ميلان كونديرا: فنّ مقاومة الإيديولوجيا

| 07 سبتمبر 2022 |
يُعد ميلان كونديرا، من كبار الروائيِّين التشيكيِّين الذين تركوا بصمة في الأدب الغربي الحديث. عُرف بغزارة إنتاجه الممتدّ على مدى سبعين سنة كاملة، متنقّلاً فيها بين الأدب والنقد. كما عُرف عنه عزلته الإعلامية الطوعية، وابتعاده عن الأضواء، متذرعِّاً، في ذلك-كلَّما سُئل في حواراته القليلة، بمشاكله الصحِّيّة، وباختياره للانزواء بعيداً عن الناس كي يتسنّى له الكتابة في هدوء، بعيداً عن ضوضاء غرف التحرير وصفحات الجرائد، كما تحدّث، من حين إلى حين، عن خوفه من التأويلات الإيديولوجية، إن هو أجاب عن أسئلة حول السياسة أو الصراعات الحزبية، خصوصاً أنه وُلِد في مكان، وفي زمان هما أساس الصراع في أوروبا القرن العشرين.
يتضمَّن هذا الحوار، الذي أجراه الناقد الكندي نورمان بيرون، إضاءات مرجعية لفهم عالم كونديرا الروائي، وعلاقته بالأدب والفنّ والإيديولوجيا…
بهذه المناسبة، استضافته الصّحافة الأدبيّة الباريسية، فكان له معها هذا الحوار:
نورمان بيرون: ميلان كونديرا، قبل أن أناقش ترجمة كتبك إلى اللّغة الفرنسية، أعتقد أنك جئت إلى عالم الكتابة، أوَّلاً، عبر بوّابة الشعر. أليس كذلك؟
– ميلان كونديرا: نعم كتبت الشعر، لكنني، الآن، لم أعُد أحبّه.
ألا ترى أن قصائدك جيّدة؟
– الكثير منها ليس سيِّئاً، لكن الأمر، هنا، يتعلّق بشيء آخر، فتركُ الشّعر والتوجّه صوب السرد لم يكن، بالنسبة إليَّ، مسألة انتقالية سهلة، إنها قطيعة. في هذه الحالة، أنا لم أتخلَّ عن الشعر، فحسب، بل قمت بخيانته. لم يكن الشعر الملحمي، بالنسبة إليّ، جنساً أدبياً فحسب، بل كان تصوُّراً للعالم، ونظرة له؛ نظرة تخلّيت عنها مثلما يتخلىّ المرء عن اعتقاد ما.
لكن، أليس هناك نظرة (لا ملحميّة) أو (ضدّ ملحميّة)؟
– ما هو ملحميّ يتمّ تعريفه، دائماً، من خلال ما يتركه من أحاسيس. أمّا النظرة (اللّا ملحميّة) فهي الإيمان بين ما نُفكّر فيه داخل ذواتنا وبين ما هو واقعي. مسافة غير متناهية بين ما ترغب الأشياء في تجسيده أو تتخيَّل أن تكونه، وبين ما هي عليه في الواقع. إدراك هذا الاختلال هو، في حَدّ ذاته، كسر للوهم الملحمي. إدراك هذا الاختلال هو، أيضاً، فنّ السخرية، والسخرية تمثّل أحد أبعاد الرواية.
قد تبدو خيانتك للشعر غير منطقية، لأنك قمت، في سنة (1965)، بنشر مختارات من شعر «أبولينيز» داخل ترجمتك الخاصّة، التي بدأتها بدراسة مُطوَّلة…
– نعم، تمَّ طبع هذه المختارات الشعرية في العاصمة براغ، وقد تمَّ سحب (55000) نسخة، ونفدت الطبعة خلال أيّام.
إذا كنت لا أحبّ -شخصياً- كتابة الشعر، فهذا لا يعني أنني لا أحبّ ما يكتبه الآخرون، فـ«أبولينير» هو عشقي الكبير.
لكننا نستطيع أن نجد، في رواياتك، مقاطع تحوي مخيِّلة شعرية بشكل مكثّف جدّاً.
– مدرسة الشعر الملحمي تُعتَبر ضرورية لأيِّ روائي. علينا ألّا ننسى أن الشعر الملحمي حمل معه أكبر تجديد، وأكبر مبادرة لفائدة الأدب الحديث، منذ بودلير حتى السرياليين؛ إذ تحرّرَ الخيال، وعُرف الاقتصاد اللغوي في التعبيرات، وزادت المقدرة على الاستحضار، وعلى التأثير عبر صورة واحدة.
كنت أرغب في أن يكون كلّ فصل من روايتي مُعبّراً عن نفسه، مختصراً، ومُكثّفاً كقصيدة شعر. لكن الفيصل، بالنسبة إليّ، هو منظوري الذاتي للأشياء بشكل كلِّي، وهذا يشمل، أيضاً، المنظور الساخر، ومنظوري لمنطق الغموض، ومنظوري لنسبية الحقائق والمشاعر والمواقف. باختصار، هو موقف، أراه أقرب إلى (الـلاملحميِّة).
بعد مرحلتك الملحميّة، كتبت كتاباً نظرياً بعنوان «فنّ الرواية». أمؤمن أنت بمستقبل الرواية؟
– كانت الرواية، على مدى تاريخها، محلّ اعتراض، وذلك من طرف أكبر مبدعيها، فأن تكون الرواية مُعارَضة من طرف ذاتها، هذا يعود، في الأصل، إلى طبيعتها. كتاب «جاك، الحتمي»، للكاتب دنيس ديدرو، هو استهزاء متواصل بالرواية، لكنه يعتبَر، في الآن نفسه، من أفضل أعماله الروائية. احتقر إيميل زولا الرواية، ولم يرغب في اعتبار كلّ كتبه روايات. في القرن العشرين، تحدّث الكُلّ عن الرواية بما يشبه النعي: السرياليون، والطلائعيون الروس، كما أكّد أندريه مارلو أن الرواية ماتت ما إن توقِّف هو عن الكتابة.
أترون؟ هذا غريب، حقّاً! لا أحد يتحدّث عن موت الشعر، رغم ذلك. منذ الجيل العظيم للسرياليين، لم أعرف أيّ أثرٍ شعريّ عظيم ومتجدّد. لا أحد يتحدّث عن موت الرسم، ولا عن موت المسرح، ولا عن موت الموسيقى، ورغم هذا تخلَّت الموسيقى، منذ « شونبيرغ»، عن كلّ التقاليد الموروثة، القائمة على الأصوات والمقاطع والآلات، طوال ألفية كاملة.
أحبّ كثيراً أعمال إدغار فاريز، وكذا إيانيس زيناكيس، لكن السؤال هو: هل ما زالت هذه الآثار تُعتَبر موسيقى؟ يَعتبرُ فاريز ألحانه كشكلٍ من تنظيم الأصوات. ربَّما ماتت الموسيقى منذ عشريات كاملة، دون أن يتحدّث أحدٌ عن ذلك. مُقارنة مع كلّ الأجناس الفنيّة، الرواية -وحدها- هي الأقلّ اندثاراً.
ألا تعتبر أن روايتك الأولى «المـُزحة» نصّاً يصف بيئة معينة لجيل ما؟
– لا، لم تكن لدي أيّة نيّة لكتابة سيرة، أو التّعبير عن حقبة ما. وبسبب عدم وجود كتب تُوثّق للثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ بلدي، فإن رواية «الـمُزحة» تولّت وظيفة التوثيق التاريخي، فقامت الرواية بذلك دون وعي منّي، بل على مضض. ما كان يهمّني ليس الوصف التاريخي بقدر ما هو المشاكل المصاحبة له، أو -لنقلْ- المشاكل الميتافيزيقية، والوجودية، والأنثروبولوجية. أترى؟ أبحث، بصعوبة، عن المفردات المناسبة للوصف. باختصار، أبحث عمّا يُعرف بالمشاكل الإنسانية الأزلية، والتي يُسلّط عليها النصُّ التاريخي الضوء.
مثل ماذا؟
– كمثال على ذلك، تطرح روايتي سؤالاً عن الانتقام، من خلال التقاء لودفيك بزوجة رجلٍ، كان، قبل خمسة عشر سنة، سبباً في مأساته المتمثِّلة في طرده من الحزب، ومعاقبته بستّ سنوات في السجن مع الأشغال الشاقّة، إضافةً إلى إنهاء مساره المهني العلمي؛ لذا انجذب إلى هذه المرأة بدافع الحقد.. فقط، كي يُذلّ خصمه.
ألا ترى أن شخوص هذه الرواية (بل مُعظم شخوص رواياتك) يعيشون، في الغالب، في شكل من التناقض؟
– انتقام لودفيك (معاقبة رجل من خلال زوجته) ليس تناقضاً في ذاته، فهو، أيضاً، محكوم بنتيجة ذلك الفعل، لأن لودفيك اكتشف أن زوجة خصمه كانت في طريقها للانفصال عنه، وما انتقامه من خصمه، في نهاية المطاف، إلا مزحة سخيفة.
ألا تعتقد أن رواية «المُزحة»، ما هي، في الأخير، إلّا مُزحة؟
– نعم: كيف أن المزحة تستحيل إلى شيء حتميّ، وكيف أن المصير يتحوَّل إلى مُزحة. والتاريخ نفسه، ألا يمزحُ معنا؟ في روايتي، هناك قصّة حُبّ أخرى: أحَبَّ لودفيك، في شبابه، فتاة بسيطة لم تقبل به، والسبب أنها تعرّضت، في طفولتها، إلى صدمة تمثّلت في اغتصابها من طرف أحدهم، فارتبطت المضاجعة، بالنسبة إليها، بالوحشية، والحبّ الحقيقي يتجاوز مسألة الجسد؛ لذا أصبح التعبير عن الحبّ جسديّاً مسألة مشوّهة. في الماضي، أحَبَّ لودفيك أوهامه الاجتماعية، لكن هذه اليوتوبيا ثبت أنها متوحِّشة ودموية. بدت له اليوتوبيا الاجتماعية ذات قيمة خرِبة، فامتلأ حقدَاً نحو حلمه القديم، لكنه يعلم، في الوقت نفسه، أن هذا الحقد ليس إلّا خطأً آخر، هو نوع آخر من الظلم. هل عليه أن يُبغض قِيَمَهُ المُتهالكة، أم عليه -بالأحرى- أن يُناشد تعاطفاً نحوها؟ أترى كلّ شيء مقلوباً في الرواية؟ إنها رواية عن هشاشة القيم الإنسانية، وليست عن شجب نظام سياسي ما. طموح الروائي هو أكبر من مواجهة نظام سياسي زائل.
ما رأيك لو تحدّثنا عن مسرحك (عن مسرحية «مالِكو المفاتيح»، بالتحديد) ألا يبدو أن تيمتها الأساسية هي مقاومة الاجتياح الألماني؟
– نعم، هذا طبيعي. الحدث يجري في أثناء الاجتياح الألماني. ألا تعلم أن هذا شيئاً مُعيقاً للمسرحية.
لماذا؟
– هناك المئات من المسرحيات التي تناولت الاجتياح النازي لأوروبا. خذوا مثلاً، بشكل خاصّ، «سالاكرو» في أوروبا الشرقية. يقوم بناء هذه المسرحيات، في الغالب، على الشكل نفسه: هناك مقاومون، وهناك أوغاد لا يرغبون في المقاومة، وهناك، على الدوام، أناس في موقع وسط بين الخزي والمقاومة. كلّ هذا حقيقي، لكنه (كليشيه) مُخيف. كذلك قصّة مسرحيَّتي التي تدور أحداثها في أثناء فترة الاجتياح، وفيها شخوص؛ إمّا مُقاوِمون أو أوغاد، لكن الموضوع الرئيس لمسرحيَّتي مختلف عن هذا، لأن موضوع الاجتياح ليس إلّا خلفيّة أو حيلة، ولا يمنع هذا أن يعتبرها المتلقّي مسرحية من ضمن تلك الخيارات الفنِّيّة للمقاومة.
لكن مسرحيَّتك هذه عرفت -رغم ذلك- نجاحاً كبيراً في العالم بأسره. أليس كذلك؟
– نعم، هذا ما حصل، لكن المسرحية نجحت لأنها لم تُفهم بشكل صحيح. هكذا، دائماً، تنجح الأشياء، عندما لا نفهمها جيّداً.
الأهمِّيّة الكبيرة التي يضعها مُكتري شقّة ما لمسألة إضاعة مجموعة مفاتيح، أليس موضوعاً يعود، بالأساس، إلى الأديب الروماني أوجين يونسكو؟
– فعلاً. هذه المسرحية هي أقرب من مسرح يونسكو منها إلى المسرح السياسي، هي مسرح عبثي يتموضع داخل حقيقة تاريخية مُجرَّدة، حيث لا تتجاوز العبثية حدود الممكن، هذا بالإضافة إلى أن «يونسكو» هو معشوقي الأدبي. أحبّ أن أجسّده مسرحاً أكثر من سماعي وهم يتحدَّثون عنه، اليوم، بشيء من عدم الاهتمام. يُمكنني أن أتخلّى عن كلّ أعمال بريخت مقابل عمل واحد له.
عندما نُحلّل اللعبة المسرحية: الإيماءات، والتكرار، والحوارات.. نُفكر في لعبة متعدّدة الأصوات. هل أنت موافق على هذا؟
– لِمَ لا أوافق؟ «مالكو المفاتيح» هي مسرحية تَمَّ إعدادها بشكل جيّد وشديد الحرص. كلّ المُسوغات تتكرّر، وتتعدّد. المسرحية، بأكملها، أشبه بلعبة المرآة؛ ربَّما يعود هذا إلى تأثير تربيتي الموسيقية التي تلقَّيتها.
ما شكل هذه التربية الموسيقية؟
– إلى غاية سنّ العشرين، كنت متردّداً بين اختيار الموسيقى أو الأدب، وفي أثناء ذلك تدرَّبت على البيانو، ودرست التلحين.
بأيّ معنى تستطيع الموسيقى التأثير في ما يكتبه الكاتب؟
– هناك فرق كبير بين البناء الموسيقي والبناء الملحمي. يُجمِع أغلب الروائيين على أنهم حينما يبدؤون الكتابة يجهلون كيف ستكون عليه نهاية أعمالهم. أراغون -مثلاً- قالها، وكذلك أندريه جيّد الذي أكّد هذه النظرة في «المزوِّرون»، بينما الموسيقيُّ لا يقول، أبداً، إنه يجهل الشكل النهائي لمقطوعته؛ فعندما يبدأ بكتابة أوَّل تيمة في مقطوعته المتكرِّرة تكون على هيئة أشكال تنتهي -عادةً- بالتيمة نفسها التي بدأت بها. تقوم الموسيقى على مبدأ التجدُّد والتكرار، أمّا مبدأ البناء الملحمي فمختلف تماماً. العمل الروائي، من خلال منطق الخصوصية، يتمثَّل في الحدث الذي يستفزّ الذي يليه، ولا شيء يتكرَّر. أحاول، دائماً، دعم المبدأ الملحمي عبر المبدأ الموسيقي. خذ مثالاً «فالس الوداع»: في أرضية الرواية، تدور أحداث ملحمية مع الكثير من الإثارة، بينما في الدور الأرضي هناك تركيبة موسيقية. هناك صيغٌ تتكرّر، وتتنوَّع، وتتبدّل، ثم تعود أدراجها. لا توجد جملة إلّا وتعكس صورتها وازدواجيَّتها، وتقدّم جواباً في مكان آخر في الرواية. خُذ، أيضاً، تيمة الميلاد في «فالس الوداع» هي محطّة موضوعاتية لعلاج العُقم، وكلّ الشخوص تواجه هذه المشكلة: «كليما» مهدَّد بشكل لا إرادي بأن يكون أباً، وتصبح «روزينا» حاملاً، بينما طبيب النساء «سكريتا»، الذي يعالج المرضى، يكون سبباً في ذلك. «جاكوب» لا يحبّ مسألة الإنجاب، واختار قصّة نسَبها إلى هيروت، الذي كان يرغب في تحرير العالم من مخالب البشر، وشرورهم. في «الحياة هي في مكان آخر»، تبرز تيمة الشتاء والبرد، حين يموت «جازوفيل» بسبب البرد، كما أن الحبّ كان مبتغى «كزافييه»، لكنه مات، أيضاً، من شدّة البرد، موضوع البرد يرافق كلّ تركيب في النصّ …إلى ما هنالك.
جئت على ذكر أراغون، الذي لم يكن يعرف كيف ستكون عليه نهايات رواياته. هل تعرف أنت أين ستنتهي روايتك؟
– ألّا يعرف الروائي شكل نهاية عمله، هو إشارة بأن هناك موهبة، في الأساس. تبدأ الفكرة (وهنا سأبسِّط الأمر) بتصوُّر الشخوص التي ستصبح، لاحقاً، معروفة، وتكون قادرة على إثراء القصّة، هكذا يفاجئ السردُ الروائيَّ نفسه. عليّ القول إنني-بطريقة ما-أعرف إلى ما ستؤول إليه الأحداث؛ هي طريقة موسيقية في التفكير، ففكرتي الأولى لكتابة الرواية تقوم على التوزيع النسبي. حين بدأت كتابة عملي «المزحة»، كنت على دراية بأنها ستكون في حدود سبعة أجزاء، أجزاؤها: الأوَّل، والثالث، والخامس سيكون السارد فيها هو الشخصية الرئيسية (لودفيك)، أمّا، في الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فيأخذ آخرون بخيط السرد، وفي الجزء السابع تتعدّد الأصوات السردية، من خلال شخوص الرواية معاً. فكرة البناء، بالنسبة إليّ، هي مسألة مُحَدّدة وليست شيئاً ذهنياً لا شعورياً. انظر إلى بناء رواية «الحياة هي في مكان آخر» الذي كان متجانساً، إذ تَمَّ تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء، الفصول: الأوَّل، والثالث، والخامس هي مُطوَّلات ملحمية، تحكي حياة الشخصية الرئيسية، أمّا الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فتمثِّل استراحات سردية، بينما الفصل السابع هو أشبه بالمونتاج (تركيب) متعدِّد الأصوات.
أنت مولع بالعدد سبعة…
– بكلّ تأكيد، نعم. أحبّذ، على الدوام، الأعداد الفردية، وأُفضّلها على الزوجية، كما أرى أن بدايات الأعداد الفردية التي لا تقبل القسمة على عدد آخر (أي لا تقبل القسمة إلّا على نفسها) هي الأفضل دائماً. على سبيل المثال: «فالس الوداع» مقسّمة إلى خمسة أجزاء، بينما «المزحة» و«الحياة هي في مكان آخر» مقسمتَيْن إلى سبعة أجزاء لكلّ منهما، بينما «غراميّات مرحة» هي سبع قصص.
هل يتعلق الأمر بسحر الأرقام؟
– أعلم أن هذا قد يبدو لك سخيفاً. لنقل إن هذا، من ناحيتي، ليس إلّا لعبة، وهو أشبه بمن يدفعك، في الصباح، إلى الخروج من بيتك بقدمك الشمال، وأنت تعرف أنه أمر يتطيّر منه الناس، لكنك -رغم ذلك- تلعب مع هذا الأمر، وتعتبره لعبة، وهو لا يخلو من بعض العُمق. ليس للأرقام معانٍ سحريّة، لكنها فعّالة. إذا ما قسّمنا رواية ما إلى جزأين أو أربعة أجزاء أو ثمانية، فإننا -في الحقيقة- نقسّمها إلى نصفَيْن، ولن تكون مترابطة بما فيه الكفاية أو موحّدة أو مضغوطة. لخلق وحدة حقيقية للبناء، على هذا البناء أن يكون مضمراً؛ وهذا هو المعنى الأوّلي للأرقام، فلا «المزحة» ولا «الحياة هي في مكان آخر» كانتا تقبلان بتجزئتهما إلى جزأين، أو ثلاثة أجزاء؛ بناؤهما مضغوط جدّاً، إنه، أيضاً، سؤال عن التناسب والأرقام. أعترف أن هذا الشكل من التناسب هو خاصِّيّة تُميّز الملحِّن عن الروائي.
هناك شيء آخر هو أن التوزيع الموسيقي يعتمد على الزمن. أنا، شخصيّاً، أميلُ، دائماً، إلى تهميش (إضافة) مختلف الفصول بشارات سرعة الإيقاع الموسيقية. على سبيل المثال: في « الحياة هي في مكان آخر»، في الجزء الأوَّل يعتمد السرد على السارد الملحمي الكلاسيكي، فالمواقف هنا تمثِّل (moderato)، بينما القسم الثاني أشبه بالحلم (vivace)، في الجزء الثالث فهو سرد مجزَّأ بما يُعرف (allegretto)، وفي الجزء الرابع يتمّ تركيب الفصول؛ ما يستلزم شيئاً من الاقتراب، وهو ما يُسمّى (prestissimo)، ثم يأتي (moderato)، و(Lento)، والفصل السابع (Presto).
أتعتقد أن القارئ سيشعر، فعلاً، بهذه التفاصيل؟
– ربَّما يشعر بذلك، بطريقة غير واعية، لكنه، في الحقيقة، لا يمكنه -وهو يقرأ- إلّا أن يشعر بذلك. هناك أداء جيّد يخصّ التناوب الزمني. النقد الأدبي لا يلتفت كثيراً إلى هذا، لكنه يلتفت إلى أشياء أخرى؛ ربَّما لأن النقد يهتّم أكثر بالإيديولوجيا، أو يدرس البناء الغامض أو المهمّ.
نعود إلى المسرح. بعد «مالِكو المفاتيح»، كتبت مسرحية «الرحلة» سنة (1967).
– كتبت «مالِكو المفاتيح» في سنتَيْن، وقد كانت مسرحية مُحكمة البناء بينما كتبت «الرحلة» في أسبوع، وهي -بكلّ المقاييس- بسيطة للغاية. أنا -شخصياً- أحبّها مئة مرّة أكثر من «مالِكو المفاتيح»، و-للأسف- لا أحد يشاطرني هذا الرأي (…)، ولكن المسرحية التي أعتبرها الأفضل هي «جاك وسيّده»؛ اقتباسي المسرحي لـ «جاك القدري» التي كتبها «ديدرو».«جاك القدري» هي روايتي المُفضلة، كنت مهووساً، على الدوام، بهذا العمل، وبفكرته الساخرة والتهكُّمية، الصريحة والاحتجاجية، في الآن نفسه.
متى كتبت هذا الاقتباس المسرحي للرواية؟
– كما تعرفون، حصلت على الليسانس سنة (1968)، من جامعة براغ، وقد مُنِعتُ من نشر أيّة رواية داخل بلدي، فكان عليَّ مزاولة أيّ نشاط فكري آخر كي أعيش. كان هناك الكثير من الناس ممَّن أرادوا مساعدتي. جاءني أحد رجال المسرح السلوفاك، واقترح عليّ تحويل إحدى روايات دوستويفسكي إلى مسرحية، وأوقِّع باسمي الخاصّ. لم أستطع أن أكتب شيئاً، حتى أنه اقترح، بعدها، أن أكتبها باسمه الخاصّ، وهو ما وقع فعلاً. من جهته، كان شخصاً نبيلاً وشجاعاً. بدأت، إذاً، بإعادة قراءة رواية دوستويفسكي، ثم أدركت أنني لن أستطيع، أبداً، أن أقتبس مسرحية من عمل دوستويفسكي، الذي لا أحبّه.
هذا غريب؛ إذ يُمثّل دوستويفسكي شأناً عظيماً لكتّاب الغرب!
– أنا لست كاتباً غربياً، وبراغ ليست الغرب؛ إنها وسط أوروبا. أمّا فيما يتعلَّق بـنظرتي إلى دوستويفسكي، فلا يمكنني تجاهل مقدرته الإبداعية الكبيرة، إلَّا أنني أردت التعبير، فقط، عن نفوري الشخصي، ونفوري هذا-للعلم-حتى أنا أستغربه. أدركت أن عوالمه الروسية -وهي عوالم هيستيرية- غريبة عنّي؛ بما تحمل من عقيدة غير عقلانية، ممتزجة بالمعاناة والمشاعر المُظلمة العميقة. شعرت بالمرض وأنا أقرأ هذه الأعمال، كما وجدتني بحاجة ماسّة إلى أخذ ترياق كي أُشفى منها. وهكذا، وجدتني أرتمي في أحضان نصّ «ديدرو».
كانت تلك السنوات من أكثر سنوات عمري حزناً، لكن كان للفرنسيين الفضل في انتشالي من ذلك الحزن. كان لأصدقائي، في فرنسا، ذلك الفضل وكذا لقرّائي، ولمُترجمي وناشري. ولا أنسى ديدرو. بالطبع، لا يمكنني، أبداً، نسيان فضله عليّ.
ولكن، أعتقد أنك تتذكّر، بوفاء، ديدرو وعصر الأنوار، لا في مسرحيَّتك، فحسب، بل من خلال مجموعتك القصصية «غراميّات مرحة»، وروايتك «فالس الوداع»، أيضاً. أليس كذلك؟
– نعم.
بعد عشر سنوات، ألم تُعِد إحياءَ موضوع دون جوان، وضحكه التراجيدي في عملَيْك: «مقابلة» و«الدكتور هافل»؟
– بالضبط تكمن تراجيدية دون جوان، اليوم، تحديداً، في صعوبة الوصول إلى التراجيديا نفسها. تعاسة دون جوان، اليوم، تكمن في أنه يستحيل أن يكون هو ذاته. في عالم كلّ شيء فيه مباح، تحوَّل منافس دون جوان إلى أكبر عرّاب للنساء، لكنَّ هناك فرق كبير بين منافس كبير وعرّاب للنساء: دون جوان القديم كان يخترق القانون، أمّا عرّاب النساء فهو متوافق مع القانون لأنه جزءٌ من شيء بات مألوفاً. الآن، نحن مجبرون على أن نكون عرّابين لهنّ. الدونجوانيّون أصبحوا، اليوم، بعيدين عن التراجيديا، وتمرُّدهم القديم كان ترجمة للتحدّي، أمّا اليوم، فمغامراتهم أصبحت، بشكل ما، أقرب إلى التفاهة.
بكلّ بساطة، أعتقد أن هناك، في نصّ «غراميّات مرحة»، جملة اقتبستها من كتابك «إدوارد والرَّبّ»: «أنا -إن كنت ترى- مُجبرٌ على الكذب كي لا آخذ على محمل الجدّ ما يقوله الحمقى، ولكيلا أكون أنا نفسي أحمقَ» … ألا تُشكّل هذه الجملة نسق المجموعة القصصية، وروحها؟
– إذا كنت على ثقة من أن العالم الذي يُحيط بك، لا يستحق أن تأخذه على محمل الجدّ، فهذا يدخل في باب الاستنتاجات المُذهلة. الصرامة تُصبح عبثاً؛ لذا لِمَ عليك أن تكون جادّاً أمام شخص لا يحمل الأمور على محمل الجدّ، وهو ليس إلّا أحمق؟ لماذا عليك قول الحقيقة، أو أن تكون فاضلاً؟ لماذا تحمل الأمور على محمل الجدّ؟ كيف يحمل المرء نفسه على محمل الجدّ، في عالم لا معنى له؟ سيكون هذا، على الأرجح، في غاية السخف. الإحساس بعدم أخذ العالم على محمل الجدّ هو الهاوية. «غراميّات مرحة» هي مجموعة قصصية غريبة تجري على حافّة الاستعجال.
نأتي، الآن، على ذكر روايتك «الحياة هي في مكان آخر»، التي نلت بها جائرة «ميديسيس» (1973). لِمَ هذا العنوان؟
– هي جملة لـ «رامبو». في ثورة (1968)، كتبها الطلبة على الجدران كشعار. هي وهم الشباب الخالد، وحلم أولئك الذين عجزوا عن تجاوز سنّ المراهقة، هذه الرغبة في ولوج الحياة الحقيقية تتحكَّم في الثوّار الشباب، وكذا الشعراء الشباب.
في مستوى أوَّل، يعتَبَر «جاروميل» الشخصية الرئيسية. أليس هو ضحيّة لأمّ متسلِّطة، أم أنك بالغت في حمايته؟
– قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت كثيراً عن سِيَر الشعراء الذاتية، فلاحظت أن جُلّهم شعروا بغياب الأب القوي. الشعراء خرجوا جلّهم من بيوت تديرها أمَّهات. كان هناك الكثير من الأمَّهات اللاتي بالغن في رعاية أطفالهنّ، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- والدة «ألكسندر بلوك»، ووالدة «ريلكه» ووالدة «أوسكار وايلد»، كذلك والدة الشاعر الثوري التشيكي «جيري وولكر»، الذي تركت سيرتُه الذاتية أثراً كبيراً في نفسي، وألهمتني الكتابة. هناك أمَّهات عاديّات، لكنهنّ لسن أقلّ حرصاً، مثل أمّ رامبو؛ لذا فقد ابتكرت هذا التعريف للشاعر: هو شابٌ تقوده أمّه، يُعرَض على عالم، لا يستطيع الولوج إليه.
في مستوى ثانٍ، ألا يُجسّد «جاروميل» الأسطورة «الريمبولية» للشاعر، لكنه هذه المرة يمثّل الرداءة في ثوب الشعر؟
– لا. ليس هناك أيّة رداءة! لا تنسَ أن «جاروميل»، بطلي الخاصّ، قد مات وهو في العشرين، وهو ليس رديئاً البتّة، بل -على العكس- إنه موهوب بشكلٍ خُرافي، وهو يعتبر شبيهاً لكثيرٍ من الشعراء الكبار. أما أولئك الذين يصفونه بالرداءة، فهم عاجزون عن التّخلص من أسطورة أوروبا الكبيرة. وللعلم، الأسطورة هنا اسم كبير، نحن معارضون ومستعدّون لإهانة قبور الأعلام الكبار والرايات الوطنية، لكننا، في الآن نفسه، أسرى لأساطير لا تُمَسّ، مثل أسطورة الثورة، وأسطورة الشباب، وأسطورة الأمومة، وأسطورة الشعر. أرجو أن تفهمني جيّداً: أنا لست ضدّ الثورة، ولا ضدّ الأمومة، ولا حتى الشباب والشعر، ولكن لديَّ رغبة مُلحّة في نزع القداسة عن بعض الأساطير. الشعر -بحسب هذه النظرة الأسطورية- هو القيمة الصرفة. لن يستطيع الشاعر أن يكون مُخبراً أو واشياً كما هو عليه الأمر لدى بطلي «جاروميل». إذاً، على القارئ إمّا أن يرفض كتابي، باعتباره نوعاً من التجديف، أو عليه أن يفهم بأن «جاروميل» شاعر مُزيّف. ترى، هل نستطيع أن نقبل-دون أن نُعيّر بارتكابنا لفضيحة-بأن فيلسوفاً قد يتعاطف مع الفاشيين، كما يمكننا القبول، دون أدنى فضيحة، بأن مُحارباً كبيراً قد يصبح وغداً، أو عبقرياً في مجال العلوم، سيكون جباناً، لكن لا يمكننا القبول، أبداً، بأن يتحوَّل الشاعر إلى مُخبر؟.لكنني رأيت بعيني قيام الكثير من كبار الشعراء بأفظع ممّا قام به بطلي المسكين «جاروميل». لم يقوموا بذلك رغم أنف عبقريَّتهم الشعرية بل بدافعٍ منها؛ لا بدّ من استيعاب هذا، وفهمه. بطلي «جاروميل» سوف يُدين شقيق حبيبته، لا باعتباره حقيراً تافهاً، بل يفعل ذلك بشكل حماسي أصيل بصفته شاعراً، فمقدرته الإبداعية ساهمت، بشكل كبير، في قرار الإدانة. لا تنسَ أن أكبر الجرائم، في التاريخ، كانت تُرتكَب على وقع الطبول والألحان، والقصائد الحماسية…
ألا نعتبر ما كتبته مقالاً نقدياً ضدّ الشعر؟
– بالتأكيد، لا. إنه ليس مقالاً نقدياً، ولا هجاءً، ليس هناك شيء مبالغ فيه. هنا، على الأرجح، محاولة للقيام بالنقد عبر آليّات الرواية، وصفٌ ظاهراتي لما يُبديه الشكل الأسطوري أو التصوُّر الأسطوري للعالم.
لكن هذه الحالة أكثر خصوصيّةً، فعندما أصبح بطلك «جاروميل» أشبه بشاعر بلاط، من خلال خدمة نظام سياسي معيَّن، بدا كأنه طارئ على المشهد (ليس أصيلاً)؟
– «جاروميل» ليس طارئاً، فلم يصبح شاعراً لأنه يرغب في منصب أو مرتبة مستقلّة، بل لأن النظام الرسمي يمثِّل، بالنسبة إليه، الثورة والتغيير الجذري الذي كان ينشده، والجديد الذي يطمح إليه. هو يعامَل، مثله مثل أي شاعر كبير، كواحدٍ من أولئك الكبار الذين أصبحوا، وسط الظروف ذاتها، والعصر نفسه، الشعراء الرسميِّين. أتعتقد أن «بول إيلوار»، إذا ما عاش في تشيكوسلوفاكيا، ما كان سيُصبح شاعراً للبلاط؟ أتعتقد أن كلّ هؤلاء الشباب المتحمِّسين والثوريِّين لن يُصبحوا، وسط دولة ناشئة ثورية، شعراء رسميّين؟ أما كان أمرهم سينتهي إلى ما انتهى إليه «جاروميل»؟ أتعرف أننا، على الرغم من تقسيم أوروبا إلى قسمين، نعيش القصص والمشاكل نفسها، والنقاشات والمصائر نفسها. ليست أوروبا إلّا واحدة.
إذا ما عدنا إلى روايتك «فالس الوداع»: «جاكوب» -وهو الشخصية الرئيسية، على ما أعتقد-ألا يُلخِّص مضمون الرواية، وروحها، عبر جملته: «المُضطهِدون ليسوا أفضل من المُضْطَهدين».
– هناك أناس من اليمين، يصفون أنفسهم بأنهم مُضطَهَدين من طرف اليسار، وأناس من اليسار يتمّ اضطِهادهم من قِبَل اليمين. لا أعتقد أنه هناك اضطهاداً أفضل من آخر. في عالم مليء بالصراعات الأيديولوجية، المُضطهِدون يرغبون في أن يكونوا كذلك. هي، إذاً، التجربة السوداء لـ «جاكوب».
ألا تُقدّم نفسك له بهذه الطريقة؟
– لا أقدّم نفسي لأحد. أنا أكره الروايات السيرية.
ألا توجد رواية واحدة تنقل سيرتك الذاتية، ضمن أعمالك الروائية؟
– ما هي رواية السيرة الذاتية؟ هي روائيٌّ ما، يرغب في شرح حياته وظروفه من خلال نصّ مُشفَّر. هذا أمر مزعجٌ، وغبيّ. من الأفضل له أن يكتب مذكِّراته ليكون أكثر صدقيّةً. من الطبيعي أن يستحضر الروائي، في أثناء كتابته، بعضاً من حياته (وهذا مختلف عن كتابة السيرة الذاتية)، ولكن عليه أن يخلق عالماً تخييلياً مستقلّاً عن عالمه الخاصّ.
في البداية، تمّ التضييق على رواياتك، ثم مُنِعت، ألا يعود ذلك إلى موقفك، والتزامك السياسيَّيْن؟
– لا أحبّ الروايات السياسية، لأنها من أسوأ الروايات من حيث كتابتها. لكن الناس، في هذا العصر المليء بالسياسة، هم حسّاسون للقضايا السياسية، وسوف أعطيك مثالاً: قلت إن جاكوب -بحسب رأيك- هو الشخصية الرئيسية في الرواية، لكن الأمر ليس كذلك؛ فهو بالأهمِّيّة ذاتها لباقي الشخوص، مثله مثل «بارتلاف» أو الدكتور «سكريتا». لكن، لماذا اعتبرته أنت الشخصية الأهمّ؟ لأنه -ببساطة- الشخصية الوحيدة التي لها معنى، ووجود سياسي؛ وهذا ما يجعله، في وقتنا الراهن، الشخصية المُسيّسة الأكثر أهمِّيّةً، ولكن هذه النظرة خاطئة.
هذا صحيح، بالتأكيد. ولكن، هل ترى أن هناك حياداً في الأدب؟
– إذا ابتعدت الرواية عن الأيديولوجيا السياسية لعصرنا، ورفضت المساهمة في التبسيط الإيديولوجي، واتَّجهت إلى العُمق، فإنها ستكون حيادية، بالتأكيد، بل مُتحدّية أيضاً؛ لأن دور الرواية هو قلب النُظم السائدة، وقلب ما هو طبيعي، من خلال مقاومة الأفكار المُسبقة. كتابة الرواية هي خلق الشخوص، وإن كان هذا النشاط الكتابي لعبة مستهجنة، لكنها -في الأخير- لعبة ذات أهمِّيّة. كلّ هذا يُعلّمنا فهم حقيقة الآخرين، وشكل حقيقتنا المحدود، كما يجعلنا نفهم العالم كنقطة استفهام من منظورات مختلفة. هذا يُفسِّر لماذا تكون الرواية فنّاً عميقاً يُجابه الأيديولوجيا. إنها كذلك لأن الأيديولوجيا تصوِّر لنا العالم من وجهة نظر الحقيقة الواحدة، تُقدّمه لنا كصورة لهذه الحقيقة، لهذا أقول وأكرّر: إن الرواية هي فنّ مقاوم للأيديولوجيا، وهي وسط عالمنا المُتوحّش بسبب أن الأيديولوجيا ضرورة كالخبز.
قدّمت روايتك «فالس الوداع» بوصفها رواية هزلية، لكنها أقرب إلى المأساة…
– لست كاتباً ساخراً، كما أنني لا أحبّ الكتابة الساخرة، وأعتبرها نوعاً من الخداع. العالم ليس مُقسَّماً إلى تعيس، وآخر مُدلَّل أو مُضحك، وآخر تراجيدي، رغم ذلك فالساخر والتراجيدي مرتبطان معاً، منذ الأزل، فلكلّ حالة إنسانية جانبها الهزلي. في «فالس الوداع»، الكلّ هزلي، وتراجيدي، في الآن نفسه، لكننا، اليوم، في هذا القرن المُخيّب، فقدنا كلّ إحساس بالدعابة، عليّ -إذن، مُجبراً-أن أجذب انتباه القارئ إلى الجانب الهزلي لكتبي. أعتقد أن اجتماع الكوميديا والتراجيديا قد تحقَّق في «فالس الوداع» أكثر من باقي رواياتي. جُلّ السرد يتجسّد في الخطّ الرفيع الذي يفصل الجادّ عن غير الجادّ؛ وهذا ما يجعلها روايتي المفضَّلة.
أليس قاسياً عليك -بصفتك كاتباً تشيكيّاً- ألّا يتاح لقرّاء بلدك متابعة أعمالك، وقراءتها؟
– عموماً، هي وضعية غريبة! تخيّلوا أنني أكتب رواياتي باللّغة التشيكية، ولأنها تُعبّر عن وجودي في بلدي، فلا أحد بمقدوره قراءتها باللّغة الأمّ، لذا تُرجِمت -أوَّلاً- إلى الفرنسية، وطُبعت في فرنسا، ثم في بلدان أخرى، بينما بقي النصّ الأصلي، باللّغة التشيكية، في درج مكتبي جامداً، كقالب بائس. تسأل إن كان قاسياً، بالنسبة إليَّ؟ لا أدري. ما زلت أشعر بهذه الوضعية الغريبة التي لا يمكنني الحُكم عليها. على أيّة حال، أشعر بأنني محظوظ جدّاً لأن لديّ مترجم ممتاز، وهو -إضافةً إلى كونه مترجماً- صديق لي، كما أنه شاعر، بحقّ. «فرونسوا كارال»، ترجَم روايتي الأخيرة بطريقة تماثل النصّ الأصلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار: نورمان بيرون
المصدر:
https://www.erudit.org/en/journals/liberte/1979-v21-n1-liberte1448919/60129ac/abstract/