محمَّد مبوغار سار: غونكور مفاجئة

ترجمات  |  02 يناير 2022  |  

يُعدّ «محمَّد مبوغار سار» أوَّل إفريقي (من جنوب الصحراء الكبرى) يفوز بجائزة «غونكور – Goncourt»، التي مُنحت له، يوم الأربعاء، 3 نوفمبر، (2021)، في مطعم دروان، في منطقة الأوبرا، بباريس. وقد جاءت جائزة «غونكور» مفاجئة، أو لم تكن متوقَّعة من طرف عامّة الجمهور؛ ذلك أن رواية «الذاكرة الأكثر سرِّيّةً للبشر» (طبعة فيليب راي، 448 صفحة)، التي تُوِّجَتْ، في الوسط الأدبي،  من قِبَل لجنة تحكيم الجائزة الأدبية المرموقة، كانت قد أحرزتْ تقدّماً في هذا الموسم الأدبي، محاطةً بلوحة إعلانات مضاءة، كُتِب عليها: «انتبهوا، نحن أمام ظاهرة».

 

يتعلق الأمر بأن ننظر إلى التاريخ بطريقة واضحة، لاختراع شيء آخر

 

والدليل على ذلك أن هذا السنغالي الشابّ، ومؤلِّف ثلاثة كتب حَظِيت باهتمام النقّاد، تمَّ اختيار عدد من رواياته في ما لا يقلّ عن ثمانية قوائم، بما في ذلك قوائم جائزتَيْ (فيمينا-Femina)، و(رونودو -Renaudot)، من أجل اقتناص تميُّز لطيف في فصل الخريف. لقد فاز «محمَّد مبوغار سار» بالجائزة الكبرى، خلفاً لـ«هيرفي لو تيلييه»، الفائز بالجائزة نفسها عام (2020) عن روايته «النشاز»، والتي سيسجِّل التاريخ بيع مليون نسخة منها، بالفعل. ودون وضع أيّة خطّة لمستقبل رواية «الذاكرة الأكثر سرِّيّةً للبشر»، ستكون مبيعاتها، على الأرجح، أقلّ من مبيعات رواية «النشاز». وبين

أيدي أعضاء لجنة الجائزة، استطاع «محمَّد مبوغار سار»، البالغ من العمر (31) عاماً، أن يستميلهم برواية تجْمع بين السخرية والغنائية، من خلال إرصاد مرآتيّ مذهل، ومضبوط جدّاً.

تحكي « الذاكرة الأكثر سرِّيَّةً للبشر»، قصّة كاتب سنغالي شابّ «ديجان فاي»، يعيش في باريس، شرع، في عام (2018)، بالبحث عن كتاب ألّفه كاتب سنغالي آخر، هو مؤلِّف كتاب فَريد نُشر في عام (1938)، بعنوان «متاهة اللاإنساني» ويلقب بـ «رامبو الإفريقي»؛ إنه «تي.سي إليمان». فمَنْ كان «تي.سي إليمان» هذا؟ هل كان كاتباً عظيماً، أم سارقاً يجلب العار؟ هذا هو ما نكتشفه على مدار القصّة التي تتَّخذ شكل تحقيق أدبي يعجّ بالتفاصيل، ويمزج بين العصور والبلدان. إذ يبدأ في باريس الأدبية خلال السنوات: من 2010 إلى 1930، ويستمرّ في السنغال المستعمرة في أوائل القرن العشرين، ثم في فرنسا المحتلّة، ويكشف عن ذاكرة الرماة السنغاليين في الحرب السابقة، ثم يمرّ عبر الأرجنتين، ثم ينتهي في داكار المعاصرة.

إنها رواية حافلة وآسرة، كتبها «محمَّد مبوغار سار» بأسلوب سلس، كما أنها تحفة فنّيّة حقيقية استحقَّت الفوز بجائزة غونكور (2021).

في ما يلي حوار مع المؤلِّف الذي يدخل التاريخ بصفته ثاني كاتب أسود يحصل على هذه الجائزة المرموقة (بعد غيانا رينيه ماران، الذي فاز بها عام 1921).

كيف خطرت لكم فكرة الكتابة عن هذا الموضوع؟

– هذا الكِتاب مستوحى من كاتَبيْن يمثِّلان هاجسَيْن بالنسبة إليَّ؛ قارئاً وكاتباً. يتمثَّل الهاجس الأوَّل في صمت الكُتّاب، بوصفه الفضاء العميق لكتاباتهم، وقد اكتشفت ذلك مع الكاتب المالي «يامبو أولوغيم» (1940 – 2017)، عندما كنت في سنّ المراهقة. فرواية «واجب العنف» ومسار «يامبو أولوغيم» قد استرعيا بالغ اهتمامي لسنوات عديدة، إلى درجة أنني توصَّلت، في نهاية الأمر، إلى إقناع نفسي بأنه من الضروري أن أكتب، في ضوئها، رواية تشكِّل القصّةُ في رواية «واجب العنف» نقطةَ البداية فيها. وهذا الكاتب الذي تَمَّ الاحتفاء به، ثم التخلّي عنه، واتُّهِم بالسرقة، ثم تُرِك في عزلة كبيرة من قِبَل الأوساط الأدبية الأوروبية والنخبة المثقّفة الإفريقية التي لم تدعم الراديكالية والتجديد والاستفزاز، يشكِّل -حقّاً- محور اهتمامي. أمّا الهاجس الثاني فكان، بعد ذلك، في سنّ الخامسة والعشرين، عندما اكتشفت «روبرتو بولانو»، وشعرت بالتحرُّر، لأنني كنت قد عثرت، في كتاباته، على عدد من الأسئلة التي تكوَّنتْ لديّ حول الالتزام الأدبي، وعن حقيقة كونه كاتباً شابّاً يبحث عن نفسه، ويبدأ حياته، ثم يفشل، ويجرِّب كلّ شيء، بينما يحافظ على الأدب بوصفه هاجساً في الحياة الأكثر واقعية. ويشكّل كلّ واحد من هذَيْن المؤلِّفيْن، بطريقته الخاصّة، أحد روافد كتابي. كما كانت، في كلّ مرحلة من مراحل حياتي، قراءات ولقاءات وأحداث أثَّرتْ فِيَّ، بحسب مستواها، والأمر هنا يشبه، إلى حَدّ ما، سلسلة بدأتْ مع حكايات النساء في عائلتي.

من أين جاءك هذا الشغف بالأدب؟، وما مصدر هذا الإلهام؟

– جدّتاي، وأميّ، وعمّاتي، وبنات عمومتي هنّ اللواتي عرّفْنني بالقصص والحكايات والأساطير والخرافات وألعاب الذاكرة؛ لذا، هَنَّ اللواتي شكّلْنَ الخيال الشعري لطفولتي. إنني أدين لهنّ بجزء مهمّ وأساسي؛ لأنهن كنّ دعامات أساسية في شاعريَّتي، في بداية نشأة هذه الرغبة، في أن أروي، حتى قبل أن أعرف أنني قد أكون روائياً في يوم من الأيّام. آمل أن يقلْنَ حين يرونني اليوم، إنهن فخورات بأنفسهنّ.

ما الكِتاب الذي قرأتموه في طفولتكم، وأثّر فيكم أعمق تأثير، وحفَّزكم على كتابة مؤلَّفاتكم؟

– ليس هناك كتاب معيَّن أَثْبَتَ نفسَه، بل هناك -بالأحرى- لحظة الطفولة حيث الكثير من القصص والأساطير والحكايات التي تسرَّبت إلى نفسي. والواقع أنه كانت هناك كُتُب أثرتْ فيّ، ولكن لم يكن لأيِّ منها حافز حاسم، فكلّ كِتاب من هذه الكتب قد حمل معه شيئاً إيجابياً في مرحلة ما من مراحل تطوُّري، وذلك عندما بدأت قراءة سنغور، وسيزير، وكامارا لاي، أو حينما اكتشفت، في وقت لاحق، بلزاك، وفيكتور هوغو، أو حينما اكتشفت، كذلك، في وقت لاحق، الروائيين الأميركيين والروس، والأدب في أميركا اللاتينية. في كلّ مرحلة من مراحل حياتي، كانت هناك قراءات ولقاءات وأحداث أثّرتْ فيّ، بحسب مستواها. من الواضح أنني سعيد مثل أيّ كاتب يفوز بجائزة كهذه، ولكن، قبل كلّ شيء، أريد أن يُنظر إليها على أنها بداية عصر جديد؛ عصر لا أحد فيه، بعد الآن، ينظر إلى فوز شخص إفريقي من جنوب الصحراء الكبرى أو أيّ شخص أسود، بشكل عامّ، بهذه الجائزة، مسألةً استثنائية.

من خلال الفوز بجائزة «غونكور» لعام (2021)، صنعتم لأنفسكم اسماً بوصفكم أوَّل كاتب إفريقي، وثاني كاتب أسود يفوز بهذه الجائزة المرموقة. ما تأثير ذلك فيكم؟

– أوَّلاً، وقبل كلّ شيء، أفضّل أن أقول إنني أوَّل إفريقي من جنوب الصحراء الكبرى يفوز بهذه الجائزة، لكنني لا أريد أن يتوقَّف التاريخ عند هذه النقطة. من الواضح أنني سعيد مثل أيّ كاتب يفوز بجائزة كهذه، لكني قبل كلّ شيء، أريد أن يُنظر إليها على أنها بداية عصر جديد. وينبغي أن تفتح هذه الجائزةُ المجالَ أمام منطقة كاملة ناطقة بالفرنسية (إفريقيا، وهايتي، وجزر الهند الغربية، غيرها) للحصول على فرص متكافئة في نيل هذا الاعتراف. وفي الواقع، يُعَدّ الفوز بهذه الجائزة، من الناحية التاريخية، حدثاً استثنائياً، ولكن، إذا ما تجاوزنا ذلك، من الضروري أن يقول آلافُ الناس لأنفسهم إن لديهم جميعاً الفرصَ نفْسَها التي تُتاح للآخرين. كانت المغامرة، بالنسبة إليَّ، مذهلة، بالفعل، من خلال الترحيب وردود الفعل التي عرضتْ لكتابي.

أما يزال القلق يراودكم بشأن صحّة السياق؟ 

– عندما تضعون حبكة أو شخصية داخل منظر طبيعي حقيقي، أو شبه حقيقي، ينشأ الالتباس، فمن المعروف، أن غومبرويكس، وسيباتو، كانا صديقَيْن حميمَيْن جدّاً في «بوينس آيرس»، في دائرة ضمَّتْ الأخوات أوكامبو، وآل بورخيس، وغيرهم. وإذا ما أضفنا إلى هذه المجموعة «إليمان»، ينتهي بنا الأمر إلى أن نتساءل: ألم يكن «إليمان» هناك أيضاً… إنني أستعير جُملاً من أعضاء لجنة تحكيم جائزة «غونكور»، والتي لم يتمّ التلفُّظ بها في ذلك الوقت. كلّ ذلك يُحدث تأثيراً حقيقياً يجعل عمل السرد مثيراً للاهتمام وباعثاً على المرح. ولكن يجب، أوَّلاً، أن نسعى إلى أن نكون دقيقِين بشأن السياق الأدبي، والسياق التاريخي، والسياق السياسي. ويبيِّن ذلك، أيضاً، ما يأتي : ضخّ الكثافة في الرواية، عندما نزوّدها بشخصيّات حقيقية، قبل سلب الحرِّيّات، من خلال الخيال، وأيضاً من خلال إدخال أشياء مدهشة للغاية، وسحرّيّة تجعل النصّ يصبح أكثر حركيّةً، وأكثر دوراناً.

بين البقاء في إفريقيا أو الذهاب إلى أوروبا. كيف تحلّون هذه المعادلة؟

– بين هاتَيْن القارَّتَيْن والقصص المنسوجة بينهما، يتولَّد لدينا، دائماً، انطباع بأن علينا أن نختار، وأنا أحاول أن أبدع قصصاً أخرى. أمّا القارّة الثالثة فهي قارّة الأدب. ربَّما يمكننا أن نجد مَخرجاً من خلال الأدب، لكي نخرج، على أيّ حال، من هذه المواجهة المزعجة التي تتعب الجميع. يتكوَّن لدى المرء انطباعٌ بأن الأدب، غالباً ما يكون مجرَّد ذريعة أو وسيلة لخدمة خطاب سياسي، وأنه-أي الأدب- ليس مثيراً للاهتمام في حَدّ ذاته. أعتقد أنه لا توجد طريقة أكثر وحشيّةً، لمعالجة المشكلات، من محاولة التغلُّب عليها من خلال الكتابة. من الضروري اقتراح أعمال تطمح إلى احتضان هذ القصّة بكاملها، لكنها ليست محاكماتٍ أو أنواعاً من لوائح الاتّهام.

ما الذي تقصدونه بكلامكم؟

– سيكون -حقّاً- أدباً يُدرِك أنه، لكي نمضي قدماً إلى الأمام، علينا أن ننظر إلى ما وراءنا لاقتراح سبل جديدة. الأدب هو، أيضاً، قصّة. وعندما نريد إجراء محاكمة للاستعمار، ننسى أن كلّ هذا قد تمَّ، ببراعة، على يد كُتّاب عظماء، من قبيل عثمان سيمبين، أو مونغو بيتي. وعلى الجانب النيجري أو الغاني، على يد «تشينوا أتشيبي»، و«آي كوي أرماه». إن رواية «المغامرة الغامضة» للأديب السنغالي «شيخ حميدو كان» تتحدَّث عن هذا الغموض القائم بين الغرب وإفريقيا، لكن هناك فكرة مفادها أنه لا يمكن أن ينتهي الأمر إلّا باختيار أحدهما، أو الموت في هذا الغموض. ماذا نفعل بعد هؤلاء المؤلِّفِين، في الوقت الذي نُعَدّ نحن فيه ورَثَتَهم؟ هناك إمكانات لاختيار مسارات يمكن أن تكون أكثر انفتاحاً، وتحتضن الغرب وإفريقيا معاً، وهذا لا يعني أن تكون راضياً عن هذا أو ذاك، لكن الأمر يتعلَّق بأن ننظر إلى التاريخ بطريقة واضحة لاختراع شيء آخر. أريد أن أخرج بتصنيفات، وإحالات، وتوقُّعات قويّة جدّاً، ملزِمة بعض الشيء، ستأتي من هذا الجانب أو ذاك، من أجل تحقيق حرّيّة، هي الشرط الحقيقي للإبداع.

ما النصائح التي تقدِّمونها للمؤلّفين الشباب الذين يرغبون في الشروع في الكتابة، اليوم؟

– أعتقد أن أفضل نصيحة يمكن أن أقدِّمها لشابّ ما، هي القراءة ثم القراءة، إذ من خلالها يمكن للمرء أن يجد صوته، ويكتشف الكُتّاب والعوالم الأدبية التي تثير الإعجاب به، وتلك التي لا يريد، أو لا يتمكَّن من الذهاب إليها. قبل أن أبدأ الكتابة، قضيت الكثير من الوقت في القراءة. كلّ شخص لديه مساره الخاصّ، ولكني أعتقد أنه إذا كان هناك عنصر واحد مشترك بين المؤلِّفين الجيِّدين، فهو القراءة الدائمة، والشغف شبه الهوَسي بالأدب.

ما موضوع روايتكم القادمة؟

– لكي أكون صريحاً معكم،أنا لا أخطّط في الوقت الراهن لكتابة أيّة رواية. أنا أفكِّر، أساساً، في نيل قسط من الراحة بعد هذا الكِتاب. ليس لدي أيّة خطط في الوقت الراهن، لا شيء في مسوّدات الكتابة.

حوار: أمبري ديلاكروا
ترجمة: فيصل أبو الطُّفَيْل
المصدر:
www.rewmi.com

 

 

 

الأدب موطن الحرِّيّة المطلقة

 

وُلِد «محمَّد مبوغار سار» في عام (1990)، وعاش طفولته مولعاً بالقراءة والقواميس ولعبة السكرابل، ثم بدأ، في سنّ المراهقة، يكتب روبورتاجات في إحدى الصحف. وبعد دراسته الثانوية في مدرسة «سانت لويس»، في السنغال، درس الأدب والفلسفة في فرنسا، بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. ومنذ (2014)، نشر ثلاث روايات، وحصد العديد من الجوائز التقديرية.

فكرة روايتك مستمَدَّة من رواية أخرى مثيرة للجدل، عنوانها «واجب العنف»، للكاتب المالي «يامبو أولوغيم»، أوَّل أفريقي نال جائزة «رونودو» عام (1968)…

– إنه كتاب ملعون. أثار خطابه ذو الأسلوب المبهر العديدَ من الخلافات لدى النقّاد والقرّاء، كما أثار غضب المثقّفين الأفارقة والأوروبيين، على حَدّ السواء. لقد كانت رواية شيطانية، بالفعل، فازت بجائزة «رونودو»، ولكن، في عام (1972)، شوَّهت اتِّهامات بالسرقة الأدبية الكتابَ، ونالت من شرف الكاتب، ونزاهته، ثم انسحب «أولوغيم» من الساحة العامّة، والساحة الأدبية. لقد تمَّ إسقاط منجزه الواعد من الأعالي التي كان يحلِّق فيها. ومنذ ذلك الحين، وإلى وفاته في عام (2017)، لم ينشر «أولوغيم» أيّ شيء، على الرغم من أنه حَظِي بالتتويج والاحتفاء. هذه القصّة تسحرني، وتستحوذ عليّ. نصّه القويّ والجميل أبهرني لسنوات عديدة، وهذه واحدة من نقاط البداية، وأحد المصادر التي ألهمتني كتابة هذه الرواية التي يغذِّيها، أيضاً، انشغالي بالتساؤل عن معنى الالتزام الأدبي، ومعنى الرواية، والسرد، والصمت في الأدب. وافتتاني بالأعمال الفريدة، التي يتمكَّن المرء، من خلالها، أن يحصر كلّ ما يود قوله، تقريباً، بين دفَّتَيْ كتاب واحد.

هل أنت مثل الراوي «دييجان»، يقع الأدب في جوهر لغزك الوجودي؟

– نعم. حين يقول المرء إنه مهووس بالأدب، وبالكتابة، فإن ذلك يبدو مجرَّداً؛ لذلك أردت تجسيده من خلال مغامرات البحث عن كتاب، وعن مؤلِّف، من خلال المرور عبر حلقات ملموسة من حياة هذا الأخير. هذا الهوَس بالأدب يتَّخذ معنًى مادِّيّاً، جسديّاً، انطلاقاً من وجود هذا الراوي الشاب. بعد إصداري لثلاث روايات، بدأ يُنظر إليَّ بصفتي كاتباً، ولكن لديَّ شكوك حول هذه الكلمة، وأحياناً أجد، أيضاً، صعوبة في التماهي مع هذه الصفة. وأتساءل: لماذا أستمرّ في الكتابة، بينما هناك الكثير من النصوص التي كتبت قبلي؟… مثل هذا السؤال المؤرِّق، له تعبيرات ملموسة، للغاية، في الحياة اليومية، وهذه الأسئلة ترافقها، كذلك، أفكار ليست بالمريحة دائماً: ما معنى هذا الالتزام؟ ما التحدِّيات التي يمكنني رفعها؟ وما الوسائل المتوفِّرة لديّ؟

مثل الأوديسة، تعبر روايتك فضاءات وأزمنة مختلفة؛ من السنغال الحاليّة، وانتفاضاتها الشعبية، إلى فرنسا في فترة الاحتلال النازي، مروراً بالأرجنتين إبّان حكم الديكتاتورية العسكرية. لماذا اخترت هذا التنوُّع؟

– هذه الحرّيّة مثيرة للاهتمام. إنها رحلة من القرن العشرين إلى بداية القرن الحادي والعشرين، من خلال حياة روائي إفريقي، كان لا بدَّ له من أن يواجه العالم جغرافيّاً، وتاريخياً؛ الأحداث، والأماكن التي شكَّلت مسرحاً لصنع التاريخ. إنها كذلك طريقتي، بصفتي كاتباً إفريقيّاً، على وجه التخصيص، في عدم التقيُّد بأيّة محاذير. يمكنني استكشاف الجغرافيات والثقافات، دون أن حصر نفسي في مواضيع أو مساحات معيَّنة. الأدب هو موطن الحرّيّة المطلقة الذي يحتضن جميع الأوطان الأخرى. قصّة «إليمان» هي، أيضاً، قصّة العالم. فعندما نحاول أن نروي قصّة حياة شخص ما، حتى لو كانت محض خيال، نجابَه، على الفور، بالتعُّدد، على مستويات المعاني، والفرضيات، والتأويلات اللانهائية التي يمكن أن تتَّخذها هذ الحياة في المكان، والزمان. كان من المهمّ ترجمة كلّ ذلك إلى سرد، مع السفر عبر الزمن، والتنقُّل في الجغرافيا، ولحظات الفجوة، والطرق المسدودة. لقد تمَّ بناء الكتاب في شكل متاهة متحرِّكة، آمل أن تفتح مجالاً للَّعب… دون أن تفقد شيئاً من جدِّيَّتها. ويشكِّل السرد، بفضل انتشاره المستمرّ في جميع الاتِّجاهات، أحد رهانات القراءة، أيضاً.

تتكفَّل العديد من الشخصيات بمهمّة سرد حياة «إليمان». كتابك الذي يمثِّل تدبُّراً في قوّة الأدب، هل يمكن اعتباره، بمعنى أوسع، احتفاءً بالرواة، سواء في الفنّ الشفهي، أو في فضاء الكتابة؟

– هو تأمُّل فيما تعنيه عمليّة الحكي، وتحمُّل مسؤولية سرد قصّة، ونقلها إلى شخص ما، انطلاقاً من نظرة السارد نفسه – التي غالباً ما تكون مجتزأة – إلى كلٍّ شامل لا يحصره هذا السارد ببصره، تماماً. أتساءل، أيضاً، عن قدرات الأدب، بصفته مساحة لتناسل السرديّات، على احتضان طبقات متعدِّدة من الأزمنة والأمكنة. فتعدُّد الأصوات هذا يشكِّل التربة الملائمة لإمكانية انبثاق حقيقة أو معنى ما؛ إذ من الضروري أن تأخذ العديد من الشخصيات الكلمة لكي تحدث مواجهات، وسوء فهم، وحالات اتِّفاق أيضاً. ومن هذه التعدُّدية -التي تكاد تكون مثالية ديمقراطية ومبدأ روائيّاً أساسيّاً- يمكن أن تتمخَّض حقيقة عميقة عن شرطية الإنسان.

هناك عدم اتّفاق بين الراوي وصديقه «موسيمبوا» حول غموضهما الثقافي، بصفتهما كاتبَيْن إفريقيَّيْن ينشران في فرنسا؛ فالأوَّل يعتقد أن الكاتب ملزم بتقبُّل الأمر، وتحمُّل تبعاته بكلّ مسؤولية، في حين يرى الآخر أن هذا الوضع ما هو إلا خدعة الغرض منها هو القضاء عليهم، وتشويه الجزء العميق من كيانهم.

– هاتان وجهتا نظر مختلفتان حول ماهيّة الكُتّاب الأفارقة، أو ما ينبغي أن يكونوا عليه، والذين تقودهم الظروف إلى الاستقرار في باريس، أو نشر كتبهم فيها باللّغة الفرنسية. ومن الممكن ألّا أكون معنيّاً بأيٍّ من هاتَيْن الرؤيتَيْن حول العلاقات ما بعد الكولونيالية. وحتى إن كان النقاش حول هذه المسألة قد دار وانتهى، أعتقد أن من الواجب علينا أن نواصل الاستكشاف والعمل على خلخلة فجوة الغموض هاته؛ لأنها ثروة حقيقية، وبالانطلاق منها نكتسب القدرة على خلق أشياء كثيرة. واعتبارها مجرَّد خدعة استعمارية يعني الاعتقاد بأن الاستعمار لا يزال يمتلكنا، وأننا ما زلنا، بطريقة ما، مستعمَرين. والقول بأننا أكثر غموضاً من ذلك يُعَدّ كافياً للإفلات من هذا الوضع. إنه يتيح لنا بناء هويَّتنا، والتعبير عنها عبر الأسلحة التي نمتلكها، مثل اللّغة التي هي، دائماً، تشكيل هجين، لقيط، إلّا أنه يمكننا من خلق شيء جديد، والتعبير عن رؤية للعالم تكون خاصّة بنا وحدنا.

ماذا تعني لك الكتابة بالفرنسية بدلاً من السيريرية أو الوولوفية؟

– هذا سؤال، ولكنه ليس مشكلة وجودية. أنا مرتاح جدّاً في ذلك، وأعرف حقّ المعرفة أن هذا لن يمنعني من الكتابة بلغاتي الوطنيّة. لديَّ هذا المشروع، وأنا أعمل عليه، كما أعمل على اكتساب الوسائل التي ستمكِّنني من تحقيقه في يوم من الأيّام، وأعتقد أن هذه اللغات تشكّل، هي الأخرى، ثروة كبيرة.

في روايتك، نشرَ الكاتب الغامض «ت. س. إليمان» رواية «متاهة اللاإنساني» في عام (1938)، في فرنسا، وقد كان نقّاد المنابر الصحافية المنتمون إلى اليمين، وإلى اليسار، على حدّ السواء، ينظرون إليه نظرة استعمارية، ويحكمون على عمله من خلال لون بشرته وانتمائه لإفريقيا. هل أنت تسائل تلقّي المؤلّفين الأفارقة في أوروبا؟

– نعم؛ فسوء الفهم يطغى، أحياناً، على القراءات التي تخصَّص لكتاباتهم في الغرب. ولا يبدو، دائماً، أنه يتمّ النظر إليها كأعمال أدبية قائمة الذات. هناك غواية بإلحاقها بخصوصيات ثقافية، بل بيولوجية، من أجل فهمها، مع التخلُّص من المسألة الأدبية البحتة. يمكن أن يقال لي إن الطابع الأدبي البحت غير موجود، وإن كلّ أدب يحمل بصمة ثقافة معيَّنة. هذه حقيقة، لكن المشكلة تنشأ عندما تصبح هذه الحمولة الثّقافيّة أكثر أهمِّيّةً من النصّ نفسه. يبدو أننا نبحث، في هذه الكتابات، عن نوع من البراهين، والتأكيدات، حول لون بشرة معيَّن، وبلد معيَّن، وأصول معيَّنة، كما لو كانت هذه المؤشِّرات، في نهاية المطاف، مفاتيح حاسمة، مطلقة. مع مثل هذه الأحكام المسبقة، نقرأ، دائماً، بطريقة معيَّنة، مهتدين بهذه الانتظارات. أو أننا لا نقرأ، بحجة أن المؤلف إفريقي، وأنه لا بدّ أن يتحدَّث عن الموضوع المعروف سلفاً، والذي لا يهمّنا. هذه الأحكام المسبقة توصِل إلى النتيجة نفسها: الابتعاد عن النصّ، والتركيز على الأشياء الكاريكاتورية حوله.

جاء في كتابك: «هذه النظرة تحتجز الآخر. نحن نلزمهم أن يكونوا أفارقة، ولكن ليس كثيراً».

– يجب أن يكونوا أفارقة حفاظاً على الإغرابية (exotisme)، ولكن ليس كثيراً، وإلا استحال علينا فهمهم. ومن الضروري، دائماً، أن يكون الآخر على مسافة كافية من «الخير» كما نراه نحن، انطلاقاً من رؤيتنا لأنفسنا في موقع مركزي. يوجد، في هذا النوع من النقد الأدبي، نزع للصفة الإنسانية، وتشييء سياسي: فالفرد الذي يروي قصّة، بفضل عبقريَّته، يتمّ الحاقه بفئات واسعة، نعتقد أنه يمكن، من خلالها، تفسير الأدب الإفريقي؛ الأمر يشبه النظرة الاستعمارية، في الواقع. وسواءأ سانَدَت العمل أم هاجَمَته، فهذه الصحافة مخطئة، لأنها ما زالت لا تنظر إلى صاحبه بصفته مؤلّفاً، بل ناطقاً باسم شيء ما، أو لون بشرة ما. إنها تراه، وتحكم عليه من خلال انتمائه الإفريقي؛ ما يبتعد بها عن عمله الأدبي.

هل ما زال هذا هو الحال، اليوم؟

– سأكون كاذباً، إن قلت نعم؛ لأن كتابي تمَّ التعامل معه بشكل مختلف، حقّاً. لديَّ انطباع بأن الناس مهتمّون بروايتي فعلاً، لكن السبب، أيضاً، هو أن الكتاب يحذِّر من ذلك. هذا هو اللؤم الذي يميِّز هذه الرواية… أو الفخّ المنصوب فيها؛ فبعد قراءتها، لا يمكن للمرء أن يتلقّاها بطريقة معيَّنة، ولا يمكنه الانجراف نحو الأحكام السهلة، لأنها، باستعمالها لتقنية التبئير (mise en abyme)، لا تتوقَّف عن التذكير بأن النصّ والقراءة هما الفيصل؛ لذا أعتقد أنني نجوت مع هذا الكتاب، لكن هذه الأشياء ماتزال تحدث، بشكل متقطِّع. في رأيي، لدى كلّ مؤلّف إفريقي طرائف يحكيها حول تعرُّضه لمواقف من هذا القبيل، ويمكن أن يأتي ذلك حتى في شكل بادرة ودِّيّة أو تعبير عن الإعجاب. سوء الفهم، في هذه الحالة، يكون بعدم رؤيتنا لهؤلاء المؤلِّفين، بصفتهم كتّاباً حقيقيِّين، بل بصفتهم نوعاً من علماء الأنثروبولوجيا، أو المتحدِّثين السياسيين… ومع ذلك، إن الأمور قد بدأت تتغيَّر. وإذا كان بمقدور كتابي أن يحفِّز، أيضاً، على التفكير في الطريقة التي يتمّ، عبرها، النظر إلى الآخر، فسأكون سعيداً بذلك.

هذا الكاتب، «ت. س. إليمان»، اتُّهم بالسرقة الأدبية. هل كان يهمّك أن تقدِّم قراءة مختلفة، وشخصية لقصّة «يامبو أوغاليم»، وأن تذكر بأن المؤلِّف، أبداً، لا يكتب انطلاقاً من لا شيء، وتؤكِّد على هذا الارتباط الذي يكاد يكون عضوياً بينه وبين الكتب التي يقرؤها؟

– بل هو، أيضاً، تأمُّل في الأدب من حيث هو استمرار لنصّ طويل، أو نصّ يتكرَّر باستمرار، وتُعاد كتابته بقدر أعلى أو أدنى من المهارة. نحن لا نكتفي بالكتابة انطلاقاً من قراءاتنا، ومن شجرة أنساب أدبية، لكننا نكتب، أيضاً، مع هذه القراءات، وبالرجوع إليها؛ لذا يجب طرح هذه المسألة. على أن هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن السرقة الأدبية والقرصنة، بالمعنى الحرفي، غير موجودَتيْن بالفعل. ولكن يجب، أيضاً، أن نقول إنه لا يوجد مؤلِّف، (كما تقول)، يكتب من لا شيء؛ ولهذا السبب أدافع عن فكرة التفرُّد بدلاً من فكرة الأصالة. ما يهمّ هو قول شيء سبق أن قيل، ولكن بمحاولة التعبير عنه بشكل مختلف، لا من وجهة نظر رسمية، فحسب، بل من الناحية الوجودية، والفلسفية، أيضاً. هذا التنويع الذي ننتجه، بالانطلاق من قول قد يكون أطول أو أقدم أو أبدي، تقريباً، يبدو مثيراً للاهتمام، بالنسبة إليّ. أزعم بأنني أنتمي إلى مدرسة التفرُّد، لا الأصالة، وأسدِّد الدَّيْن، متى سنحت الفرصة بذلك، لجميع الكتاب الذين استرشدت بهم. وفي هذه الرواية، أشير، بوضوح، إلى شجرة أنساب أدبية، من خلال علامات مدسوسة هنا وهناك؛ جمل وعبارات على درجة كبيرة أو صغيرة من الشفافية، تعبيرات أعيدت صياغتها، كلّها إحالات مباشرة على مؤلِّفين، أكنّ لهم الكثير من التقدير، بعضها بارز للعيان، والبعض الآخر لا يمكن اكتشافه، على الإطلاق.

أن تكتب أو لا تكتب، هل يشكّل هذا السؤال معضلة بالنسبة إليك، أيضاً؟

– نعم. إنه سؤال وجودي عميق، شكسبيري، حول معنى الالتزام الأدبي اليوم: ماذا ينبغي لنا أن نكتب بعد ما كتبه شيوخنا، ومَنْ سبقونا؟ هل نمتنع عن الكتابة، لأننا لسنا في المستوى المطلوب، وليس لدينا الكثير لنقوله؟ إنها طريقة للتجرُّؤ على فعل التحرير، والنظر إليه كفعل جدِّي ينطوي على نتائج عميقة. لا بدَّ، أيضاً، أن تتوفَّر لك القدرة على السخرية من هذا الموضوع. الكتابة، أو عدم الكتابة إشكال عويص، لكننا عندما نكرّره، يصبح الأمر مثيراً للضحك، إذ يبدو مثل هوَس يصيب الكاتب الذي يعيش منقطعاً عن العالم. يجب أن يتحلَّى الأدب بالقدرة على السخرية من نفسه. هكذا، يمكنه أن يستمرّ في المقاومة، دون أن يُسحَق بحمل تاريخه الثقيل.

حوار:  أستريد كريفيان
ترجمة: ياسين المعيزي
العنوان الأصلي والمصدر:
Mhamed Mbougar Sarr: La littérature est un pays de liberté absolue
https://www.afriquemagazine.com/mohamed-mbougar-sarrla-litterature-est-un-pays-de-liberte-absolue

 

 

 

أحاول الوصول إلى نوع من التفرُّد

 

هذه مقابلة مع الحائز على جائزة «غونكور» لعام (2021)، «محمَّد مبوغار سار»، الكاتب السنغالي الشابّ الذي أبهرت روايته «الذاكرة الأكثر سرّيّةً للبشر» هذا الدخول الأدبي. إنه الكاتب الذي ظهر اسمه على أكبر عدد من قوائم الجوائز الكبرى لخريف هذا الموسم الأدبي، والذي حصل يوم الأربعاء، الثالث نوفمبر، على جائزة «غونكور» لعام (2021). الجائزة تشكِّل أرفع تتويج لهذا الروائي البالغ من العمر (31 عاماً)، والذي أصدر أربع روايات، حتى الآن. فمن خلال الاحتفاء بالشباب، عمد أعضاء لجنة التحكيم إلى إعادة ربط الصلة بروح الوصيّة التي تركها الأخوان «غونكور»، وكذا إلى تتويج واحدة من أجمل الروايات لهذا العام؛ فرواية «الذاكرة الأكثر سرِّيَّةً للبشر» تمثِّل رحلة بحث أدبية مبهرة، تهيم من قارّة إلى أخرى، وتتشابك فيها القصص والزمنيات، وتناوب بين الجدِّيّة والهزل، كما تتطرَّق، فضلاً عن ذلك، إلى ثيمات الاستعمار، والنازيّة، والإحيائيِّة، والتراث الأدبي، والسرقة الفكرية.

بطل الرواية شابّ سنغالي يبلغ من العمر (23 عاماً)، اسمه «تي سي إليمان»، اقتحم الساحة الأدبية في عام (1938) من خلال رواية عنوانها «متاهة اللاإنساني» (قصّة ملك متعطِّش للدماء)، وقد تسبَّبت الرواية في إحداث عاصفة حقيقية، التهبت لها عناوين الصحف: كتب ناقد مجلَّة «لومانيتي»: «تحفة فنّيّة من إبداع (رامبو زنجي)»، وعَنْوَنَت «لوفيغارو»: «بصاق رجل متوحِّش»، فيما وصفته صحف أخرى بالظاهرة الغامضة … كلّ ذلك، والكاتب نفسه لم يُمنَح فرصة للظهور. غير أنه تحوَّل، بعد ذلك، من نزوة فكرية لمثقَّفي باريس إلى صاحب فضيحة مدوِّية، حين اتَّهمه أستاذان عليمان من «كوليج دو فرانس»، بالنهب والاقتراض. إثر ذلك، اختفى الكاتب الغامض، واختفى كتابه، ونشأت الأسطورة…التي ما زالت، إلى حدود عام (2018)، تُحَيِّر جيل الشباب من الكتّاب الأفارقة. وهذا حال الراوي، «ديجان لاتير فاي»، النسخة الورقية لـ«محمَّد مبوغار سار»، وأحد أعضاء الوسط الأدبي لمجتمع المهاجرين الأفارقة في باريس. يقتفي «ديجان» أثر الكاتب الغامض، ويحقّق في الأرشيف، ويحاول أن يفهم السبب الكامن وراء صمته، ويسعى إلى إعادة رسم مشواره، ويفكِّر في كتابة رواية عن هذا النجم ذي المصير المتفرِّد. تحقيق سيتنقَّل به بين (السنغال، باريس)، و(الأرجنتين، باريس)، ثم السنغال مرّة أخرى…

فيما يلي لقاء مع «محمَّد مبوغار سار»، رجل «ذو دماغ محكم الصنع»، كما يكتب في وصف شخصيّاته.

كتبت، في مدوَّنتك الموسومة بـ «أشياء مشاهدة. الأدب بدلاً من الحياة»: «في عالم مثالي، لا ينبغي لأيّ كاتب أن يتحدَّث بعد الكتابة، (…)، ولكنني لست في عالمي المثالي». إذا كان نزوعك الطبيعي يميل بك نحو الصمت، فحياتك الجديدة، بصفتك حائزاً على جائزة «غونكور»، لن تكون في منتهى السهولة…

– في الواقع، قد يكون العديد من الكتّاب مأخوذين بغواية الصمت أو الاختفاء وراء العمل الأدبي، كما يفعل «كونديرا». من جانبي، أودّ، حقّاً، أن يكون العمل قادراً على الدفاع عن نفسه، وأن يتلقَّى انتقاداته وحده، ولكننا، أيضاً، بتنا نحتاج لسماع كلام المؤلِّف أكثر وأكثر، واكتشاف نبرة صوته، وسماعه وهو يتحدَّث عن طريقته في الاشتغال، أو يطرح آراءه. وللأسف، إن العمل وحده لم يعد كافياً، مع أن الحديث يشكّل، رغم ذلك كلّه، تمريناً يسمح لي أن أوضّح تفكيري ومنهجي.

هل قمت بوضع التصميم المدروس جدّاً، لهذا الكتاب، منذ البداية، أم أنه فرض نفسه مع التقدُّم في الكتابة؟

– مع التقدُّم في الكتابة. أنا أشتغل هكذا، بشكل عامّ. لا أضع تصميماً محدَّداً من البداية؛ ولهذا السبب كانت فترة الكتابة طويلة جدّاً (ما يقرب من الثلاث سنوات). كلّ ما أردت وضعه في هذه الرواية، استغرق وقتاً ليتناغم بطريقة مرضية إلى حَدّ ما. أردت، أيضاً، أن أقول، من خلال شخصية الروائي هاته، إن المشاكل نفسها تظلّ قائمة في نهاية المطاف. السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية، في الواقع، هو سؤال الزمن، الذي حاولت تقديمه من خلال أصوات تعبِّر عن نفسها في أوقات زمنية مختلفة ومتقاطعة. في الواقع، نحن لا نترك أشباح الماضي لتنعم بالهدوء، فليس الماضي هو من يطاردنا، بل نحن من نطارد الماضي.

أهديت هذه الرواية للكاتب المالي «يامبو أولوغيم» الذي نال جائزة «رونودو» في عام (1968)، عن روايته الأولى «واجب العنف – Le devoir de violence»، والذي اتُّهم، فيما بعد، بالسرقة الفكرية. هل ألهمتك هذه القصّة كتابة «الذاكرة الأكثر سرِّيَّةً للبشر»؟

– قصّة الاتِّهام بالسرقة الفكرية هاته، بعد نشر كتاب «واجب العنف»، هي واحدة من القصص التي استلهمت منها روايتي، على الرغم من أن الأحداث ليست تجسيداً لسيرة «أولوغيم»، على الإطلاق. إن الأمر لا يتعلَّق بتخييل غير ذاتي (exofiction)، ولنقل إن شخصية «أولوغيم» موجودة في الخلفَّية. فلطالما كنت مفتتناً بقصّة هذا الرجل الذي كانت حياته، في حَدّ ذاتها، رواية. كتابه جميل جدّاً، وشجاع جدّاً، وأسلوبه مبهر. شجاع ووحيد، لأنه يتناقض مع تاريخ الأفكار في ذلك الوقت. وقد انتُقِدت رواية «واجب العنف»، من قِبَل أنصار تيّار الزنوجة (négritude)، مثل «سنغور»، و«أمباتي با»، وبعد فضيحة السرقة الفكرية، من طرف مجموعة كاملة من الصحافيين والكتّاب من الوسط الأدبي الفرنسي. لقد وصف «سنغور» الرواية بـ «المروِّعة»، لأنها تستند إلى رؤية للقارّة الإفريقية تتعارض، تماماً، مع ما كانت الزنوجة تحاول قوله من أن القارّة الإفريقية كانت جنّة قبل وصول الاستعمار الأوروبي إليها. اكتفى «يامبو أولوغيم» بالقول إن هذا الاستعمار سبقه استعمار آخر عربي، وحركات استعمارية أخرى داخلية في القارّة. ومن الواضح أن مثل هذا القول لا يتناسب مع فكرة إعادة التثمين، التي كان الزنوجة تعمل من أجلها، والتي كانت، هي الأخرى، تتمتَّع بالمشروعية نفسها. هاتان الشرعيَّتان دخلتا في صراع، لكن القبول بالأولى كان أمراً صعباً.

نشرَ «تي. سي إليمان»، مؤلِّفك السنغالي الشابّ، روايته في عام (1938). وقد استخدمت كلمة «زنجي» منذ المقالات الصحافية الأولى التي تحدَّثت عنه.

– في عام (1921)، عندما فاز الكاتب الغياني «رينيه ماران» بجائزة «غونكور»، نشرت عنه بعض المقالات الأبوية والعنصرية إلى حَدّ ما. وفي عام (1938)، لم تتغيَّر العقليّات. وتعلمون أن كلمة «زنجي» كانت لا تزال موجودة في عام (1968)، سواء في الصحافة أو في كتابات الناشرين. وبما أن «سنغور» كان لا يزال على قيد الحياة، فإن المصطلح كان يستخدم بشكل دارج، والمشكلة هي أنك لا تعرف أبداً بأيّ معنى. ففي بعض الأحيان يكون عنصرياً واضحاً، وفي أحيان أخرى يكون استخداماً أدبياً أو مفصولاً عن سياقه الاعتيادي.

ديجان لاتير فاي، ساردك الشابّ، الروائي السنغالي المفتتن بمصير «إليمان»، والذي يمثِّل -إلى حَدّ ما- نسختك الورقية، يتحدَّث بطريقة ساخرة جدّاً عن الوسط الأدبي الصغير لمجتمع الشتات الإفريقي في باريس، حيث يسمِّيه «غيتو-ghetto». هل الكُتّاب الأفارقة، في باريس، اليوم، يصفون أنفسهم بهذه الصفة؟

– نعم. يكفي أن تَلجي الوسط الأدبي الإفريقي تسمعي الكلمة تقال بنوع من السخرية والعطف معاً. إنها بيئة لها نقط تشابه مع الغيتو، بالمعنى الحرفيّ؛ أي تقع على هامش العالم الأدبي الفرنسي. نحن نعيش فيما بيننا، نشكّل فضاءً منفصلاً، فيه صداقات، وخصومات، وكوميديا، وتراجيديا، وجمال أيضاً.

هل تعتقد أن الوسط الأدبي الفرنسي لا ينظر، بالطريقة نفسها، إلى مؤلِّف قادم من السنغال، ومؤلِّف وُلِد بمدينة «تولوز»، على سبيل المثال؟

– في الواقع، لا أعتقد أنني أوضع في مستوى المؤلّف الفرنسي نفسه. هذا ليس أمراً إيديولوجيًّا، ولكن عندما نقوم بدراسة السوسيولوجيا الأدبية، ندرك أن تصوُّرات وتوقُّعات الناشرين أو الجمهور حولنا، ليست، في الواقع، هي نفسها حول باقي الكتّاب. هناك مؤلَّف مهمّ من إنجاز الباحثة «كلير دوكورمون»، عنوانه «صناعة كلاسيكيي الأدب الإفريقي»، تبيِّن فيه كيف أن عدداً من الكُتّاب الذين يتمّ اعتبارهم، اليوم، كتّاباً كلاسيكيِّين تمَّت صناعتهم، تقريباً، من قِبَل ماكينة النشر الأدبي الفرنسية، من خلال مجموعة من الاستراتيجيات الترويجية، وغيرها، التي -ربَّما- تعمد إلى وسائل من خارج الميدان الأدبي، ولا تحظى بموافقة المؤلّفين أنفسهم، فحسب، بل بمشاركتهم فيها، أيضاً.

عندما تكون كاتباً إفريقياً، يتمّ تصنيفك على الفور، ويتعيَّن عليك تناول عدد معيَّن من الثيمات؛ فمثلاً، عندما كنت في مدينة «سان مالو» بمناسبة حصولي، هناك، على جائزة الأدب العالمي عن روايتي الثانية، قالت لي إحدى القارئات، بحُسْن نيّة: «أنا أحبّ الكُتّاب الأفارقة حقّاً؛ لأنهم يخبروننا عن العالم». ماذا تعني هذه الجملة؟ إنها جملة ملؤها الودّ الصادق، ولكنها ربَّما تعني أيضاً: «أنا أقرأ لك لأني أتوقَّع منك أن تخبرنا عن العالم». باختصار، نحن ماركة، علامة، وهذا أمر خطير كما لو أن هناك جيش من الكتّاب الأفارقة يتعيَّن عليهم جميعاً أن يكتبوا الشيء نفسه.

هناك شخصية من شخصيّات روايتك تتحدَّث عن المنفى، دون أيّ احتمال للعودة. ماذا عنك أنت؟

– تمثِّل العودة إلى البلد الأصلي أحد المواضيع الأدبية، والكونية، ولكن عندما يعود الكتّاب محمَّلين بذكرياتهم، فإنهم لا يجدون بلدهم على النحو الذي تخيَّلوه، وغالباً ما يقعون فريسة للاكتئاب، ويغرقون في الحنين إلى الماضي، ويرضون -مكرَهين- بهذا الحال. وقد قالها «داني لافيريير»: «العودة لغز»، وهو الذي يُعتَبر أشهر منفيّ في الأدب المكتوب باللّغة الفرنسية، ولديه مفهوم خاصّ للمنفى، مفهوم لا علاقة له بالنزعة إلى استعراض الألم، فهو يعتبر أن المنفى هو طريق يشكِّل جزءاً من تجربة وجودية؛ لذلك لا حاجة بنا لتضخيمه أو تعظيمه، وأنا أتَّفق مع مفهومه هذا، بشكل كلِّي.

كتبتَ تقول عن «إليمان»: «من المحتمل، في واقع الأمر، أن أيّ كاتب لا يحمل إلا كتاباً أساسياً واحداً، فقط، مؤلَّفاً جوهريّاً وحيداً، يكتبه في حياته كلّها». هل أنت شخصياً تخشى هذا الاحتمال؟

– فكرة عدم الكتابة لا ترعبني، بشكل أساسي. يحاول كلّ منّا أن يكتب كتابه الأخير، الكتاب الذي يجمع كلّ هواجسه، ثم نمضي قدُماً. أنا أتوق إلى معرفة اللحظة التي نُقَدِّر فيها أن ما كان علينا قوله قد قيل، بالفعل. ولكن، ربَّما كان هذا توهُّم «شاب» لا أكثر، فأنا ما زلت مسحوراً بالكتاب، وبالأدب كفعل مطلق. وفي الواقع، لا يوجد شيء حاسم أو نهائي حول هذه المسألة، فمن بين الكُتّاب المفضَّلين عندي يوجد «بلزاك»، ولا يمكن القول إنه كتب نصّاً واحداً قبل أن يتقاعد.

حوار:  ماريان بايو
ترجمة: حياة لغليمي
العنوان الأصلي والمصدر:
Mohamed Mbougar Sarr: “j’essaie de tendre vers une singularité»
https://www.lexpress.fr/culture/mohamed-mbougar-sarr-j-essaye-de-tendre-vers-une-singularite_2161843.html

مواضيع مرتبطة

ألبير كامو.. الظلّ والضياء
ترجمة: محمد جاتم 07 سبتمبر 2022
لم يكن الأمر ليكون! قـمم يأس إميل سيوران
ترجمة: محمد الناجي 07 يوليو 2021
كلاوديو ماغريس، وماريو فارغاس يوسا.. مرافعة للدفاع عن الأدب
ترجمة: عزيز الصاميدي 26 مايو 2021
فولفغانغ فايراوخ.. “استعدادات لاغتيال الطاغية”
ترجمة: عماد مبارك غانم 26 أبريل 2021
جين كورتيز.. سريالية الهوامش
الحبيب الواعي 17 مارس 2021
هاروكي موراكامي: الأدب وحده لن يكون كافيا
ترجمة: عزيز الصاميدي 24 فبراير 2021
هيرفيه لو تيلييه.. مواجهة المرء لنفْسه
ترجمة: فيصل أبو الطُّفَيْل 01 يناير 2021
تورغوت أويار: «حبّي يؤلمني من التعاسة المتكاملة لبني البشر»
ترجمة: صفوان الشلبي 16 نوفمبر 2020
فرانثيسكو برينيس: الشعر هو قول أشياء مؤلمة
ترجمة: أحمد عبد اللطيف 15 نوفمبر 2020
عدالت آغا أوغلو.. الأدب التركي يفقد زهرة خياله!
سمية الكومي 01 سبتمبر 2020