ميشيل مافيزولي: الإدارة بواسطة الخوف تؤدِّي إلى ترسيخ الفردانية

| 02 يناير 2022 |
«ميشيل مافيزولي» غَنيٌّ عن التعريف، فهو عَالِم اجتماع، فيلسوف، أستاذ فخري بجامعة السوربون وعضو بالمعهد الجامعي الفرنسي. عن سنِّ السادسة والسبعين، لم يفقد هذا الأبيقوري شيئاً من حرّيّته في التعبير، ولم يُصَبْ بعدوى الفكر الواحد. إذ يُقدِّم لنا في مقالته الأخيرة تحليلاً رصيناً لتحوُّل «البراديغما» الذي بتنا نشهده اليوم.
حسب تحليلك، نحن اليوم نعيش نهاية عصر ونشهد بالتالي نقلةً نوعية. ما هي التحوُّلات التي تجري حالياً؟
– ميشيل مافيزولي: إنه واحد من المواضيع التي دأبت على الخوض فيها منذ سنوات عديدة. أنا أبيِّن إجمالاً أنه في كلّ ثلاثة أو أربعة قرون، المُحرِّك الذي ترتكز عليه الحضارة يتوقَّف عن العمل. النظام يبلى ويتآكل. ومن وجهة نظري نحن نعيش حالياً آخر أنفاس العصر الحديث. ما يُسمَّى بالحداثة هو ما بدأ مع «ديكارت» في القرن السابع عشر، وتعزّز طوال القرن الثامن عشر في أوروبا مع فلسفة التنوير، وتم إضفاء الطابع المؤسّسي عليه في القرن التاسع عشر. ثم حَلّ القرن العشرون الذي بدَّد رأس المال، ولم يخلق الكثير وعاش على ما تركته القرون الثلاثة التي سبقته. فمنذ منتصف القرن العشرين، انتهى عصر الحداثة، وبدأ عصر آخر أصفه بـ«ما بعد الحداثة».
ما الذي يميِّز الحداثة عن ما بعد الحداثة؟
– إن الحامل الثلاثي للقيم الحديثة الكبرى يتشكَّل من الفردانية والعقلانية والتقدُّمية. وهذا ما يشكِّل أساس جميع التأويلات والمُؤسَّسات الكبرى والقيم التعليمية والوجدانية والصحية والاجتماعية والسياسية والنقابية… إلخ. كلّ هذه المُؤسَّسات تطوَّرت انطلاقاً من هذا الثلاثي. وفرضيتي، مع الأخذ بعين الاعتبار أصل كلمة «عصر»، هي أن هذا «القوس» يُقفَل الآن. ولكي نفهم الأمر جيّداً، من الواجب علينا معرفة أن العصور المُختلفة تفصل بينها فترات. العصر يدوم لثلاثة أو أربعة قرون، والفترة تستمر لأربعة أو خمسة عقود. يمكننا أن نشبه الفترة بوقت الغروب الذي نستشعر من خلاله ما الذي سيزول، ولكننا لا ندرك جيّداً البديل الذي هو في مرحلة النشأة. وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على الأجيال الشابة، التي لم تعد تجد المعنى في القيم التي أشرت إليها للتو، وتطمح في الوقت نفسه إلى أنواعٍ أخرى من القيم.
ما هي قيم ما بعد الحداثة الوليدة؟
– اسمح لي أن أتكلَّم بحذر. في رأيي، ثلاثي ما بعد الحداثة الوليدة لن يكون الفردانية، ولكن سيكون ضمير الجمع المُتكلِّم «نحن»؛ لن يكون ما هو عقلاني، ولكن ما هو عاطفي؛ ولن يكون التقدُّمية من أجل الغد، وإنما فكرة الحاضر. ما يحدث حالياً وما نستشعره جميعاً هو الانزلاق من ثلاثي إلى آخر.
وفي السياق الحالي للأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، أنت تتحدَّث عن «الإدارة بواسطة الخوف» على مستوى الدولة. هلا وضحت لنا ذلك؟ وهل ينطبق الشيء نفسه على وسائل الإعلام أيضاً؟
– في الوقت الذي يجري فيه هذا التحوُّل، ولفترة محدودة من الزمن، فإن ما أسميه أنا النخب، أي أولئك الذين لديهم القدرة على القول والفعل: السياسيون والصحافيون والخبراء، أولئك الذين نراهم كلّ يوم على القنوات التلفزية، هذه الأوليغاركية الإعلامية والسياسية الصغيرة تظلّ متمسّكة بالقيم المنتهية صلاحيتها. والصحافة، من جانبها، تنقل ما يطلب منها السياسي أن تنقله. وعندما تكون النخبة ماضية في طريق الاندحار، فإنها تعمد إلى ما أسميه «الإدارة بواسطة الخوف». في العصور الوسطى، كان الخوف من الجحيم. أمّا حالياً، فلدينا استراتيجية الخوف من المرض. إذ يجري تسليط الضوء على هذا الوباء، الذي أسميه أنا وباءً نفسياً. يتلخَّص الأمر في خلق نوع من الهلوسة الجماعية، أو نوع من الذهان. في نهاية العصور الوسطى، كان هناك الطاعون الأسود. والغريب أنه كلّما اقتربت في التاريخ نهاية شيء ما، تظهر لنا هلوسة جماعية وينصب الاهتمام على تدبيرها. واليوم، باسم هذه الأزمة الصحية، يجبر الناس على ارتداء الأقنعة، والتزام التدابير الاحترازية. ما هو دورها؟ إنه ببساطة، الحفاظ على الفردانية. نريد أن نحافظ على هذه القيمة الفردية، في حين أن ما ستفرز عنه التحوُّلات الجارية الآن يمتاز ببعده القبلي والجمعي ويتكلَّم بضمير الجمع المُتكلِّم «نحن». وفي كتابي، أنا لا أتحدَّث عن ارتداء القناع، ولكن عن «ارتداء الكمامة»…
أنت تصف في كتابك دولة منفصلة عن الناس وعن العَالَم الحقيقي. ما الذي ينبغي عليها فعله لتكون منسجمة مع المُجتمع والرأي العام؟
– فرضيتي هي أنه عندما تصل النخبة إلى مرحلة التدهور فإنه سيتم استبدالها، وهذا أمرٌ حتمي. لقد تحدَّث عالم اجتماع واقتصادي إيطالي مغمور، اسمه «فيلفريدو باريتو»، عن «تداول النخب». فعندما تصير النخبة عاجزة عن مسايرة الإيقاع العام، يحدث التداول. ولكن الأمر يستغرق منّا بضعة عقود قبل أن نتنبَّه إلى حدوث مثل هذه القطيعة. بالنسبة للأشخاص الذين هم في مثل سني، من اللافت أن نرى بأنه قبل ثلاثين عاماً، تمَّ فقد الثقة بالمُثقَّفين، ثمَّ في وقتٍ لاحق، تمَّ فقد الثقة بشكلٍ متزايد في السياسيين. وفي الوقت الحالي، انعدام الثقة هذا أصبح يتزايد تجاه الصحافيين ووسائل الإعلام بشكلٍ عام. وقد كان «مكيافيلي» يقول بوجود تناقض بين «فكر القصر وفكر الساحة العامة». وهذا ما يحدث الآن. ربما أكون مخطئاً، لكن فرضيتي هي أن المُستقبل سيشهد اندلاع أشكال من الانتفاضات.
ما هو رأيك وتحليلك بشأن كلّ ما نقرؤه ونسمعه عن نظريات المُؤامرة؟
– هذه أمر لا أحبه على الإطلاق! إنها وسيلة مباشرة لمنع التفكير، حيث نسمي «منظري المُؤامرة» أولئك الذين لا يتبنّون الأفكار الرسمية والعلمية التي تحظى بالمقبولية. عادة، في البلدان الديموقراطية، في الفترات المتوازنة، يكون هناك نقاش، أي ما كان يسمّى في الماضي بـ«الديسبوتاسيو – disputatio». أمّا اليوم، وهذه ظاهرة حديثة، فإذا قلنا شيئاً لا يتفق مع الكلام الرسمي، يتمُّ اتهامنا على الفور بأننا نؤمن بنظرية المُؤامرة أو نروِّج لها. لذلك فهذا أمر غير لائق بالنسبة لي، لأنه يقودنا إلى التخلي عن جميع الحُجج المُناقضة لكي نتفادى النقاش الذي أصبح غير محمود العواقب.
ما الذي يمكن للفكر الفرنسي أن يقدِّمه في هذا السياق، وخاصة الفلاسفة وعلماء الاجتماع؟
– بقدر ما كانت فرنسا تعتبر المكان والمُختبر الذي كانت تُصنَع فيه الأفكار حقّاً -في زمن «ميشيل فوكو» و«جيل دولوز» وآخرين ممّن قاموا بتكوين الجيل الذي أنتمي إليه والذين كانت أسماؤهم شامخةً ومعترفاً بها دولياً- بقدر ما شهد العقدان أو الثلاثة عقود الأخيرة، هدراً كبيراً. وأنا أستثني هنا صديقي «إدغار موران» الذي يحتفل هذا العام بعيد ميلاده المئة. هذا فيما يخص الجانب المُتشائم. أمّا الجانب المُتفائل فكما هي العادة دائماً حين يحدث تداول للنخب، يجب أن نراهن على الأجيال القادمة. عندما نرى على شبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية أن هناك مجموعات مناقشة فلسفية واجتماعية واقتصادية حقيقية، نرى أيضاً أبحاثاً حقيقية يجري تطويرها. أعتقد أن هذا هو المكان الذي تتبلور فيه الآن الثقافة الفرنسية الجديدة على مستوى الأفكار. المشكلة الوحيدة هي أن كلّ ذلك يتم تحت غطاء غير رسمي، ولم تضف عليه الرسمية بعد.
ما هو رأيك في انتشار الأخبار الكاذبة والمُزيَّفة، وخاصة على الشبكات الاجتماعية؟
– يمكن في كثير من الأحيان تشبيه وسائل الإعلام الرسمية بالببغاوات، لأنها تكتفي بتكرار ما تطلب منها السلطة قوله. فكأن هاتين السلطتين مرتبطتان، على المُستوى الرمزي، بنوع من زواج الأقارب. إنه مجتمع صغير ومنكفئ على ذاته. وهذا المُجتمع منقطع عن الحياة الحقيقية، عن «النّحن»، عن القرى البعيدة عن العاصمة. إن هناك انفصالاً حقيقياً عن الناس. ففي قريتي الصغيرة في منطقة الهيرو، يحدّثني الناس باستمرار عن تمسرح السياسيين الذين يشاهدونهم في البرامج التليفزيونية. توجد لدينا «مسرحقراطية théâtrocratie» حقيقية. وبديل ذلك هو تعدُّد هذه الشبكات الاجتماعية (تويتر، فيسبوك، انستغرام، لينكد إن…). أعتقد أن من المُبالغ فيه قليلاً الحديث عن الأخبار الكاذبة والأخبار المُزيَّفة… إلخ. لأن هذه الثقافة السيبرانية توجد الآن في حالتها الوليدة، لا بدّ أن نرى ذلك بوضوح. لذلك فهناك الأفضل والأسوأ. ونحن نرى الأسوأ على الدوام، لكننا لا ننتبه جيّداً للأفضل. لا يجب علينا أن نركِّز دائماً على نصف الكأس الفارغ، لأن هناك نصفاً ممتلئاً كذلك. يجب أن نكون حذرين بشأن هذه الثقافة السيبرانية، ولكن سواء أأعجبنا الأمر أم لا، هذا هو البديل. فقد عاشت البشرية نفس المُشكلة مع «غوتنبرغ» والطباعة في القرن العاشر. وذلك لأن الرهبان كانوا يحتكرون الكتابة في ما سبق. ومنذ اللحظة التي تمكَّن فيها الإنسان من الطباعة، ظهر ردّ فعل سيئ للغاية. بطريقةٍ ما، التاريخ يعيد نفسه مرّةً أخرى. هناك نوعٌ من الوصم لما هو غير رسمي، لأنه يُكره النخب على التخلّي عن احتكارها. وأنا أعتقد على العكس من ذلك، بأننا يجب أن ننتبه لهذه الثقافة السيبرانية وأن نتعهدها بالمُصاحبة ونعمل لصالحها كي لا يتحوَّل الحلم إلى كابوس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: فاليري لوكتان
العنوان الأصلي والمصدر:
Michel Maffesoli: le management par la peur pousse à l’individualisme
المجلة الفصلية «Question de philo» العدد (23) (أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر 2021).