مهن «الباك أوفيس».. الشرف المُستعاد!

| 15 يوليو 2020 |
لطاما تغنَّت النزعة الفرديّة الليبراليّة بوهم غياب المُجتمع. ولكن ماذا لو كان من بين الدروس المُستفادة من جَائِحة كورونا إعادة الاعتبار للمهن المُستهجنة (مهن الباك أوفيس back office)، ووضعها تحت دائرةِ الضوء؟ تلك هي فرضيّة عَالِم الاجتماع «دوني مايار Denis Maillard»، الذي يدعو إلى إعادة التفكير في الصراع الطبقيّ وفق أسسٍ جديدة.
نص المقال:
في كتابه «رصيف ويغان – Le quai de Wigan» والصادر سنة 1937، يتحدَّث جورج أورويل عن عُمَّال المناجم العميقة في شمال إنجلترا، إذ يشبههم بتماثيل «كارتيد قذرة»، لأنّ حياة المجتمع بكامله تتوقَّف على نتيجة كدحهم تحت الأرض. إنّ عملهم القائم على استخراج الفحم هو في الواقع «عَالَم بعيد ومختلف، من الوارد جداً للمرءِ ألّا يراه ولو مرّةً واحدةً طيلة حياته، بل من المُحتمل أن معظم الناس يفضلون ألّا يسمعوا عنه شيئاً. مع أنه يشكِّل في حقيقة الأمر النظير الإلزاميّ لعَالَمنا الفوقيّ». وبالتالي، فإننا نعتمدُ عليه في «جميع الأنشطة التي نمارسها تقريباً، سواء أتعلَّق الأمر بتناول الآيس كريم، أو عبور المحيط الأطلسيّ، أو طهي الخبز، أو كتابة رواية».
وفي فرنسا، لم يعد هناك وجود لعُمَّال المناجم، ولكن ظهرت فئةٌ أخرى شغلت موقعهم في المُجتمع، وهي فئة المُشتغلين بمهن «الباك أوفيس»، أي صغار العُمَّال، وَقّادو الاقتصاد- من عُمَّال التوصيل إلى أُمناء الصندوق- الذين خاطروا بحياتهم، إلى جانب مُقدِّمي الرعاية الصحيّة، للحفاظ على الخدمات الأساسيّة، وذلك منذ شهر مارس/آذار وإلى الآن. فالحَجْرُ قد سلَّط الضوءَ على دورهم الحيويّ داخل المُجتمع، كما سلّط الضوءَ أيضاً على البنية التحتيّة التي يقوم عليها النظامُ الاقتصاديّ والمُجتمع ككلّ.
إن عبارة «الباك أوفيس» (وتعني حرفيّاً: المكتب الخلفيّ) يمكن أن تخلق بعض الالتباس: ففي المقاولات، تستعمل عبارة «الفرونت أوفيس» (وتعني حرفيّاً: المكتب الأماميّ) لتسمية المُوظفين الذين هم على اتصالٍ مباشر مع العملاء أو الزبائن أو المرضى. و«الباك أوفيس» يشير إلى أولئك الذين ينتجون البضائع، وينقلونها، ويقومون بتوصيلها. ولسوء الحظ، فإنّ هذا التمييز، الذي هو وصفيٌّ بحتٌ، لا يعكس المكانة التي يشغلها كلّ فرد، بشكلٍ ذاتيّ، في عملية الإنتاج، فضلاً عن أنه لا يترجم التجربة الحيّة للعمل الذي يستمده منها.
دعائم المُجتمع غير المرئيّة
ومع ذلك، يمكننا أن نتحدَّث عن «المكتب الخلفيّ للمُجتمع»، لأن هذه المهن الأساسيّة تمثل البنية التحتيّة الضروريّة لنا من أجل الحصول على الطعام والرعاية الصحيّة والأمن والتعليم. والواقع أن مجتمع الخدمات، الذي بتنا نعيش فيه الآن، قد عمل بشكلٍ مضمر على إعادة توزيع أساسيّة للأدوار الاجتماعيّة، حيث رسم مع مرور الزمن معالم مجتمع منقسم بين أولئك الذين يقفون على الجانب غير المرئي من العمل، المُجبرين على خدمة الغير- الباك أوفيس- وأولئك الذين يتمتَّعون بالوقوف على الجانب المرئيّ من العمل والمُعترف بقيمته، حيث تتنامى قدراتهم وتزداد – الفرونت أوفيس. ويضم الباك أوفيس عدداً لا يُحصى من المهن المُسخَّرة لدعم وخدمة الأشخاص الذين يشغلون مناصب تحظى بأكبر قدرٍ من الاحترام ومن القيمة، إِنْ على المستوى المالي أو الرمزي.
وتندرج هذه المهن ضمن فئاتٍ ثلاث: أولاً البنية التحتيّة اللوجستيّة، المُتكوِّنة في الغالب من الذكور (جامعو النفايات، عمال الشحن والتفريغ، سائقو الرافعات، وعمال النقل والسائقون على اختلاف أنواعهم، وأمناء التخزين وعُمَّال التوصيل… إلخ)؛ تأتي بعدها البنية التحتيّة التجاريّة، وتضم 70 % من الإناث (المُكلفات باستخلاص الأثمنة، البائعات، ولكن أيضاً حراس الأمن، وغاسلو الصحون، والنوادل، والمضيفات، ومُقدِّمو الخدمات عن بُعد… إلخ). وأخيراً، البنية التحتيّة الصحيّة والمنزليّة المعروفة أيضاً باسم مهن الرعاية «Care» وتضم 75 % من الإناث، حسب مركز الدراسات Ifop، (عاملات الحضانة، والمُربيّات، والمُشتغلات بالبيوت ،وعُمَّال الصيانة، وفنيّو البستنة، والمُتعهِّدون برعاية كبار السنِّ، ومساعدو التمريض والمُمرضات، ولكن أيضاً المُعلِّمون). ولا يملك هؤلاء العُمَّال، الذين يعاني معظمهم من الفقر، حرّيّة اختيار مكان العمل أو توقيته أو ظروفه أو الشروط المُنظِّمة له. فتكون النتيجة مزيداً من التشدُّد والتكثيف في العمل مما يُعرِّضهم لمشقةٍ كبيرة.
بيد أن الفترةَ الاستثنائيّة التي نعيشها سلَّطت عليهم الضوءَ بشكلٍ غير متوقَّع، إذ إنهم حصلوا على اعترافٍ لم يكن أحد يُبديه لهم من قَبل. ينضاف إلى ذلك اكتشافٌ فلسفيّ: إذ إنّ مفهوم الباك أوفيس بقدر ما هو اجتماعيّ فهو ظاهراتيّ، بل أنثروبولوجيّ أيضاً. إنّ الضوءَ الذي سلّطته الأزمة على هذه المهن يتيح لنا الغوصَ مباشرةً في قلب البناء الاجتماعيّ لفهم الكيفيّة التي يشتغل وفقها، سواء على المستوى الواقعيّ أو على المستوى الرمزيّ.
يمكن القول بأن وجود الباك أوفيس جاء ليمثِّل تجسيداً اجتماعيّاً واقتصاديّاً للديموقراطيّة الليبراليّة كمشروعٍ فلسفيّ. وكما تنبَّأ بذلك كلٌّ من «ألكسي دو توكفيل Alexis de Tocqueville» أو «بنجامين كونستان Benjamin Constant» في القرن التاسع عشر، فإنّ المجتمع تمَّ تنظيمه بحيث يمكن لأفراده أن يعيشوا ويضمنوا لأنفسهم فرص النماء الذاتيّ دون أن يهتموا لشأن المجتمع نفسه، ولا للكيفيّة التي تجعله قائماً، بل دون أن يهتموا لوجوده أصلاً. وهذا ما وصفه كونستان بـ«حرّيّة العصر الحديث». وبفضل الدولة والحقوق الفرديّة التي تضمنها، يمكننا أن نعيش «منفصلين – معاً». فمن وجهةِ نظرٍ فلسفيّة، يعتمد الجميع على حقوقهم الفرديّة لشق طريقهم وتحقيق نمائهم الذاتيّ دونما الاهتمام بالآخرين. أمّا من وجهة نظر ماديّة، فالجميع يعتمد على مهن الباك أوفيس لتحقيق هذا النماء الذاتيّ. ومع أن الباك أوفيس يمثل العنصر الماديّ الملموس الذي يتيح لنا العيش في المجتمع إلّا أنه يظلّ غير مرئي. ولا تنكشف هذه الحقيقة الاجتماعيّة إلّا خلال الأزمات. ومنذ 15 مارس/آذار، قفز الباك أوفيس إلى دائرة الضوء وأصبح مرئيّاً وأساسيّاً في نظر الكلّ. ورأينا الجميع يقف ليشكرهم ويصفق لهم ويعترف بدورهم. ولكن هل يعني ذلك أنهم سيأخذون حقوقهم؟ وهل يكون لهم وزنٌ في «عالم الما بعد»؟ هل تكون الحفلة قد انتهت فور بدايتها؟
هناك عِدّة أخطار تتهدَّد مهن الباك أوفيس: ومن عجيب المُفارقات أن تأتي في مقدِّمة هذه الأخطار «المُكافأة» التي وُعِدَ بها مَنْ يعملون بالمستشفيات باعتبارهم كانوا على الخطوط الأماميّة في مواجهةِ الوباء. إذ يمكن لهذه المُكافأة أن تصم الآذان عن مطالب قطاعات الباك أوفيس الأخرى التي لا تقلّ أهمِّيّة ولا مشروعيّة عن مهن الرعاية الصحيّة، خاصّة وأن من المُنتظر أن نشهد وضعاً يغلب عليه الكثير من التناقض: فمن ناحيةٍ، سيتم تسريح عددٍ هائل من العاملين في القطاعات التي لن تستطيع العودة بسهولة إلى سابق عهدها قبل الوباء؛ ومن ناحيةٍ أخرى، ستعرف ظروف العمل تشديداً بالنسبة لجميع مَنْ سيحافظون على وظائفهم في أقسام مُعيَّنة من ميدان الخدمات اللوجستيّة وميدان الرعاية. وفي ظلّ هذه الظروف، لا يتوقَّع حدوث زيادة في المُرتبات.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ الفترةَ القادمة ستكون فرصةً مواتية لبروز ظاهرةٍ أخرى، وهي تعويض الإنسان بالآلة في هذه المهن. إذ سيهم ذلك بالخصوص جزءاً من موظفي الباك أوفيس العاملين في الخدمات اللوجستيّة أو المُكلّفين بالبيع. فعالم «اللا تلامس» الذي فرضه الحَجْرُ من المُنتظر أن يمتدَّ بسرعة ليُغيِّر شكل المهن الروتينيّة التي يمكن فيها للآلة أن تعوِّضَ الإنسان. ولما أصبح الحفاظ على الصحة يقتضي التباعُد فهذا يعني إعادة هيكلة كاملة لسوق العمل في اتجاه الحَدِّ من الاتصال البشريّ؛ وهناك صلة وطيدة بين التشغيل الآليّ ومكافحة الوباء. وهذا الأمر يهمُّ مثلاً موظفات استخلاص الأثمنة اللائي يتحدَّث الجميع حالياً عن جدارتهن، وعن شجاعتهن. ولكن الحظر الصحيّ الذي يجعلهن مفيدات اليوم قد يكون هو نفسه السبب في تسريع اختفائهن في المستقبل؛ وينطبق الأمر نفسه على أمناء المخازن والمُعِدِّين الذين أصبح متاحاً اليوم تسييرهم عن طريق التحكُّم الصوتيّ. يبدو أن الظروف كلّها تتضافر في اتجاه نشأة عالم يكون فيه الشرف المُستعاد لمهن الباك أوفيس قصير العمر. والمجهود السياسيّ الرامي إلى توحيد هذه المهن وحمايتها والدفاع عنها سيشكّل أكثر من أي وقتٍ مضى الرهان الأقوى خلال «مرحلة الما بعد».
دوني مايار
المصدر:
Philosophie Magazine, يونيو 2020