ما أراه من النافذة

| 13 مايو 2020 |
أنظر من النافذة المُطلّة على البحر والمنبسطة فوقها السماء، فلا أرى سوى العصافير والطيور المختلفة. الفضاء في زمن الحَجْر الآن ملك لها، تطير جماعات جماعات بلا حذر ولا خوف. ترفرف وتتلاعب وتغني كما يحلو لها. تقدِّم عروضاً رائعة مبتهجة بحالها.
لم يعد كلّ هذا الفضاء يتّسع لطائرةٍ واحدة. والسماء للمرّة الأولى في حياتي بلا طائرات ولا ارتجاجات عبور فوق شقتي. تفتح رئتيك لهواءٍ نقيٍّ وشفَّاف، لم تتنفّسه منذ زمنٍ بعيد. فلقد انخفض التلوُّث بنسبة كبيرة في بيروت وسائر المدن المكتظة بالأنفاس ومخلَّفات المصانع ودخان البنزين وزحمة السير الخانقة.
تحاول أن تتنفّس بدون انقطاع، فأنت أنت بلا كمامة تتنشّق هذه النعمة المفقودة. فهذا الجو النقي بسمائه الربيعيّة، منذور الآن لرذاذ الكورونا المجهول الإقامة والهويّة. فلا يسعك إلّا أن تكتفي بصمت الشارع، بهذا القدر انمسح أيضاً على أزقّة مغلقة بواجهات مظلمة وبوابات حديد.
وحدي في شقتي. وصيامي عن استقبال الضيوف قديم وراسخ. إنه التباعُد الاجتماعيّ أصلاً في البيت فقط. لكن هناك في المقابل، عند السواد الأعظم، حجْر عائلي. تباعد عمومي وتقارب خصوصي. وهذه القاعدة تجدها بين الدول والشعوب. تضامن كبير لمواجهة الكورونا، ولكن في الوقت ذاته، يغلق الجميع الحدود على الجميع. إنه الحظر الملياري غير المسبوق. إنها المرّة الأولى في التاريخ التي يعيش العالم فيها عزلاً كاملاً. ومفارقة المفارقات أن هذا الفيروس لم يوفر الأغنياء ولا الفقراء، ولا بين دولة وأخرى. الكلّ في الكارثة نفسها. إنها تراجيديا بقسماتٍ عبثيّة!
العالم مصاب بحمى الفراغ والتوتُّر والخشية. هل يدفع هذا الفيروس إلى إعادة الإنسان في هذه التناقضات الكونية إلى مخزوناته الإنسانيّة أم أنها مرحلة كغيرها من المراحل التي عرف فيها البشر أوبئة قاسية وشرسة وقاتلة أيضاً؟ لا. ينتابني الإحساس بأن العالم بعد الكورونا سيكون حتماً غير ما قبله.
أتأمّل من النافذة وأفكِّر. أرتعد وأصاب بالحزن. عائلات رمت كلابها وقططها بالآلاف من البيوت إلى الشوارع بعدما شاع خبر أنها تنقل الكورونا للبشر، ولا شكّ أن مصيرها الموت. وما آلمني أكثر أن مجهولين في مناطق عديدة في لبنان دسّوا السم للكلاب ليتخلّصوا منها. أيُّ إجرام أفظع من هذا؟
أفكِّر أن الحَجْر الصِّحيّ في المنازل يتيح فرصةً ثمينة في استرجاع العلاقة شبه المنقطعة بين الأهل والأولاد. من مثل أن يتعرَّف الواحد من الناس، وخاصّةً الآباء على ابنه وابنته اللذين لا يعرف عنهما شيئاً تقريباً. يمكن للأزواج والزوجات أن يستفيدوا من هذا الحَجْر مع بعضهم البعض لتوثيق العلاقة بينهم، وفهم بعضهم بعضاً أكثر، والمشاركة في أمورٍ كثيرة، لكن للأسف تعنيف الزوجات تكاثر إلى حدٍّ مرعب، وهناك حوادث قتل حصلت. فالمرأة «مكسر عصا» أو «كبش محرقة» في الحياة العادية، فكيف في حال الأزمات؟ يا للوجع من كلّ ذلك!
أكاد لا أصدِّق أن أشياءً كثيرة في العالم باتت أشبه بديكور مسرحي خالٍ من الحياة.
الإنسان لم يعد نفسه. صار كائناً مدجَّجاً بقفّازاتٍ من النايلون، وبكمامات تخفي نصف وجهه. إنه الخوف من الآخر. أفكِّر وأفكِّر بأن الشارع حين يخلو من الآخر يصبح أكثر طمأنينة. لكن هذا الخوف يتضاعف حين أتمنى أن أرى أمامي قطة أو كلباً أو أي حيوانٍ آخر. أحتاج وجود الآخر من أي جنسٍ كان.
يعتريني حين أحدِّق في عمق الأفق ما يشبه صخب المشاعر والانفعالات المُباغتة. أروح وأمشي في البيت. ما أصعب ألّا ترى ما يجب أن يُرى، ألّا تسمع ولا ترى دعساتك وأنت قريبٌ منها. وما أجمل أن تنهض صباحاً وتتأمَّل البحر لتهدهد لروحك وتمسح الغبار عن فوضى أحاسيسك من خوفك من الإصابة بالكورونا. ثمَّة فرق بين العزلة الاختياريّة وبين الحَجْر الطوعي. أفكر أن الأمر ربَّما أشبه بالعبودية الطوعية أو المفروضة. أضيع وأتيه وأنا داخل بيتي، وأشعر أنني محبوسة داخل نفسي. كأني وسط نار في محبس حولي. هذا الحَجْر الطوعي لا بد منه، لكنه الحبس الحقيقي. أستعيد جلساتي في المقهى الذي اعتدت الكتابة فيه خلف النافذة المُطلة على الشارع. أشعر أن الخروج إلى فضاء الشارع قد يشفيني من كلّ هذا الخوف والحزن على البشريّة والغضب الجاثم في صدري. أصل إلى الباب، ثم أنكفئ وأتوارى إلى الداخل، إذ يتراءى لي أن الكورونا ينتظرني ليصيبني، فأشعر بأني سأفقد وعيي.
صعب ألّا يكون لك منفذٌ إلى مكانٍ طلق لا تزنّره جدران ولا سقف. سجين في صندوق يضغط على كلّ جهاتك. أرتعد من الكورونا ومن السجن. ثم أروح أبحث عن قبس ضوء يعيد إليَّ الطمأنينة، على مزاج يعينني على ما يحدث هذه الأيام السود التي يكابدها كلّ مَنْ يعيش على هذه الأرض. زمن الكورونا. أغمض عينيّ في صندوقي الكرتوني وأروح أسير على طريق مفتوح، طريق في واقع الحال لم أعرفه سابقاً: أستعين بمخيلتي لأقاوم خوفي وسجني. فلها ألف جناحٍ وكلّ أجنحتها مرصودة لي. ربَّما كانت تكاد تكون النعمة الأكرم في حياتي. أستعين بها، فأرى خوفي ينكمش مثل فأرٍ ويتراجع. أحاول جاهدة أن أسمع صوت دعساتي في بيتي ثم يغلبني الظنُّ أنها صوت دعسات آخرين فأشعر بالأسى. يُخيّل إليّ أن زمن الكورونا انتهى. أرى الناس قاطبةً على الكرة الأرضية يركضون في الشوارع ويعانقون بعضهم البعض دون خوف من الآخر وأصدِّق ذلك. ألعب بطفولتي وأتخيّل ما يحلو لي على غير ما كانت. أرسم وجهاً بشوشاً لأمي التي لم أرَ ابتسامةً كاملةً عريضة تلمع على شفتيها طوال حياتها قبل أن ترحل. أختلق طفولة سعيدة وأصدِّق أنها كانت زمن الهناء لتكون زاداً لي لأحتمل المُكابدات، رغم أن طفولتي كانت مؤلمة وحزينة. ثم ينتابني الشعور بأنني سرقت أو انتحلت طفولة إحدى شخصيّاتي في رواياتي التي كتبتها، ثم يغلبني الظنُّ أنني أتلبّس طفولة لحياة بطلة سأكتبها. ألحق بمخيّلتي وأتنفس الصعداء، فهي الوحيدة التي تفتح لي الأبواب وتتيح لي عالماً افتراضياً لبرهةٍ أحياناً، وأحياناً أخرى لوقتٍ طويل تُبعد عني الاختناق والخوف لأغطس من جديد في لهاثٍ متسارع. متى ينتهي الكابوس؟ لا أحد يعلم. ليتني أنام ولا أفيق إلّا والبشر بكامل حرّيّتهم، وأنا أيضاً. أستعدُّ للخروج والسباحة في الهواء. ستنبت لي لو حدث ذلك أجنحة ستكون جاهزة للتحليق ليس في الفضاء فحسب، بل أيضاً في فضاء الكتابة.
في غمرة هذا الأبوكاليبس، في غمرة انحلال الحياة إلى درجة الصفر، لا أعثر إلّا على هذا الصراخ: ليتوقَّف الإنسان أن يكون رقماً في عداد القتلى والمصابين بالوباء في وقت تتحوَّل فيه الحياة إلى محرقة، والبشريّة إلى ما يشبه الشلو – فريسة في فمِّ العدم. وما أتمناه انتصار الإنسان على هذا العدو التاجيّ، وأن يستعيد هذا العالم وجهه الجميل، حيث يسود الخير. الحقّ. العدل. الأخوّة والمحبّة أوّلاً. وما أخشاه هو أن يعتاد الناس على هجر بعضهم بعضاً والتباعد الاجتماعيّ والخوف من الآخر. لا، سيكتشف الواحد منّا أنه لن يكون موجوداً بدون الآخر، إنْ كان في وطنه أم في العالم. وهذا ما يطمئنني.