موقف المثقَّف بين المتنبِّي والمعرّي وطه حسين

| 20 مايو 2021 |
نستكمل، في هذا المقال، ما بدأناه في العدد الماضي من الكشف عن أن طه حسين، في كثير من دراساته التي كتبها عن الأدب القديم، كان يزن الكُتَّاب والشعراء، بميزان الجدل العقلي والنقد الموضوعي الذي يموضع الكاتب أو الشاعر في العصر الذي انبثق منه، ومارسَ فاعليَّته فيه، بالإضافة إلى حرص طه حسين، في الوقت نفسه، على استخدام هذه الدراسات كمرآة للتناظر مع الواقع أو التناقض معه، وكأنه يضرب بأعلام أدبنا القديم المَثل الذي يُحتذى -كما هو الحال مع المعرّي – أو الذي لا يريد له أن يسود في الواقع الراهن، فيكشف للقرَّاء سوءاته، كما هو الحال مع المتنبّي.
بعد أن صَحِبَنا في (مع المتنبّي) في رحلة تكوينه النفسي، والاجتماعي، والمعرفي، وكيف بدأ يكوِّن زاده الشعري، واللغوي، ثم كيف استخدم هذا الزاد في مدح ذوي الجاه والسلطان؛ يلفت نظر قارئه، بعدما مضى معه أشواطاً في مسيرة المتنبّي الحياتية، والشعرية، إلى ظاهرة مهمّة تتعلَّق بأهمَّ ما خَلَّد هذا الشاعر؛ أي براعته الشعرية وتجويده لفنّه: «أنَّ ظاهرة قد اطردت فِي حياة هَذَا الشاعر، فهو لم يستطع أنْ يرقى بفنّه إلّا فِي ظلِّ حامٍ يحميه ويعطف عليه، وهو لم يستطع أن يعيش عيشة الشَّاعِر المنتج المرتقي بفنَّه شيئاً فشيئاً، إلّا فِي كنف الأشراف والسادة والأمراء، كأنه النبت الطفيلي، لا ينمو ولا يزهر إلّا فِي ظلّ الشجر الضخام المرتفعة فِي السماء»(1).
وياله من حكم يجهز على أيّ أمل في استقلال الشاعر، أو تعهُّده الحرّ لموهبته واستقلال مواقفه. ثم يضيف إلى هذه الطفيلية: «ولنلاحظ هذه الظاهرة بالقياس إلى شخصية المتنبّي؛ فهي تقفنا على أخصّ ما يمتاز به هَذَا الرجل من التناقض الغريب بين رأيه فِي نفسه وسيرته بين الناس، فهو قد كان، فِي شبابه، لا يطمح إلّا إلى الحرّيّة، ولا يطمع إلّا فِي الاستقلال، وهو قد ألقى نفسه فِي السجن، وعرَّض نفسه للموت فِي سبيل حرّيّته واستقلاله، ولكنه لم يكد يظفر برعاية أمير من الأمراء أو سيِّد من السادة، حتى نزل عن نفسه، وضحّى فِي سبيله بهذه الحرّيّة، وذلك الاستقلال، وأغرب من هَذَا أنَّ سيف الدولة لم يشغل المتنبّي عن غيره من الأمراء والملوك، فحسب، بل شغله، أَيْضاً، عن الشعر الخالص… فهذا كلّه يدلّنا على أنَّ المتنبّي كان يتَّخذ الشعر وسيلة لا غاية، وعلى أنه كان عبداً للطمع والمال، لا للجمال والفنّ».(ص 147 – 148).
لذلك، لم يكن غريباً أن يكرّر رأيه فيه بوضوح بالغ، لمن لم يفهم مسار تناوله له حتى وصوله إلى سيِّده الأخير «كافور»: «إلى هَذَا الحال انتهى حين فارق سيف الدولة، وألقى بنفسه بين يدي سيِّده الجديد «كافور»، جَحَد ماضيه كلّه، ورفض آراءه كلَّها، ونزل حَتَّى عمّا كان خليقاً أنْ يحتفظ به من أَيْسَر الكرامة، وأهْوَن الكبرياء، ولا تقل إنه كان محتاجاً إلى هذه الذلّة، مضطرّاً إلى هَذَا الهوان، عاجزاً عن أنْ يحيا حياة كريمة مستقلّة، خالصة للفنّ، فلم يكن المتنبّي، في ذلك الوقت، بائساً ولا فقيراً، بل كان بعيداً كلّ البعد عن البؤس والفقر، أخذ من سيف الدولة مالاً كثيراً جدّاً، ولم يسرف فِي هَذَا المال، بل أسرف فِي حسن تدبيره، وشدّة القيام عليه، حَتَّى انتهى به إلى البخل القبيح. وخرج من ملك الحمداني يسوق بين يديه مالاً ضخماً، ويحيط به عدد من الرقيق، فلو شاء أنْ يعيش حُرّاً كريماً مستقلّاً لما وجد فِي ذلك مشقّة، ولا جهداً».(ص 243).
ثم ما يلبث أن يدينه أبلغ إدانة لهذا كلّه (في تعزيز لأطروحته الأساسية عنه)، ويؤكِّد ما ذهب إليه طوال تحليله لمسيرته الشعرية، والمعرفية، والحياتية: «… أنَّ المتنبّي إنما كان شاعراً كغيره من الشعراء، ورجلاً كغيره من الناس، قد رفع نفسه فوق قدرها، وزعم لها ما ليس من أخلاقها، وطمع فيما لا ينبغي لمثله أنْ يطمع فيه. ظنَّ نفسه حُرّاً، ولم يكن إلّا عبداً للمال، وظنَّ نفسه أبيّاً، ولم يكن إلّا ذليلاً للسلطان، وظنَّ نفسه صاحب رأي ومذهب، ولم يكن إلّا صاحب تهالُك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمراً، وأهونهم شأناً».(ص244).
وكأني به يجمع، هنا، جلّ القيم التي يجب على المثقَّف أو على الشاعر الحقّ، أن يتحلَّى بها: الحرّيّة التي لا ترضى، بأيّ شكل من أشكال العبودية، سواء أكانت للمال أم كانت للسلطان، والإباء الذي يحمي به عزّة نفسه وكرامته من كلّ سوء، والوعي بضرورة أن يكون المثقَّف صاحب رأي وموقف ممّا يدور في الواقع الذي يصدر عنه، وألّا يتهالك على المنافع التي يتهالك عليها أيسر الناس. ويضعها جميعاً مرآة لمن يريد، حقّاً، أن يرى نفسه، وأن يزن الآخرين بالعدل.

لذلك، كان طبيعياً، وقد أقام تلك المرآة، أن يرينا فيها الوجه الآخر للمتنبّي. حينما يقيم تناظراً بينه وبين أبي العلاء المعرّي، من حيث الوعي والموقف واستقلال المثقَّف: «وقد جاء بعد المتنبّي رجل آخر، رفع نفسه عن الدنيا وعن شهواتها ولذّاتها ومنافعها العاجلة، واحتقر الناس وازدراهم، وأنكر الملوك والأمراء، وزهد فِي التقرُّب إليهم والدُّنوِّ منهم، وأراد لنفسه أنْ تكون نفس الرجل الحرّ الكريم، ولعقله أنْ يكون عقل الرجل الحكيم الفيلسوف، فوفى لنفسه وعقله بكلّ ما أراد، ولم يكن أَقلّ شاعريّةً من المتنبّي، ولم تسعده الأيّام كما أسعدت المتنبّي، فقد حرمته بصره، ولم تتح له من الغنى والثروة ما يكفل له لين الحياة، وخفض العَيْش، ومع ذلك عاش كريماً، ومات كريماً، ولم يتعلَّق عليه أحد بذلّة، ولم يغتمز فيه أحد هفوة».(ص244).
هنا، يقيم طه حسين أمام أيّ متأمِّل لحياة المتنبّي وشعره مرآة، عليه أن يعرض عليها صورته قبل أن يصل إلى حكم نهائي عليه؛ ألا وهي صورة الشاعر المثقَّف المستقلّ. شاعر ترفع عن الصغائر كلّها، وصبّ كلّ اهتمامه العقلي على عمله، فارتقى به إلى مصافّ الحكيم الفيلسوف. بل إن هذا الموقف سرعان ما رفد شعره بالتفوُّق الفنّي، والعمق الفكري معاً.
وحينما تناول شعره في كافور، والذي يعتبره من أعذب شعره، برهن لنا، عبره، أن «كافوراً» استطاع بفطنته، أن يكشف حقيقة المتنبّي، وأن يعامله على قدر ما استشفَّه من حقيقته، فآلم ذلك المتنبّي، وما أشد ألم مواجهة النفس لمن يخادعها!، وكيف أنه بعد أن يئِس المتنبّي من أن يولِّيه كافور ما كان يطمع فيه من ولاية، فرّ منه وهجاه. فكشف، بذلك، لا عن صغر «كافور»، فحسب، بل عن صغره هو، وهو يقول عكس ما قاله فيه لسنوات، ممّا عرّى المتنبّي حقّاً: «فالمتنبّي فِي قصّته مع كافور كلّها صغير حقّاً، صغير حين مدح، وصغير حين هجا، وصغير حين رضي، وصغير حين غضب»(ص279). ثم يسقط المتنبّي، تماماً، في عينيه، حينما يقتل نفساً بغير حقّ، لمجرَّد أنها سرقت شيئاً من متاعه. ويروي علينا قصّته في أثناء فراره من كافور متوجِّهاً إلى العراق، وكيف نزل في بعض طريقه «بأعرابي من طيِّئ، يُقال له وردان بن ربيعة، فجعل هَذَا الأعرابي يُفسد عبيده، وجعل العبيد يسرقون له من متاع سيِّدهم، فلما شعر المتنبّي بذلك، وعرف أعظم عبيده حظّاً من هَذَا الشرّ، ضربه بالسيف فأصاب وجهه وجدع أنفه؛ ثم أمر غلمانه أنْ يجهزوا عليه، ففعلوا».
ويعلِّق على ذلك: «إنما الشيء الخطير حقّاً؛ هُوَ إقدام المتنبّي على القتل فِي سبيل ما كان يسرق هَذَا العبد من متاعه، فذلك لا يصوّر بخله وحرصه على المال، فحسب، بل يصوّر، كذلك، ما هُوَ شرّ من هذا؛ يصور استهانته بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني فِي سبيل متاع يقوَّم بالدراهم والدنانير. وأَقلّ ما يوصف به هَذَا الإثم أنه لا يصوّر نفساً شاعرة متحضّرة رقيقة الحسّ، متأثِّرة بالفلسفة، فضلاً عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس فِي مثل هذه الصغائر، ولو أنَّ حياة المتنبّي كلّها خلت من النقائص والعيب، لكانت هذه الحادثة وحدها خليقة أن تسبغ عليها لوناً أحمر قانياً يبغضها ويبغض صاحبها إلى الناس»(ص288).
ويخلص من هذا كلّه إلى تذبذب المتنبّي في مسارات تبدو متعارضة، «فقد رأينا الشاعر، بعد محنته في شبابه، يُدفع شيئاً فشيئاً إلى طريق الشعراء من قبله، ويتهاون شيئاً فشيئاً في الاحتفاظ بما كان له من مذهب ورأي. رأيناهُ يُفرط في القرمطية، وإنْ احتفظ بشيء من الحنين إليها، ثم رأيناه يمدح غير العرب حين تدعوه الضرورة إلى ذلك، ثم رأيناه يتكلَّف الشعوبية في مدح الروزباري بدمشق، ثم رأيناه يعود إلى عربيَّته حين يتصل بالحمدانيين، ثم رأيناه، بعد ذلك، يُعرض عن هذه العربية، وينقطع إلى عبد زنجي أو نوبي في الفسطاط، فيمدحه ما امتدَّت له أسباب الطمع فيه، ثم رأيناه يستردّ عربيَّته ويعود إلى العراق وقد آثر الحيدة والهدوء، ثم رأيناه، آخر الأمر، يغلب على قرمطيَّته وعلى عربيَّته معاً، فإذا هُوَ يهجو القرامطة ويقاتلهم بالسيف والرمح، من جهة، وإذا هُوَ يمدح دلِّير، ويؤثر ابن العميد وعضد الدولة على صديقه الحمداني القديم، من جهة أخرى. هُوَ يعود الآن إلى العراق، وقد ضحى في سبيل المال والمجد الشخصي، بالقرمطيّة والعربيّة معاً تحت أقدام البويهيِّين».(ص312).
وينهي كتابه، بعد اكتمال الفصل الثامن «خاتمة المطاف» من الكتاب الخامس «غنيمة الإياب»، بأن يذكر أنه أملاه في «سالنش – Sallanches» في يوليو/تموز (1936)، و«كمبلو – Combloux» في أغسطس/آب (1936)، في منطقة «السافوا العليا – Haute-Savoie» جنوب شرقي فرنسا. لكنه يضيف بعد عودته إلى القاهرة، تذييلاً أخيراً يكتبه في بيته بالزمالك، في يناير/كانون الثاني (1937)، في أثناء طباعة الكتاب، ويُعَنْوِنه بـ«بعد الفراغ». في نوع من النهاية الدائرية (إن صَحَّ التعبير)، بالعودة إلى ما بدأ به من أن الكتاب يتيح لنا معرفة ما يشغله أكثر من التعامل معه كموضوع لبحث، استثارَتْه مناسبة الاحتفال بألفيّة المتنبّي. حيث يؤكِّد، مرّة أخرى، أن هذا الكتاب يصوِّره هو أكثر ممّا يصوِّر المتنبّي: «أريد أنْ ألاحظ أنَّ هذا الكتاب إنْ صَوَّر شيئاً، فهو خليق أنْ يصوِّرني أنا في بعض لحظات الحياة، في أثناء الصيف الماضي، أكثر ممّا يصور المتنبّي، وإنه لمن الغرور أنْ يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر، حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ، أو بالعواطف والخواطر التي يثيرها فيها ما قرأ، فأملى هذا أو سَجَّله في كتاب، ظنَّ أنه صوَّر الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أنْ يُدرَس، على حين أنه لم يصوِّر إلّا نفسه، ولم يعرض على الناس إلّا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء»(2). ثم يضيف: «إنَّ نقد الناقد إنما يصوِّر لحظات من حياته، قد شُغل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عُني بدرسه». وكأنه يردّنا إلى فكرة المرآة التي أشرت إليها، في بداية حديثي عن هذا الكتاب؛ وهي ضرورة أن نفهم العمل وأطروحته الأساسية حول دور الشاعر/ المثقَّف في مجتمعه، وأهمِّيّة أن يخلص لمشروعه، ويحقِّق استقلال موقفه إزاء السلطة، لا أن يكون تعبيراً عنها، أو مسجّلاً لما تريده منه، ناهيك عن أن ينحطَّ إلى التعبير عمّا لا يؤمن به من أجل المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1 – طه حسين (مع المتنبّي). الطبعة التي اعتمدنا عليها، هنا، هي طبعة القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، (2013)، ص 139، وسنشير بعد ذلك للمقتطفات من الكتاب؛ برقم الصفحة من تلك الطبعة.
2 – المرجع السابق، ص 315.