محمد إبراهيم الشوش.. في ظِلّ الذّاكرة

| 01 نوفمبر 2021 |
بعودة صدورها في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى غاية فبراير/شباط 2016 كانت مجلة «الدوحة» قد أتمَّت العدد المئة. كانت المُناسبة بنكهة احتفالية، وفرصة لتنشيط ذاكرة المجلة وإرسال تحية إلى كُتَّابها ومحرّريها ورؤساء تحريرها الأوائل. وتحيتنا إلى هذه الذاكرة؛ تمثلت في إحيائها ضمن سلسلة كتاب «الدوحة» المجاني تحت عنوان «ظِلّ الذّاكرة»، الذي ضمَّ حوارات ونصوصاً من أرشيف المجلة منذ تأسيسها عام 1969، إلى غاية توقُّفها عن الصدور في يوليو/تموز 1986.
في هذا السياق المهني الذي تطلّب نفض غبار المُجلدات وتقليب صفحاتها، أدركت بدايات مجلة «الدوحة» عن كثب. كانت النية هي انتقاء ما نُشر للأسماء البارزة في تلك المرحلة، ولكن الأهم من هذه العملية المُضنية، أنني كنت بصدد التعرُّف على الراحل محمد إبراهيم الشوش من خلال الأرشيف، فقد كانت بصمته، كرئيس تحرير، واضحة الخطوط شكلاً ومضموناً، الأمر الذي جعل البحث عن كل شيء منذ البداية، يتجاوز عملية فنيّة وتحريرية اعتيادية، إلى غوصٍ تلقائي داخل شخصية الشوش، وتأملٍ في حرفته وطرق معرفته بالقصة التي يجب أن تجذب القارئ. وهي معرفة، تحقّقت منفعتها بمُكافحة الابتذال المُسلي لأنصاف المُتعلّمين وأصحاب العقول الكسلى، مقتفياً في ذلك الناقِد البريطاني «فرانك ريموند ليفيز»، أحد نقاده المُفضّلين، وقد كتب عنه كمَنْ ينظر في مرآته. بمزيد من الدقة والصدق، استنتجت درساً مفاده أن بداية اللعب مع قرَّاء لديهم رغبة مستمرة في إرضائهم، ما هي إلّا بداية النهاية.
صدر «ظِلّ الذّاكرة» وانتهى أمر حفظ دُرر هذا الأرشيف في كتاب، وبقي طيف الشوش بين سجلات النفس. مَنْ يكون هذا الرجل المنسي؟ هل هو حيٌّ يرزق؟ كان الظِلّ في الحقيقة، ظِلّ الشوش بالدرجة الأولى، يظهر ويختفي، يمتد بامتداد غيابه الطويل ولا يتوقف رغم الفتور الإرادي لسيرة بإهمال كتابتها تركت فراغات كثيرة، مادامت الشخصية السودانية ميّالة إلى حالة من نكران الذات وعدم الحديث عنها. ومادام الإنسان يبقى بتعريف الشوش نفسه: مُخزِّناً للأسرار والخبايا في أعمق أعماقه، مهما بدا بسيطاً وواضحاً، نراه كل يوم ونتحدَّث إليه ونتعرَّف إلى أفكاره ونقرأ له. استمر الفضول، الذي لم يكن في الوسع تفاديه إلّا بإعادة قراءة كتابات الشوش أثناء الإعداد لكتاب «ظِلّ الذّاكرة»، وكنت قد احتفظت بكل ما وقع بيدي من مقالات، بنية جمعها في كتاب ينشر تحية له ضمن سلسلة كتاب «الدوحة»، لكن الفكرة بقيت مؤجّلة دون أن نتمكّن من انتهاز الفرص التي كانت أمامنا.
كشأن غالبية السودانيين كان غياب الشوش عن وطنه اضطرارياً ومريراً. فقد كانت الغربة وهي «حارة جدّاً» بتعبير أحد الرواة، «في وقتٍ غير ملائم، في وقتٍ كان فيه السودان ينمو ويزدهر، وفي حاجة إلى طاقاته. لكن إغراءات الهجرة كانت قد جذبت الناس. لكن الشوش فيما يشبه حالة من التقييم الذاتي كان مقتنعاً بأن الغربة طالما رُبطت بالوجود والهوية فإنها تصبح مصدر غِنى للسيرة وللحياة.
كانت بداية الرحلة بترك الشوش عطبرة، مدينة الحديد والنار وحاضنة تاريخ نضالي ونقابي مجيد. عطبرة التي يستحضرها متألماً من ضياع مدينة كانت بصدد تشكيل نموذج لسودان المُستقبل. ترك مسقط الرأس في جوٍ من الفقد لدراسة الأدب في جامعة الخرطوم التابعة لجامعة لندن في ذلك الوقت، وفيها تعرَّف على رفيق دربه الطيب صالح، وأخذ الأدب العربيّ عن شيخ المُحقّقين والنُقَّاد العرب الفلسطينيّ إحسان عباس. إلى أن هاجر، وهو في العشرينات من عمره إلى عاصمة الضباب، حيث سيحصل على الدكتوراه التي أهلته للالتحاق بهيئة التدريس بجامعة الخرطوم (أم نخيل)، وليشغل لاحقاً منصب عميد كلية الآداب فيها.
مغادراً السودان مرةً أخرى، وباقتراح من الطيب صالح، سيصل الشوش إلى قطر، متسلِّماً رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، وفي يناير/كانون الثاني 1976، صدر العدد الأول بخطٍ تحريري جديد تخطَّى حدود الخليج ليصافح أيدي القُرَّاء مشرقاً ومغرباً. وكان التوجُّه منذ العدد الأول يضع المجلة في: فلك الرأي العام العربيّ بمُختلف الاتجاهات والمدارس والقوى الاجتماعية المُتعطّشة إلى الوحدة والتقدُّم واستعادة الأراضي المُحتلّة.
لقد كان الشوش، وهو بصدد تحديد الخطوط العامة في افتتاحياته، يرسم ملامح مجلة سيكون لها الأثر الباقي في إثراء الفكر العربيّ، وتنمية المدارك، وتربية الذوق الفنيّ والأدبيّ الرفيع. ولكي تصبح كما أراد لها منشئوها، مساهمة ثقافية جادة وحاسمة، تقدُّمها دولة قطر من فوق ضفاف الخليج إلى العَالَم العربيّ، خدمةً للثقافة العربية، ومنبراً لكل الأدباء العرب من الخليج إلى المُحيط.
كان الشوش مدركاً لصعوبة المُهمّة، وأنه لتغذية مجلة تعكس هذا الامتداد الشاسع والتعدُّد الغني في زمن عسير مسألة ليس بالهينة. ناهيك عن إحياء ملهاة نيرون وحمل قيثارته والغناء في محراب الأدب والفنّ بعيداً عن النيران وعن بحر السياسة المُتلاطم وصداع الصحف الذي اختبره منذ زاويته بجريدة الصحافة السودانية في ستينيات القرن الماضي. وسواء تعلّق الأمر بثقافة الخليج، تحديداً، أو بالثقافة العربية بشكلٍ عام، سلك الشوش درب الموضوعية والجدية، عن: تفهُّم واعٍ وليس عن ملقٍ أجوف، أو رياءٍ كاذب. وقد عبَّر صراحةً عن مبدأ هذه القناعة، في إحدى افتتاحياته قائلا: «الملق والرياء ينطويان على قدرٍ كبير من الاستخفاف بالموضع. فضلاً عن تحقير أولئك الذين تتضمَّن رسالتنا الاهتمام بهم وبنتاج عقولهم وخبراتهم. وهكذا فإننا لا نرى أن الاهتمام بثقافة الخليج، يكمن في نشر كل ما يُكتب أو يصدر عنه. ذلك أن نشر الغث والتافه، لا يخدم قضايا الفكر والثقافة في الخليج، بل هو يسيء إليه كذلك. وفي ضوء هذا الفهم لن نبرز غير الجيد من الأعمال الأدبية والفكرية».
وإيماناً منه بأن: تقدُّم البلدان العربية وتضامنها يقوم أساساً على تنمية وحدة الثقافة، كان الشوش طيلة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» يرفع شعار كسر العُزلة الثقافيّة العربيّة عالياً. فهل استطاع تحقيق ذلك؟ في زمنٍ لاحق سيصرح إجابةً عن سؤال يخصّ هذه التجربة: «ينسى العرب أن لكل زمان شخصيته وطبيعته، وأن الزمن الذي ظهرت فيه مجلة «الدوحة» كان زمناً ملائماً، خصيباً، لذلك تحقّق نجاحها. كان الظِلّ الكبير لمصر، لطه حسين والعقاد… قِيل إن الشوش والنقاش اتجها بالدوحة إلى ثقافة وادي النيل، وأن الشوش حوَّلها مجلة محلية ولبعض السودانيين والمصريين، وهذه حقيقة لم تكن مقصودة. كنت حريصاً على وجود كاتب من كل البلدان».

تحت عنوان «الشهر الذي مضى» كتب الشوش زاويته الشهرية في مجلة الدوحة، تصدَّت بتنوُّعها ومرجعياتها الفكرية والثقافيّة لقضايا الإعلام، والشؤون الإفريقية والقضية الفلسطينية… فيما عكست قراءاته النقدية في الأدب والموضوعات الإنسانية، وكذلك ترجماته الشعرية لقسطنطين، وليم وردزورث، وليم بتلر ييتس، جون بتجمان وغيرهم ذائقته الأدبية الرفيعة وأسلوبه السلس والعميق الذي ميَّز كذلك مؤلَّفاته القليلة: «الشعر.. كيف نفهمه ونتذوّقه»، «الشعر الحديث في السودان»، «أدب وأدباء»، «نوادر هذا الزمان»، ومجموعة قصصية بعنوان: «وجوه وأقنعة».
لم يكن الشوش متردِّداً في الردِّ على مَنْ يعكِّر صفاء ذائقته. في إحدى مقالاته يسرد مستملحة يردُّ بها على أحدهم قائلاً: «كاتب لا يعرفنا ولا نعرفه أرسل إلينا مقالاً لم نرَ فيه -وقد يكون العيب فينا- ما يستوجب النشر.. وغضب. وكان يمكن أن يكتب مقالاً يلعن ذوقنا وجهلنا وتقصيرنا عن إدراك عبقريته أو حاجته المادية. لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل سطر -جهلاً بقدر مَنْ يكتب لهم- رسالة مسمومة يستعدي فيها السلطة علينا ويتهمنا بما يضعنا والمجلة ومحرّريها ومراسليها تحت طائلة القانون. تصوَّروا! هذا الرجل يريد أن يغلق مجلة «الدوحة» بمَنْ فيها وما فيها، لا لأننا قتلنا أباه أو أخاه، بل لأننا بكل بساطة لم ننشر له مقالاً!».
في مطلع الثمانينيات ترك الشوش قبعة رئاسة تحرير مجلة «الدوحة»، ليلتحق مجدداً بالعمل الأكاديمي، وهذه المرة أستاذاً للغة العربية وآدابها، ثمَّ رئيساً للمعهد الدولي للدراسات العربية والإسلامية بجامعة «ألبرتي» بكندا. وبعيداً عن الخطابية المُباشرة الجوفاء التي ملّتها الجماهير من كثرة ما ردّدتها حناجر غير جادة، ترك الشوش خلفه مسيرة صحافية حافلة بطرح الأسئلة الصعبة، ومواكبة المصير العربيّ الذي لا يلتئم له جرح حتى ينكأ له جرح آخر! فكان من المُردّدين بضرورة: تجميع الإرادة العربية حول قضاياها المصيرية، وأهمية مواكبة الإعلام العربيّ لهذه القضايا، ليكون قادراً على إلهاب الخيال وتنشيط الوجدان العربيّ. وهي مواكبة تتحقق جدواها عند الشوش بإفساح المجال للباحثين والمُثقّفين ودعم المجلات الثقافية القادرة على رأب الصدع وإزالة ما علق بالأذهان من مفاهيم تاريخية واجتماعية وفكرية خاطئة، وتعميق فكرة الوحدة والتضامن والإخاء..
ما أشبه الليلة بالبارحة. ونحن اليوم بقدر حاجتنا المُستمرّة إلى أقلام تتصدَّى للمفاهيم الخاطئة التي تعيق النظر إلى المُستقبل، فإننا نردّد مع الشوش تلك الحاجة الملحة للانتماء إلى الزمن المعرفي، وقد كان الشوش منشغلاً بزمنه، مدافعاً عن المجلات الثقافية، ومؤمناً بأهمية انتشارها في أنحاء العَالَم العربيّ. وإذا كان قد واجه أجهزة التليفزيون التي كانت بصدد إقفال وتهديد مستقبل العديد من الصحف والمجلات الورقية منذ مطلع الستينيات، فإنه كان يفعل ذلك من منطلق أن تكون المجلات الثقافية جسراً يربط القارئ العربيّ بزمنه المعرفي في أفق تحقيق آمال الأمة العربية وتطلعاتها، لا مجرد أن تكون المجلات: «خرائب تلقى فيها الأفكار المُحنطة المُكرّرة لفظاً ومعنى، ومقالات الفصول الدراسية التي لا تتفاعل مع الأحداث، أو متاحف لعرض الأزياء اللفظية والمهارات الكلامية الخالية من كل مضمون أو منافذ لمُقتطفات من الرسائل العلمية الجامعية الجاهزة التي لا تجد لها مكاناً عند مصادر التمويل الأخرى، أو واجهة مزدانة ليس في داخلها شيء»(1).
في غياب سيرة مُدونة، لا شكّ أن الراحل محمد إبراهيم الشوش، كما هو شأن العديد من كتَّاب الظِلّ، قد أخفى إشارات عن نفسه في هذا النص أو ذاك. بصورةٍ ما ترسم قصة «ظلال المغيب» المنشورة في مجلة «الأديب اللبنانية» في خمسينيات القرن الماضي، ملمحاً داخلياً من شخصية الرجل؛ يروي الشوش على لسان قرينه: «وقال كأنما يحدِّث نفسه: إنها قصة من قصص القدر، هذا العملاق الجبّار الذي ينسج حياتنا نسجاً محكماً، فيه شيء من الغموض أحياناً ومن القسوة والظلم في أكثر الأحايين». ومنذ كتابة هذه القصة، وصولاً إلى حضوره الأخير، لم يتحدَّث الشوش عن ذاته كثيراً، كان يتجنَّب أسئلة السيرة ويترك زهوره تتفتح في الظِلّ، ومقابل ذلك يستعيد بحنين وحسرة في نفسه ذاكرة السودان الجماعية. كانت سيرته تتبعه ولا يتبعها، وبتواضعه الشديد لم يقطع الشجرة التي منحته هذا الظِلّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الثقافة في خدمة التضامن العربيّ، مجلة «الدوحة»، العدد 4، أبريل 1976.