مديح التأخُّر!.. الوقت في طريقه إلى الانقراض

| 06 أبريل 2020 |
إذا كنّا، على الدوام، في عجلة من أمرنا، فلأن نبض الحياة اليومية صار محكوماً أكثر بالتسارع، ومسكوناً باستباق اللحظة، ومنذوراً لإنجاز المهمّات والتخلُّص من عبئها في أسرع وقت ممكن. ولأننا نبذل كلّ ما في وسعنا لمجاراة سرعة العالم الحديث، باتت الغالبية العظمى من الناس تمجّد السرعة، بوصفها فضيلة لا مناص لإنسان العصر الحديث من التحلّي بها، في مختلف مناحي حياته، وتحطّ من قدر التباطؤ والتأخُّر المنظور إليهما، غالباً، بوصفهما رذيلة تزري بصاحبها، وتلقي به خارج سرب الحداثة والتطوّر ومواكبة العصر.
وإذ «بضدِّها تتبيّن الأشياء»، تتبنّى «هيلين لويّي – Hélène L’Heuillet» في مؤلَّفها «في مديح التأخُّر – Éloge du retard» (ألبان ميشيل، 2020) ، تصوّراً مبتكراً يخالف السائد، حيث تُعَدِّدُ هذه الباحثة فضائل التأخُّر، وتبرز مزاياه، وتستعرض المنطلقات والأسس الثاوية خلف من ينتهجه فلسفةً في الحياة، ومن يتبنّاه شكلاً من أشكال مقاومة سلطة الوقت، واطّراح وسواسه، وإعادة ضبط بوصلته بما يتيح الفرصة لإبطاء الإيقاع، وإبطال ضغط الزمن واستعادة الصفاء الذهني الذي من شأنه أن يسعفنا في ترقُّب الأشياء، واستشرافها، والإحساس بقيمتها، وتذوُّق جمالها بتأنّ، وتروٍّ، واتِّزان.
ينقسم العالم، بالنظر إلى علاقة الفرد بالزمن، إلى فئتيْن: فئة تصل دائماً في الوقت، وربَّما قبله بقليل، وفئة لا تعبأ بالوقت، ولا تعير بَالاً لتأخُّرها عن الموعد المحدَّد خمس عشرة دقيقة أو أكثر. الفئة الأولى يعتريها قلق وجودي يغذّيه توجّس من عدم الالتزام بالوقت والوفاء بالموعد، همّها الوحيد إثبات وجودها بحضورها في اللحظة نفسها التي يتعيَّن على الطرف الآخر الوفاء بها؛ لذلك غالباً ما تكون عيون أصحاب هذه الفئة مسمَّرة على عقارب الساعة حيث تستحوذ على تفكيرها فكرة الاستثمار الأمثل للوقت، وإغلاق منافذ إهداره، والتحقُّق من الامتثال الحرفي لجدول المواعيد، واستبعاد فرص تعديله إلّا عند الضرورة القصوى.
أمّا الفئة الثانية فلا تزجّ بنفسها في دوّامة السرعة، ولا تراقب عقارب الساعة، لكنها تفلت، بذكاء، من خيوط شرنقة الوقت، إذ تتنصّل من مسؤولية الالتزامات والوفاء بالمواعيد، لا يشغلها سوى التخفيف من وطأة الإسراع ومن وتيرة العجلة، واتِّخاذ مسافة كافية لاستباق الأشياء والأحداث؛ فبالنسبة إلى هذه الفئة، تتجلَّى قيمة الوقت في اللحظة التي نعيشها، ونحن أحرار، بعيداً عن كلّ قيد زمني أو سباق يائس مع الزمن، وهذه إحدى مميِّزات «الأشخاص البطيئين» الذين يسلّمون، مسبقاً، بعدم الجدوى من محاولة مجاراة عصر السرعة الذي يتبوّأ مكانة خاصّة ضمن العالم الصناعي الحديث، تجعله أنموذجاً مثالياً للنموّ والتطوُّر والحياة. فبينما تنخرط إيقاعات العمل والحياة في تسارع مستمرّ، لم يعد التأخُّر يرمز إلى الفوضى والاستهتار واللامبالاة، بل- على العكس من ذلك- صار التأخُّر حالة وجودية عامّة تلقي بظلالها على الكثيرين. وضمن هذا السياق، تتساءل الكاتبة: ألم يحِن الأوان، بعد، لكي نستعيد شكلاً من أشكال الحرّيّة في علاقتنا بالوقت؟ ألا يمكن- مثلاً- التخلّي، نهائياً، عن فكرة تدبير الوقت بطريقة أكثر فاعليّة وإنتاجيّة؟
يمثِّل التأخُّر المجال الذي تسعى الباحثة إلى استكشاف أسراره، حين تدافع عن فكرة مؤدّاها أننا إن تأخرنا قليلاً فسنجد الوقت اللازم لتحقيق رغباتنا وآمالنا بدل إبادة الوقت في إشباع نزواتنا واندفاعاتنا المحمومة نحو الأشياء، وأن نواجه فكرة «شحّ الوقت» وضيقه وتقليص حيّزه الذي لم يعد كافياً لإنجاز المهمّات المتتالية، بما يمنحه التأخُّر من فرصة للتعمُّق في الأشياء، والنفاذ إلى حقيقتها، وقد قادها ذلك إلى التركيز على «الإيقاع الخاصّ» للأشخاص البطيئين.
تحقِّق الباحثة في الجذور التاريخية لكلمة «بطيء»، لتتوصَّل إلى أن استعمالات هذه الكلمة قديماً (منذ العصور الوسطى) لم تكن تنطوي على أيّ دلالة سلبية كما هو معهود الآن، فإلى حدود بداية القرن الخامس عشر الميلادي، كانت اللفظة اللاتينية «lentus» تحيل، عند الشعراء وعلماء الطبيعة، على كلّ ما يتَّسم بالليونة والمرونة مثلما يدلّ نقيضها على كلّ ما يتَّسم بالجمود والصلابة. وتشير الباحثة، أيضاً، إلى أن هذه الكلمة قد استُخدمت- بالدرجة الأولى- في عالم النباتات، وفي إطار الممارسات التأمُّلية للطبيعة، كما أنها لم تشهد انتقالها الدلالي إلّا في عصر النهضة حيث صار «البطء» مرادفاً لـ«النقص في السرعة»، ومنطوياً على مفاهيم الكسل والتقاعس والتراخي وحتى الشهوة. وهكذا، صار البطء هو الخطر الذي يهدِّد المجتمعات الحديثة، حيث استُخدم-على مرّ القرون- كأداة رئيسة تقاوم المسيرة المزعومة للتقدُّم الإنساني بيد أن وجود الأشخاص البطيئين يفتح، مع ذلك، عدّة ممكنات، تنضوي جميعها تحت شكل من أشكال المقاومة، بحسب ما تراه الكاتبة.
وانطلاقاً من الرفض المعلن لسلطة الخضوع للساعة، تنبّه «هيلين لويي» إلى أن الوقت-من وجهة نظر فلسفية- «في طريقه إلى الانقراض» وأن علاقتنا به تجعلنا «مذبذبين ومكبّلين». ووفق هذا المنحى، تدعو الكاتبة إلى إعادة استثمار الفارق الطفيف الذي يتَّصل بالوتيرة المفروضة علينا. مع ذلك، تظلّ هذه الدعوة غامضة؛ إذ كيف يمكن الدفاع عن شيء يمتلك كلّ خصائص السلوكيات المعاصرة غير المتمدّنة التي تقوم على تجاهل وقت الآخرين، وعلى غضّ الطرف عن اختلاف السمات الزمنية عند الآخر؟
إن التأخُّر الذي تدعو إليه الكاتبة لا يعني إيلاء مزيد من الاهتمام للوقت، بقدر ما يفيد اتِّخاذ مسافة بيننا وبين الوقت حتى نحقِّق قدراً من الاستمتاع بمباهج الحياة، ونكون قادرين على تقدير قيمة اللحظات التي نعيشها. والعبرة التي يمكن أن تُستخلص ممّا سبق هي أن الأشخاص البطيئين يتميّزون بوضع خاصّ؛ فهم- أوّلاً- يرفضون الامتثال لأوامر النسق العامّ، الذي يعتنق روّادُه الفكرة القائلة: «كلّما أسرعت أكثر، حُزْتَ قَصَبَ السبق وحقّقْتَ نجاحات أكبر»، وهم- ثانياً- يجعلون من تباطئهم فرصة لتقليب الأمور على وجوهها المحتملة، واختيار الأنسب منها والأصلح، وتجنب مطبّات العجلة ومزالق الإسراع في كلّ ما له علاقة باتِّخاذ القرارات الحاسمة التي تترتَّب عنها، بالضرورة، تغييرات جذرية في مسارات الحياة.
إننا نسابق الوقت، ونخوض ضدّه مختلف أشكال التحدّي مع أننا نعرف، مسبقاً، أن النتيجة حتمية؛ فالوقت يسبقنا، ويحتوينا في النهاية. إنه يحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، فلا غرابة أن يوكَل لساعاتنا اليدوية مهمّة ضبطنا وتوجيهنا ومحاصرتنا في يقظتنا وحتى في غفواتنا، التي نصحو منها مذعورين خوفاً من أن نجاوز المدّة الزمنية المسموح لنا بها. نحن، إذن، في حاجة دائمة إلى منبع وقتي غير قابل للنضوب، لكن هيهات: فالوقت هو الشيء الذي يرفع، منذ البداية، شعار الخصاص، ويستعلن حربائيَّته وسرابيَّته في افتقار الناس إليه، ومراهنتهم عليه. وهكذا، نحن ندور في المدار نفسه لأننا أسرى الوقت الذي أضاع مفتاح الزنزانة، ليطلّ علينا من نافذتها لماماً، ساخراً وساحراً.
الهامش:
1 – هيلين لويي: أستاذة الفلسفة والتحليل النفسي في جامعة السوربون، بفرنسا. من مؤلفاتها: التحليل النفسي نزعة إنسانية، (غراسي)، 2006