذَر والتَّحذير، في آنٍ معاً، من التَّعامُل مع مَوضوع هذا الشِّعر على أنهُ (غرَضٌ شِعريّ سِحريّ)، يُدخِلُ القصيدةَ، تلقائيّاً، ما إنْ تكونَ مَكتوبةً تحتَ عُنوان الثَّورة والحَرب، إلى جنّة الشِّعريّة، والجَمال، والمُجاوَزة. وأعتقد أنَّ مَوضوعة الثَّورة والحَرب قد باتَتْ -عندَ جيلٍ كامِلٍ مِنَ الشُّعراء- تُشبِهُ المُوضة الشِّعريّة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ لا اعتراضَ عليهِ، من حيثُ المَبدأ، غير أنَّ المَسألة أكثَر تعقيداً ممّا نظنُّ؛ ذلكَ أنَّ تحوُّلَ هذِهِ المَوضوعة، عندَ كثير من الشُّعراء، إلى ما يُشبِهُ (القِناعَ الشِّعريَّ)، قد غيَّبَ عدداً من القَضايا المَسكوت عنها، أو -رُبَّما- غيرِ المُفكَّر فيها، على أقلّ تقدير! ليسَ من المُبالَغة القول: إنَّ عدداً من شُعراء لحظتِنا الرّاهِنة قد وجدوا، في مَوضوع الحَرب، طوْقَ نَجاةٍ، يرأبونَ بهِ -كما يَعتقدونَ- صُدوعَ ضعفِ ذخيرتِهِم المَعرفيّة، والنَّظَريّة، ويُعوِّضونَ عن غِيابِ مَشاريعِهِم ذات الخُصوصيّة والتَّفرُّد، لا سيّما أنَّ بعضاً من هؤلاء لم يكونوا -أصلاً- قد خرَجوا، قبْلَ الثَّورة، من عباءاتِ الآباءِ الشِّعريّينَ. يُضافُ إلى حُضور هذا الجانب، أنَّ بعض الشُّعراء أضْحوا يَتهرَّبونَ من اتّخاذِ مَوقِفٍ سِياسيٍّ واضِح، بإغراقِ قَصائِدِهِم بمُفردات الحَرب اليوميّة، مُتفنِّنينَ في توجيهِ أبلَغِ اللَّعنات نحْوَ قسوتِها الأليمة، بما لا يُضِيفُ -إلى حدٍّ كبير- فَرْقاً (نوعيّاً- فنِّيّاً) على أيِّ كلامٍ اعتياديٍّ مُتداوَلٍ قد يذمُّ قُبْحَ الحَرب. لعلَّ أمثال هؤلاء يُسوِّغونَ غِيابَ المَوقِفِ السِّياسيِّ، بالحَديث عن شُموليّة المَوقِفِ الإنسانيِّ العامّ، وتَجنُّبهم مقتلَ أنْ تسقُطَ قصائدُهُم في المُباشَرَةِ السِّياسيّةِ، إلّا أنَّ أيّةَ مَعرِفةٍ بسيطةٍ بالاختلافِ الفنِّيِّ بينَ الشِّعر السِّياسيّ، وسِياسة الشِّعر، تُعرِّي دُفوعَهم المُتهافِتة هذِهِ، وتكشفُ انتقالَهُم من تَحاشي الوُقوع في مُباشَرَةٍ ما، كما يدَّعُونَ، إلى الوُقوع في نمَطٍ آخَر من المُباشَرَةِ المُحاصَرَةِ بضغطِ الرّاهِنِ، حيثُ يتحوَّلُ مُعْجَمُهُم الحَربيّ إلى عدّة قصديّة مُسَبَّقة، ومَجموعة مُنتقاة من الآليّات التِّقنيّة التِّكراريّة، التي يُحضِرُ بها هؤلاء الشُّعراء الحَرْبَ -وصْفِيّاً- من الخارِج، مُتمركزينَ عليها، في مُطابَقةٍ تَخلو من بُلوغِ أيِّ كشْفٍ يوميّ، أو رُؤيويّ مُغايِر، وفي ظلِّ غِيابٍ فادِحٍ للوُجود الجَماليّ، بما هوَ بُؤرة الدَّهشة، والتَّباعُد، والاختلاف، كما يُفترَضُ أنْ يكونَ.
كيفَ يُمكن تحقيق التَّوازن الشِّعريّ بين الموقف السِّياسيّ والموقف الفنِّيّ؟
– تحدَّثتُ، في غير مُناسَبة، عن إيجاد دلالات جديدة لمفهوم «الالتزامِ الشِّعريِّ» الذي لا يعني في -رأيي، بتاتاً- تقديم خِطابٍ مُباشَر في القصيدة؛ فهذا وعيٌ تبسيطيٌّ يَنفي -حتْماً- شِعريَّتَها، وقد قالتِ العرب -قديماً- إنَّ أعذبَ الشِّعرِ أكذَبُهُ؛ لذلكَ، لابُدَّ من الإشارَةِ إلى أنَّ نسبةً لا يُستهانُ بها ممّا يُكتَبُ -الآنَ- تحتَ عُنوان شِعر الثَّورة والحَرب، يغلبُ عليه، من حيثُ المَبدأ، الجانبُ التَّسجيليُّ الانطباعيُّ، الذي يَبقى -إلى حدٍّ بعيد- حبيسَ درجةِ الصِّفر في الكتابةِ، أو أسيرَ (صوت/ ضَجيج) التَّعبِئَةِ الخِطابيَّةِ القاصِر فنِّيّاً، فضْلاً عن عجزِ نسبةٍ لا بأسَ بها من القَصائِدِ، عن تحقيقِ الانتقالِ المُجدي من التَّجرِبةِ الذّاتيَّةِ الخاصّة، إلى التَّجرِبةِ الإنسانيَّةِ العامّة. صحيحٌ أنَّ الثَّورات والحُروب تَجارِب عالميّة مُشترَكة. لكنْ، ما الذي تُضيفُهُ قصيدةٌ لا تخرجُ عن مُحاكاةِ السَّطحِ الخارِجيِّ للحدَث، من دونِ أنْ تتمكَّنَ من تحويلِ مادّةِ الحَرب الأوَّليّة، بوصفِها إقامَةً في الحُضور، إلى فائِضِ مَعنًى، بوصفِهِ اختراقاً للغِياب؟!؛ وهوَ الأمرُ الذي يَتحقَّقُ بالتَّضافُر الوُجوديّ بينَ التَّجرِبة والتَّجريب، عبرَ مُكابَدَةٍ عميقةٍ، بُؤرتُها جدَليّة الذّات والمَوضوع، ائتلافاً أو تنافُراً، وهدفها بلوغ الخُصوصيّة الجَماليّة نصِّيّاً؛ إذ من المُفترَضِ -نظَرِيّاً، وفعْلِيّاً- أنْ يَتَولَّدَ الحيِّزُ الفنِّيُّ، وأن ينموَ داخِلَ النَّصّ، لا أنْ يكونَ سجيناً لما هو مُسَبَّق في العالَم الوقائعيّ، ذلكَ أنَّ إحدى قَواعِدي النَّقديّة الأساسيّة -في اعتقادي- تقولُ: ليسَ المُهمّ -نسبيّاً- مَوضوع القصيدة؛ إنَّما الكيفيّة (الوُجوديّة/ التَّخييليّة) التي تنبسِطُ بها أساليب وجود هذا المَوضوع في عالَم القصيدة التَّخارُجيّ، وكيفَ يَنبغي لهُ أنْ يَفتتِحَ أُفُقاً جَديداً، يَدعوهُ جادامير: «الزِّيادة في الوُجود»، ويَدعوهُ «ريكور» «شيءُ النَّصِّ غير المَحدود». إنَّ هذا العالَم الشِّعريّ الجَديد هوَ: ما يَسْمَحُ لمَفهوم «الالتزام» في الشِّعر ببلوغِ غاياتِهِ الفنِّيّة المُثلى، عبرَ الوَفاء للمَوقِف الفكريّ والسِّياسيّ، من ناحية، وللمُستويات (الوُجوديّة- الجَماليّة)، من ناحية ثانية؛ لتصبحَ القصيدةُ الرّاهِنة -على هذا النَّحو- قصيدةً مُعاصِرةً للثَّورة والحَرب، بقدْرِ ما هيَ قصيدة تَحتفي بأصالَتِها؛ تِبْعاً للجدَل الخَلّاق بينَ الزَّمن الخَطِّيّ الأُفُقيّ، وزَمانيّة تِكرار الاختلاف؛ ليكشفَ هذا التَّوتُّر الحُرّ، وتلكَ المُغامَرة الجَمّة، الانبثاقَ الجَديدَ لعالَم الاختلاف، والغِياب، والمُجاوَزة الدّائِمة نحْوَ المَجهول؛ لذلكَ، لا أعني بمَفهومُ (الالتزام الفنِّيّ)، نهائيّاً، تكراراً لمَفهوم (الالتزام) التَّقليديّ، لا سيّما في النَّظَريّات الأيديولوجيّة، الواقعيّة والماركسيّة، وغيرِها؛ إنَّما أعني تحقيقَ التَّوازنِ (الفَنِّيّ/ الجَماليّ)، الذي تكونُ الأولويّة فيه لشِعريّة الوُجود في مُنفتَحِ عالَمٍ شِعريٍّ مُغايِرٍ، من دون أنْ يمنعَ ذلكَ إمكان بثِّ المَوقِف الفكريّ، والسِّياسيّ، فَنِّيّاً وجَماليّاً؛ أي بوصفِهِ عُنصُراً يُبطِّنُ الأبعادَ الإبداعيّةَ، ولا يُوقِعُ النَّصَّ في الخِطابيَّةِ، أو في التَّقريريَّةِ، أو في المُباشَرَةِ المَذمُومَةِ.
هل نستطيع أن نستنتج، من إجاباتُكَ السّابقة، أنَّكَ تنفي ظُهور حساسيّة شِعريّة جديدة في الشِّعر السُّوريّ في زمن الثَّورة والحرب، أو ولادة تجارب شِعريّة مُؤسِّسة وكبيرة؟
– لعلَّ مَسألةَ وِلادَةِ حَساسيَّةٍ شِعريَّةٍ جَديدة، في شِعر الثَّورة والحَرب في سُوريّة، مَسألة مَفهوميّة مُركَّبة كما أظنُّ؛ ذلكَ أنَّ هذِهِ الحَساسيّة الجَديدة المُنتظَرة، والمَرغوب فيها، لا تتولَّدُ -فقط- بحُضور مُفردات الثَّورة والحَرب، وتَراكيبِها، ومَجازاتِها، وسَرديّاتِها في عَوالِمِ النُّصوص، كما يذهبُ بعضُهُم؛ بل في مَدى قُدرة هذِهِ العَوالِم الشِّعريّة على مُجاوَزةِ المُطابَقاتِ الوقائعيّةِ المُسَبَّقةِ، بتحقيقِ (تناصّاتٍ) وُجوديَّةٍ/ فَنِّيَّةٍ نوعيَّةٍ، تُنتِجُ انزياحاتِها الجَديدة التي تُغنِي الحَدَث، وتُضيفُ إليهِ فائِضاً (وُجوديّاً- جَماليّاً) خاصّاً، ولا تكونُ عِبئاً عليهِ؛ أي: بوصفِ هذِهِ العَوالِم الشِّعريّة تمتَصُّ الحَدَثَ، ثُمَّ تَقترِحُ أساليبَ وُجودٍ مُغايِرةٍ، لَمْ تنبسِطْ شاغِلاتُها الكَيانيّة -من قبْلُ- على هذا النَّحْوِ، كما هوَ مُفترَضٌ. وهيَ المَسألةُ التي يُمكِنُ تتبُّعها بحذَرٍ في بعضِ التَّجارِبِ، لا سيّما إذا أسَّسنا اعتقادَنا المَبدئيَّ بحتميَّةِ وِلادَةِ الجَديدِ والمُغايِرِ على أدبيّاتِ فكرِ الاختلافِ الوُجوديِّ اللُّغويِّ؛ لذلكَ يُمكِنُ القولُ: إذا كانَتْ هذِهِ الحِقبة تُشيرُ إلى انبثاقٍ واضِحٍ ومَلموسٍ لظاهِرَةٍ شِعريَّةٍ عَريضَةٍ، ذات تَيّارات ومَرجعيّات مُتعدِّدة، وإذا كانَ لا مناص من الكلام -بالمَعنى التّاريخيّ- عن جيلٍ شِعريٍّ، يُوصَفُ بأنّهُ جيلُ الثَّورة والحَرب، فإنَّ مَسألةَ التَّحقيب الفَنِّيّ، وتعيين الإضافات النَّوعيّة التَّراكُميّة، أو المُؤسَّسة على قطيعةٍ ما، لا تزالُ بحاجةٍ إلى مَزيدٍ من الجُهد النَّقديّ النَّصِّيّ الأصيل، لا سيّما في ظلِّ الكمِّ الهائِلِ الذي يُضَخُّ مِنَ الشِّعر، ويصعبُ حصرُهُ، ففي سُوريّة تُوجَدُ -إلى جانِبِ الجُيوش المُتصارِعة- جُيوشٌ مِنَ الشُّعراء، والشّاعرُ الواحِد نفسه، قد تُصَنَّفُ نُصوصهُ ضمنَ أكثَر من اتّجاه أو تَيّار، فضْلاً عن أنَّ المَسألة -في أحدِ – هيَ مَسألة وثيقة الصِّلة بنظَريّة النَّقد، فأيُّ بحْثٍ يَحتفي بالبُعد (الجينيالوجيّ) لشِعر هذِهِ المَرحلة، عليهِ أنْ يتذكَّرَ، دائِماً، أنَّ الحقيقة -وُفْقَ نيتشه- تُخفِي خِداعَها بإظهارِهِ في المَجاز؛ فالوُجودُ أساليب وكيفيّات لخِداعٍ مَجازِيٍّ، تُخلَقُ فيهِ القيَمُ، وتَتولَّدُ في فضاءٍ تفاضُليّ، تَتصارَعُ فيهِ القِراءاتُ والتَّأويلاتُ؛ لذلكَ، نجِدُ هيدجر يعتقدُ أنَّ أيَّ تفسيرٍ للنَّصِّ، سيكونُ -بالضَّرورةِ- تفسيراً مُخالِفاً حتّى لفَهْمِ مُؤلِّفِهِ؛ الأمرُ الذي يَعني -في مُستوىً مِنْ مُستوياتِهِ- ضرورةَ أنْ تقبضَ المُقارَبةُ النَّقديَّةُ مِنْ جِهَتِها -أيضاً- على المَجهولِ والمَسكوتِ عنهُ وغيرِ المُفكَّرِ فيهِ في العَوالِمِ النَّصِّيّةِ. إنَّ أيَّ حديثٍ أصيلٍ عن وِلادةِ شِعرٍ مُغايِرٍ، يَنبغي أنْ يَلتفِتَ إلى عامليْن مَوضوعييْن، لا يُمكِنُ إغفالُهُما: أوّلهُما عامِلٌ زَمانيٌّ يَتعلَّقُ بحاجةِ الشِّعرِ إلى «مَسافَةٍ زَمَنيَّةٍ»، تُبعِدُهُ عن الانفعاليّة المُباشَرة بالحَدَث؛ كيْ يَستطيعَ تمثُّلَهُ فَنِّيّاً، ولا تعني المَسافَةُ الزَّمَنيَّةُ -هُنا- مُرورَ وقتٍ طويل، فحسب؛ بل تَعني -أيضاً- قُدرة الشُّعراء الخَلّاقة على توليدِ مِثْلِ هذِهِ المَسافة، تأويليّاً، وهُمْ ضمنَ الحَدَثِ نفسِهِ، وهذا ما يتطلَّبُ نمَطاً من الدِّرْبَةِ الاستثنائيَّةِ النّادِرَةِ. والعاملُ الثّاني يَتعلَّقُ بالجانِبِ المَكانيِّ؛ ذلكَ أنَّ نسبةً كبيرةً مِنَ الشُّعراءِ السُّوريِّينَ قدِ انتشَروا، خلالَ السَّنواتِ الماضية، في أصقاعِ العالَم، وباتُوا يُقارِبونَ الحَدَثَ السُّوريَّ مِنْ بُعْدٍ، فضْلاً عن اختراق تَجرِبة الغُربة، والبيئات الجَديدة عَوالِمَ قصائِدِهِم، وهذا ما يفتَحُ البابَ واسِعاً أمامَ بَحْثٍ مُطَوَّلٍ عن التَّحوُّلاتِ الهُوِيّاتيَّةِ في أشعارِهِم. ثمَّةَ -أيضاً- مَسألة لابُدَّ مِنَ الإشارةِ إليها، وخَوضِها، بكُلِّ عنايةٍ وشَغَفٍ، عندَ أيَّةِ مُحاوَلةٍ لتلمُّسِ مَلامِح ظُهور حَساسيّة شِعريّة جَديدة في شِعر الثَّورة والحَرب في سُوريّة، وهذِهِ المَسألة تكمنُ في ضَرورة أنْ يتتبَّعَ النّاقدُ المُتمعِّنُ، مَدى الانزياح المُتحقِّق في عَوالِم النُّصوص، مَوضوعيّاً، وفَنِّيّاً؛ بفعلِ انتقالِ عددٍ كبيرٍ مِنَ الشُّعراء من سَطوة القُيود الكابِحة، التي كانَتْ تُهيمِنُ بها سُلطة الخَوف على مُناخات نُصوصِهِم سابقاً، إلى تَحسُّسِ تَجرِبةِ الحُرِّيَّةِ الغَنيَّةِ والجامِحَةِ، ووُلوجِ فَضاءاتِها الجَديدة على ذَواتِهِم؛ فبعدَ أنْ تمكَّنَ الحَدَث السُّوريّ من تَمزيقِ الاستعصاءِ التّاريخيِّ السِّياسيِّ، والاستعصاء الاجتماعيِّ، استطاعَ عددٌ مِنَ الشُّعراء أنْ يُحطِّموا حاجِزَ الخَوف، مُندفعينَ بخُطواتٍ جَماليَّةٍ (نسبيَّةٍ) نحْوَ استنطاقِ ماهيَّةِ التَّغييرِ الحاصِلِ، واكتناهِ رُؤى المُستقبَلِ القادِمِ، على اختلافِ دَلالاتِ هذِهِ الرُّؤى. وفي ضَوْءِ بدْءِ تَسلُّلِ تأثيراتِ هذا التَّحوُّلِ الحاسِمِ إلى النُّصوص، أقولُ، من حيثُ المَبدأ، إنَّ ما يهمُّ في هذِهِ المَرحلة الزّائِغة، هوَ أنْ تتجذّرَ تَجارِبُ شِعْرِ الثَّورةِ والحَربِ في سُوريّة، وأنْ تتنقّى، وتَنضجَ -جَماليّاً- بمُرورِ الزَّمَنِ، وتَراكُمِ خِبْراتِ الدِّرْبَةِ، ومُكابَداتِ الفعلِ الفَنِّيِّ. ومِنَ المُفيد أنْ أتذكَّرَ، في هذا السِّياق «أندريه جيد» الذي لم يكُنْ يهتَمُّ -كما كانَ يُردِّدُ- بأنْ يكونَ الشّاعرُ كبيراً، بقدْرِ ما يهمُّهُ أنْ يكونَ صافِياً..!.
حصل كتابكَ «انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بين مطابقات العولمة واختلافاتها» على جائزة الطَّيّب صالح العالميّة للإبداع الكتابيّ، وذلكَ في مجال الدِّراسات النَّقديّة في العام (2019). ماذا تعني لكَ هذه الجائزة؟ وكيفَ تنظر إلى واقع الجوائز العربيّة؟
– تُسعِدُ الجوائز النّاس كثيراً، وتُمثِّلُ نوعاً من المُكافآت الجميلة على جهودهم في المجالات كافّة، ويظهرُ هذا الأمرُ، بجلاء، في الجوائز الأدبيّة والفكريّة، فبغضّ النَّظَر عن الانتقادات التي تُشكِّكُ في مصداقيّة نسبة كبيرة من الجوائز، وفي خلفيّاتِها السِّياسيّة أو الثَّقافيّة (ومن هذهِ الاتِّهامات ما هو وجيه)، تبقى الجوائزُ تقاليد حضاريّة محمودة؛ لانطوائِها على إشادة مَعنويّة وإشادة مادِّيّة بالمُبدعين؛ فهيَ تُمثِّل دافعاً حقيقيّاً لهُم، وحافِزاً كبيراً كي يستمرُّوا في بذل المَزيد من الجُهود؛ سعياً إلى التَّقدُّم والتَّطوُّر نحو الأفضل. من جهتي، أنا سعيدٌ بفوزي بجائزة الطَّيِّب صالح العالَميّة للإبداع الكتابيّ؛ لمَا تتمتَّعُ بهِ من سُمعة حسَنة، وصدقيّة رفيعة، ورمزيّة اعترافٍ لهُ وزنُهُ الحقيقيّ، لا سيّما أنَّها جائزة تُحاوِلُ أن ترتقي إلى المُستوى الذي يستحقُّهُ اسم كاتب عالَميّ كبير، شرَّفَ العرب جميعاً، كالطَّيِّب صالح. وأرى -في هذا المنحى -أيضاً- أنَّ هذه الجائزة تُساهِمُ (وبعض الجَوائِز العربيّة القليلة الأُخرى)، يوماً بعدَ يوم، في تشييد أصيل للفضاء الثَّقافيّ العربيّ، مُعمِّقةً تقاليد التَّفاعُل العربيّ البنّاء، والمُنفتِح، في الوقت نفسِهِ، على العصر والعالَم. وفضلاً عن ذلكَ، قلتُ، في حوارٍ سابق، أنَّ وجود جَوائِزَ تختصُّ بالدِّراسات النَّقديّة، هوَ عمل خلاّق يخدمُ الطُّموح التَّكامُليّ بينَ الفعل الإبداعيّ والفعل النَّقديّ، وهي المسألة التي تساعد النَّقدَ على مُواكَبة الإبداع، ورأب الثَّغرات العربيّة المُعاصِرة في هذا الإطار. وأُشيرُ، في السِّياق نفسه -أيضاً- إلى الحاجة الماسّة -عربيّاً- إلى تقاليد أصيلة تُرسِّخُ اهتمام رأس المال بالثَّقافة والمُثقَّفين، ورعايتِهِم، من دون أنْ يكونَ ذلكَ على حساب استقلاليّة المُثقَّف، وحُرِّيّة كلمتِهِ ورأيِهِ.
هل استطاعَ النَّقد العربيّ أن يرتقي إلى المستوى المطلوب، في ظلّ الزَّخم الكبير من الإصدارات الإبداعيّة؟
– ما زالَ النَّقد العربيّ فئويّاً، للأسف، وتتعدَّدُ دلالة الفئويّة في هذا السِّياق، لكنَّ جميع الدَّلالات تلتقي في فكرة كبح إمكانات النَّقد، وتقليص حُضوره الفعّال والأصيل. وأعتقدُ أنَّ هذهِ القضيّة شديدة التَّراكُب والتَّعقيد، وتعودُ جذورُها إلى جدليّات النَّهضة العربيّة والصِّراع العنيف بين طرفَيْ ثُنائيّة (الأصالة/ التُّراث) و(المُعاصَرة/ الغرب)؛ إذ لا أظنُّ أنَّ هذه الجدَليّة المُمزَّقة والمُمزِّقة، في آنٍ معاً، قد انتهتْ آثارُها بعدُ، إنْ لم أقلْ إنها ازدادتْ تأثيراً بأقنعةٍ جديدةٍ بعدَ ثورات الرَّبيع العربيّ!. وأستطيعُ، في هذا السِّياق، أنْ أقترِحَ فكرةَ تأصيل تخلُّف النَّقد العربيّ عبرَ تفكيكِهِ، انطلاقاً من تخلُّف الجامعات العربيّة وبيروقراطَيّتِها، وفقدانِها الاستقلاليّةَ، وإهمالِها البحثَ العلميّ، ولعلَّ الذِّهنيّة المُحافِظة الحاكِمة سياسات الجامعات، وعقليّة كوادرها، تُمثِّلُ صورةً جليّة عن الجذور الخطِرة لمُكابَدات النَّقد العربيّ، إنْ كانَ ذلكَ مُرتبطاً ببنيةِ الجامعةِ نفسِها، أو كانَ ذلكَ مُرتبطاً، على نحْوٍ أعمَق وأشمَل، بصراع الثُّنائيّات بينَ الماضي والحاضر. وقد قلتُ، من قبل، إنَّ هُناك إشكاليّة مَنهجيّة في المسألة، وأقولُ الآن: رُبَّما هيَ إشكاليّة وجوديّة، أيضاً؛ فمن أهمّ عَوامِل عدم صياغة حركة نقديّة واضحة المَعالِم -عربيّاً- تنعكسُ أصداؤها على الجامعة، أو تخرجُ من الجامعة نفسِها، يعودُ -أيضاً- إلى صراع المَرجعيّات المَعرفيّة بين المُثقَّفين والنُّقّاد والأكاديميِّين، وهو صراعٌ لهُ بُعد تقنيّ بحت، وبُعد أيديولوجيّ عنيف، ويُؤدِّي -تلقائيّاً- إلى عدم العمَل إلى حدٍّ مُؤثِّر؛ لا في توظيف نشاط كُلّ مجموعة ذات مرجعيّة واحدة (أو الاستفادة)؛ كي تُواكِب أسئلة العصر العربيّ الرّاهن المُلحّة والمُباشَرة، ولا في مدّ جُسور التَّفاعُل مع المجموعات المرجعيّة المُتنوِّعة، بدلاً من التَّناحُر والإقصاء المُتمركزَيْن على وَحدة الأُحاديّة والنَّرجسيّة والشَّخصنة؛ إذ أعتقدُ أنَّنا ما زلنا نفتقدُ إلى ثقافة العمَل الجَماعيّ إلى حدٍّ كبير، للأسف، وأكثر ما يُظهِرُ هذا العيبَ (الذي يكادُ أنْ يُصبِحَ عيباً بنيويّاً، إنْ لم يُواجَه مُواجهةً عاجلة وشاملة) هو أنْ يبدأ كُلّ مُثقَّف أو ناقد أو مُفكِّر مشروعَهُ من الصِّفر، مُتجاهِلاً، (إنْ لم أقُلْ مُستهتراً ومُقلِّلاً) من قيمة المشروعات العربيّة التي سبقتهُ، أو التي تُعاصِرُهُ. وهكذا، ما نزالُ ندور في حلقةٍ مفرغة، حيثُ يُقيمُ كُلّ مُثقَّف في جزيرتِهِ الخاصّة، ولا ينهضُ، عندنا، مُنجَزٌ معرفيّ تراكُميّ أصيل، وقابل للبناء عليه نحْوَ المُجاوَزة المُستمرّة.
تتنقَّلُ بينَ الشِّعر والنَّقد. أين تجد نفسكَ أكثر؟
– ليسَ عندي حُكم قيمة تفضيليّة (بالمَعنى المعرفيّ العامّ) لمصلحة حقل أو جنس، على حساب الحقل أو الجنس الآخَر؛ فإلى جانب وَحدة موقفي (الكيانيّ/ الكُلِّيّ) في أيِّ نصّ أكتبُهُ، أُصرُّ -من الوجهة العمَلانيّة- على الخُصوصيّة التَّعدُّديّة لكُلّ حقل أخوضُ غماره، نظَريّاً وإجرائيّاً. وفي جميع الأحوال، يبقى لديَّ -أيّاً كانَ عمَلي الكتابيّ- همٌّ ثقافيّ، وهَمّ وجوديّ جامعَيْن، فضلاً عن أنَّ تقاطُع مَسارات العمَل يُفيد توالُد الأفكار والرُّؤى، وتفاعلها بينَ جميع الحقول، عبرَ عمَلٍ مُتوازٍ، نوعيّاً، يتقدَّم هُنا أو يتأخَّر هُناك. إنَّ جمعي الكتابةَ في حقلَيّ الشِّعر والنَّقد يرتبطُ -مبدئيّاً- بآليّة العمَل نفسه، والتي تفرضُ -تجربةً وتجريباً- أدواتِها ومُناخاتِها، في كُلّ مرّة تنفتِحُ فيها كينونة النَّصّ، فأنا أنظرُ إلى النَّصَّ -أيّاً كانَ جنسه- بوصفِهِ عالَماً أبسطُ أساليبَ وجودي في فَجوتِهِ، بكُلّ ما ينطوي عليه مُصطلَح (العالَم) من معانٍ ودلالات، وبقدر ما تتوازى، عبرَ خُصوصيّة النَّواحي الجدَليّة والإجرائيّة، في فعل الكتابة، الأجناسُ والحقولُ، تتَّصلُ، في الوقت نفسه، بأنماطٍ مُتراكِبَةٍ من التَّفاعُل والتَّقاطُع، حيثُ يُؤثِّرُ كُلّ من الشِّعر والنَّقد بالآخَر، ويتأثَّرُ بهِ، ويُشكِّلُ رافِداً خلفيّاً أو بطانة تراكُميّة -معرفيّاً- في عمَليّة التَّخليق؛ وهي المسألة التي تؤدّي إلى بسط أساليب الوجود، بما تنطوي عليه من أفكار ودلالات، والتي قد تتقدَّم -نوعيّاً، هُنا- لتتأخَّر هُناك، ثُمَّ بالعكس.. وهكذا دواليك، ما دامَ سُؤالا الشِّعر والنَّقد (وغيرِهما) سُؤالَيْن مُتكامِلَيْن في مَشروعي؛ لذلكَ لا أستطيعُ أنْ أُقدِّمَ الشّاعر عندي على النّاقد أو العكس، ويبقى الحُكم بخصوص الأفضل بينَهُما منوطاً بآراء المُتلقّين، ومَفتوحاً على خبرة الزَّمن، ورهانات المُستقبَل.
لمن تقرأ، حالياً؟، وهل من مشاريع جديدة لديك؟
– يفرضُ عليَّ -الآن- عمَلي النَّقديّ على كتابَيْن؛ أحدُهُما في الشِّعر الجاهليّ، والثّاني في الشِّعر الحديث، قراءةَ مَصادِر ومَراجِع مُحدَّدة في هذهِ المجالات، فضلاً عن القراءات التي يفرضُها عليَّ تحضيرُ موادِّي الصّحافيّة، ومقالاتي.
لديَّ مشاريع ثقافيّة، حاليّاً، عدَّة، فضلاً عن مجموعة مشاريع مُستقبليّة، وهيَ تتعلَّقُ بالشِّعر والنَّقد ونظَريَّتِهما، فأنا أُعِدُّ أكثر من ديوان شِعريّ، وكتاب نقديّ وتنظيريّ ضمن خطوط عامّة أسيرُ عليها، كما أُتابعُ إنضاج مشروع البَيانات (الشِّعريّة/ النَّقديّة) الذي بدأتُ فيه في العام (2015) عبرَ أكثر من مسار وأكثر من فكرة أدرسُها، وأعمَلُ على بعضِها، ولا أستطيعُ ضبطَ الأمور بدقّة تامّة، زمنيّاً، فالأمرُ منوطٌ بحجم الإنجاز والتَّوفيق والمُواظَبة، مع أمَلي بأنْ أصلَ إلى ما وضعتُهُ نصبَ عينيَّ.