ناتالي إينيك: قيمة العمل الفَنّي تحدّدها جهات متعدّدة

| 18 يناير 2019 |
في هذا الحوار الخاص لـ(الدوحة)، تناولت إينيك مجموعة من النقاط التي تساعد على توضيح أفكارها، وفهم بعض المقاطع التي أثارت نقاشات حادة مباشرة بعد صدور كتابها «براديغم الفنّ المعاصر». في نقطة أولى دافعت عن مشروعية استخدام البراديغم كمفهوم إبستملوجي في مجال تاريخ وسوسيولوجيا الفنّ، رغم اختلاف هذا الأخير عن العلم وتاريخه. ثم أوضحت، في نقطة ثانية، إمكانية تعايش براديغمات فنية متعدّدة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في مجال العلم لاعتبارات عديدة تشرحها بتفصيل في هذا الحوار. كما عرجت على نقطة هامة تتعلّق بجدلية القيمة الفنّيّة الجمالية والقيمة المادية للعمل الفني، وأهم المتدخلين في تحديدهما. هذا دون أن يفوتها إبراز موقع وأهمية كتابها الأخير بالقياس إلى إسهاماتها السابقة، خاصة كتاب «اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر». وأخيراً شرحت فهمها الخاص للموضوعية وحدودها من خلال مفهوم الحياد الملتزم، لينتهي الحوار بحديث عن طموح أو هدف الفن.
– هل يمكن استخدام مفهوم البراديغم في مجال سوسيولوجيا الفنّ دون أن يثير ذلك مشاكل وصعوبات إبستملوجية أو معرفيّة؟
– في كتابه الشهير عن «بنية الثورات العلمية»، استخدم مؤرخ العلوم توماس كون Thomas Kuhn مفهوم «البراديغم» باعتباره يمثل حالة للمعرفة، تشكّل نموذجاً أو بالأحرى قاعدة معرفيّة يتقاسمها الجميع، مادام مفهوم النموذج يحتوي ضمنياً على فكرة اتباعه بطريقة واعية. وهذه القاعدة لا تستطيع فرض نفسها إلا عبر القطيعة مع الحالة السابقة للمعرفة، وتكون هي بدورها معرضة بالتأكيد للإزاحة من طرف تصور آخر؛ هكذا تعمل الثورات العلمية، كما يفسر ذلك، أي ليس من خلال تقدم خطي ومتصل للمعرفة، وإنما من خلال سلسلة من القطائع، أو بعبارة أخرى، سلسلة من «الثورات».
بالنسبة لي، لم يكن هدفي هو مقارنة العلم بالفنّ، أو الفنّ بالعلم (أي البحث عن التشابهات بين هذين المجالين)، وإنما قارنت أحدهما بالآخر (أي وقفت على التشابهات والاختلافات)، وهكذا، فعلى مستوى الاختلافات، يمكن القول إن الفنّ ليس بحثاً عن الحقيقة، بل هو بحث عن تجربة متميزة قائمة على الإدراك الحسي، سواء من جانب المنتج أو من جانب المتلقي، وبغض النظر عن طريقة تحديد موضوع هذه التجربة: الجمال، الروحانية، الرضا والارتياح، التطابق مع الغير أو التعاطف، الانفعال، الإثارة، إلخ. ثم إن مفهوم التقدم لا يحتل إلا مكانة محدودة في الفن؛ لا معنى له إلا داخل نفس المدرسة الفنّيّة، حيث يمكن أن تتطور وتكتمل المناهج والتقنيات والمهارات. تجب الإشارة أيضاً، إلى أن الممارسة العلمية، على الأقل في العصر الحديث، هي ممارسة جماعية، في حين أن الممارسة الفنّيّة تبدو، عكس ذلك، فردية؛ فالباحثون يشتغلون في المختبرات كفريق، بينما يشتغل الفنانون في الغالب كأفراد في ورشاتهم. كما أن حل الألغاز العلمية يعتمد على الاستدلالات والبراهين، في حين لا نقدم أي شيء من ذلك في الفنّ، بقدر ما ننتج أحكاما قيمة. وهذه الأحكام، كفرق أخير بين المجالين، يمكن أن تصدر، ليس فقط عن المتخصصين (كما هو الحال في العلم، حيث تقدم البراهين من طرف المتخصصين)، وإنما أيضاً عن جمهور عريض، يعطي لنفسه حق الإدلاء بالرأي، حتى وإن كان هذا الأخير غير ذي قيمة ولا يحظى باعتراف المتخصصين.
ورغم هذه الاختلافات، توجد تشابهات عديدة بين الفنّ والعلم، على الأقل من وجهة نظر «بنية الثورات»، كما وصفها توماس كون؛ ففي نظره لا بد من توفر مجموعة من الشروط كي تحدث ثورة علمية: أولاً، وجود جماعة، لأن وجود مجرد أفراد معزولين لا يكفي لتشكيل براديغم جديد؛ ثم أن تأخذ هذه الجماعة شكل مجموعة ضيقة أو محدودة وليس «مجتمعاً» موسعاً؛ وأن يظهر جدال أو سجال، لا يمكن اختزاله في مجرد اختلاف في الآراء وإنما يشكل خلافاً، أي عدم اتفاق كلي ليس فقط حول طريقة حل المشكل، وإنما أيضاً حول كيفية طرحه؛ وأخيراً، وبناء على هذا الخلاف، حدوث تحول فعلي في التمثلات الجماعية. والواقع أن هذه الشروط مجتمعة توجد في تحول «البراديغمين الكبيرين» اللذين أحللهما في كتابي: التحول من البراديغم الكلاسيكي إلى البراديغم الحديث، ثم من البراديغم الحديث إلى البراديغم المعاصر.
– كيف نفسر تعايش وتزامن براديغمات مختلفة؟
– هناك بالفعل فرق كبير بين «العلم السوي» بالمعنى الذي يستعمله توماس كون، وبين «الفنّ السوي»، حيث لا يقبل الأوّل تواجد وتعايش براديغمين مختلفين، ولا يسمح بوجود خلافات ونزاعات إلا في لحظات جد محدودة زمنياً. في حين نجد أن الفنّ الحديث قد تعايش لأجيال عديدة مع الفنّ الكلاسيكي، وكذلك الأمر بالنسبة للفنّ المعاصر، فقد تعايش لحوالي جيلين مع الفنّ الحديث. وهذه الوضعية أصبحت ممكنة بالنظر إلى أن الحقيقة التي يستهدفها العلم، لا يمكن إلا أن تكون واحدة ووحيدة-على الأقل من وجهة نظر الإبستملوجيا التلقائية التي قد لا تحظى باعتراف مؤرخي العلم-في حين أن التجربة المستهدفة من طرف الفنّ تحتمل التعدُّد، شريطة أن ترتبط بأطر اجتماعية هي نفسها متعدّدة. والواقع أن هذه هي وضعية وحالة الفنّ، حيث ترسخ بالفعل، تعايش مؤسسات وأسواق وجماهير مختلفة بشكل واضح وصريح، وذلك ضمن تراتبية هي أيضاً واضحة اليوم، بين المتخصصين ومؤسسات الدولة، والفاعلين المؤثرين بقوة في السوق، وأيضاً الجماهير ذات الكفاءة العالية والمتميزة؛ فكل هؤلاء يميلون إلى جانب الفنّ المعاصر.
– بالنسبة للعمل الفني، من يحدد قيمته الفنّيّة وسعره في السوق؟
– في الجواب عن هذا السؤال، يجب أن نلاحظ، أولاً، أنه لا توجد قيمة «واحدة» (اقتصاديّة)، بل قيم متعدّدة من شأنها أن تحول العمل الفني إلى شيء ذي قيمة مادية؛ثانياً، أن هناك جهات وسلطات متعددة تمنح قيمة للعمل الفني، ثالثاً، أن هناك ظروفاً زمنية مختلفة ومتعددة، بالقياس إليها تكون للعمل الفني قيمة أو العكس؛ورابعاً وأخيراً، أنه، فيما يتعلق بسعر السوق، وسعر العمل الفني، وخاصة في الفنّ المعاصر، يخضع هذا السعر لقانون العرض والطلب، وبشكل لافت بعد بروز نزعة ميركانتيلية في قطاع واسع من عالم الفنّ خلال الجيل الأخير. وهذه الملاحظات لن تبدو غريبة إلا بالنسبة للذين يعتقدون بوجود قيمة داخلية(ذاتية)للأعمال الفنّيّة.
يوجد قانون، بصدد سعر السوق، يطبق ويحكم كل شيء، بما في ذلك عالم الفنّ، ألا وهو قانون العرض والطلب. وبالفعل، فالسعر يرتفع أو ينخفض تبعاً لعدد الراغبين في اقتناء العمل(ينخفض السعر كلما كان الراغبون قلة أو مترددين، ويرتفع كلما كان الراغبون كثراً ومصممين على الاقتناء)، وأيضاً حسب كمية العرض(وهذا ما يفسر ميل أصحاب الأروقة إلى عرض أعمال محدودة وقليلة لفنانيهم البارزين). قانون العرض والطلب هذا، الذي يحظى بالقبول في الاقتصاد العادي الخاص بالمنتوجات والأعمال والخدمات، يصدم الحس المشترك حين يتعلق الأمر بتطبيقه على مجال الفن. فالمفروض في هذا الأخير امتلاك قيمة داخلية، مستقلة عن احتمالات وتقلبات السوق؛ يرجع ذلك على وجه التحديد، إلى أن القيمة المادية (السعر) تصبح هي المعيار في قياس وتحديد «القيمة» غير المادية، أي القيمة الفنّيّة، التي هي حصيلة «قيم» الجمال، الأصالة، الدلالة، إلخ. من هنا يأتي الشعور بالتذمر إزاء عدم استقرار الأسعار؛ كما أن تحديد سعر ثابت لعمل فني متميز، يعتبر، في بعض الحالات، اختزالاً له في قيمته المادية وتقليلاً وانتقاصاً من قيمته الفنّيّة الخالصة.
وفيما يخص الفنّ المعاصر، فقد احتد كثيراً هذا الحذر إزاء السوق، وبالتالي إزاء اختزال قيمة الأعمال الفنّيّة في سعرها، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث طفت على السطح، في منتصف التسعينيات، فئة جديدة من الفاعلين في المجال. إن البروز القوي للمتاجرين في الأعمال الفنّيّة، وصناديق الاستثمار في الدول المتقدمة، وأيضاً الثروات الهائلة للدول الناشئة، كل هذا خلق فئة من المشترين ذوي الإمكانات المالية الكبيرة، والخبرة الطويلة في المضاربة أيضاً بصدد الأعمال القائمة على الإبهار(نشير مثلاً وبشكل خاص، إلى مجموعة «الفنانون الإنجليز الشباب» وممثلهم الرئيسي ضاميان هيرتس Damien Hirst)، واللعب على تأثير الاختراق أو إنتاج أعمال تنال رضا وإعجاب المحبين والعشاق مباشرة، وهم غير مثقّفين في الغالب.
كان الفنّ المعاصر سابقاً وإلى عهد قريب، متواضعاً من حيث القيمة المادية مقارنة مع الفنّ الكلاسيكي والفنّ الحديث. واليوم تضاعفت قيمته إلى حد كبير؛ هناك، من جهة أولى، فئة قليلة من النجوم العالميين (كاتلان Cattelan، هيرست Hirst، كونز Koons… )، مدعومة من طرف أروقة ذات صيت عالمي، حطمت أعمالهم أرقاماً قياسية وكانت موضوع قراءات وتحليلات في عدد كبير من وسائل الإعلام، وهناك، من جهة أخرى، فئة عريضة من الفنانين المغمورين، لا يعرفهم إلّا المتخصصون والمهتمون، والذين لا يعرضون أعمالهم، وأحياناً لا يبيعونها إلا باعتماد وساطة شبكة من المؤسسات العمومية الخاصة بالفنّ المعاصر: المراكز الجهوية للفن، الصناديق الجهوية للفنّ المعاصر(FRAC)، جمعيات الأروقة، وفي أحسن الحالات، المتاحف. هذا الوسط المؤسساتي هو المدخل إلى الشهرة والثروة في سوق الأروقة القوية، ولدى مجمّعي الأعمال، وكذا المعارض الراقية. وفي أسوأ الحالات، لا يبقى للفنان سوى مساره ورصيده الخاص المدعوم والخاضع لتقديرات المتخصصين (نقاد الفنّ، مندوبي المعارض، الذين ما فتئ تأثيرهم يتعاظم-على غرار القطب الشهير هارالد زيمان Harald Szeemann)، وكله أمل في أن يتم انتقاء أعماله في بينالي دولي، وأن يجذب إليه انتباه صاحب رواق يحظى بثقة المؤسسات.
– ما العلاقة التي يمكن إقامتها بين كتاب «براديغم الفنّ المعاصر» وكتاب «اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر»؟
– قام كتابي الأوّل عن الفنّ المعاصر(اللعبة الثلاثية للفنّ المعاصر Le triple jeu de l’art contemporain) على أساس مزدوج، براغماتي وأنطلوجي؛ هناك من ناحية أولى، بحث ميداني حول ردود الفعل إزاء الفنّ المعاصر، منظوراً إليه هكذا، من الخارج. ومن ناحية أخرى، هناك تحديد وتمييز أنطلوجي لخصائصه، من خلال استقراء أفعال وردود أفعال الوسطاء والجمهور. في حين، يقوم كتابي الأخير (براديغم الفنّ المعاصر:بنيات ثورة فنية Le paradigme de l’art contemporain :Structures d’une révolution artistique) على التحليل النسقي المنظم، ومن الداخل، للنتائج العملية المترتبة عن تلك الخصائص، ليس فقط من خلال الأعمال في حد ذاتها، وإنما من خلال نمط اشتغال عالم الفنّ المعاصر في مجموعه. يتعلق الأمر بصياغة نظرة أخرى عن الموضوع؛ ليس نظرة مباشرة عن الأعمال، بل نظرة غير مباشرة؛نظرة خاطفة وشاملة، تسمح بمعرفة وإدراك العالم الذي توجد فيه تلك الأعمال وتخلقه في نفس الوقت.
– بأي معنى تتحدثين عن «الحياد الملتزم»؟
– كما أوضحت في كتابي («ما يفعله الفنّ لعلم الاجتماع» Ce que l’art fait à la sociologie ,Minuit,1998)، أحاول، في كل أعمالي، مراقبة الابتعاد عن أي حكم قيمة حول الأعمال التي تثير مواجهات بين الفاعلين. هذا الابتعاد أو الانفصال له تعبير خاص في التقليد السوسيولوجي: يتعلق الأمر بـ«الحياد الأكسيولوجي(القيمي)» للعالِِم، والذي فرضه ماكس فيبر Max Weber. وضعية الحياد هذه تسمح بالتنقل بين مختلف الحجج والبراهين، وهو ما يتيح أيضاً تقديم نظرة أخرى للفاعلين، أي طريقة أخرى في فهم أعمالهم. إن عالم الاجتماع الذي يتخذ موقفاً- مثلاً من تميز وعظمة فان غوغ Van Gogh أو من طبيعة «مبولة» مارسيل دوشان Marcel Duchamp-إنما يقوم بنفس ما يقوم به الفاعلون، أو لا يتعدى، في أحسن الحالات تدوين وتدعيم حججهم ومبرراتهم. وعندما يقوم بذلك، يحرم نفسه من أداته الأساسية للتدخل في الجدال أو النقاش، أي هذه القدرة على التنقل باعتبارها أهم ما يمكن أن يقدمه السوسيولوجي كشيء خاص به، لأن الفاعلين مستغرقون جداً في عالم قيمهم ولا يستطيعون تحقيق وبلوغ ذلك؛ إن الحياد هو المصدر الوحيد في الغالب، لفهم منطق هؤلاء وأولئك، وأحياناً إفهام هذا المنطق لهما معاً.
إذا كان الحياد هو الأداة الضرورية للتنقل بين الأحكام، فإن هذا التنقل هو نفسه أفضل طريقة للربط وإعادة بناء العلاقة بين العوالم المنفصلة، وجعل البعض يفهم أن البعض الآخر له أيضاً حججه ومبرراته، والسماح لأشكال منطقية متعارضة بالتعايش والمواجهة دون التمزق حتماً، أو الاحتقار والانهيار. لذلك فالحياد لا يتعارض بالضرورة مع الالتزام. وبعيداً عن أن يكون هذا الحياد مجرد أمر يفرضه الاهتمام بالموضوعية واتخاذ مسافة إزاء الموضوعات التي ينتجها الفاعلون، فإنه يسمح، عكس ذلك، بالاقتراب مما يثير اهتماماتهم ونقاشاتهم، ليس من أجل اتخاذ موقف معين من ذلك، وإنما من أجل فهم لماذا يتمسكون بمواقفهم ويتحمسون لها، وكيف يواجه بعضهم بعضاً. إن الحياد، بدل أن يكون هروباً خارجاً عن اهتمامات الفاعلين، له وظيفة بالنسبة لعالم الاجتماع، هناك حاجة إليه، أو كما نقول: له «دور اجتماعي»؛ فهو الذي يعيد إمكانية التنقل بين عوالم مختلفة، ويساهم في توثيق الصلات حين يكف الناس عن التخاطب والتواصل، كما يعيد بناء الإجماع حين لا تكون هناك سوى فرق وجماعات تتواجه، تنتقد أو يتجاهل بعضها البعض.
– هل لا يزال للفنّ دور أو وظيفة ما؟
– يبدو أن السؤال يدور حول ما إذا كان للفنّ المعاصر طموح أو هدف ما، أو أنه يميل إلى قيمة عامّة معينة. وسيختلف الجواب عن هذا السؤال تبعاً للبراديغم الفني الذي نتواجد في إطاره: فأنصار الفنّ الكلاسيكي، وكذلك أنصار الفنّ الحديث، يمكن أن يعتبروا أن الفنّ المعاصر لا يهدف إلى شيء ما، ما دام لا يستجيب للقيم التي يتشكل منها هذان البراديغمان، في حين أن من ينتصر للفنّ المعاصر سيرى، عكس ذلك؛ إن هذا الأخير يمكن تأويله تبعاً لأهداف وقيم متميزة، خاصة قيمة النقد critique، الحاضرة بقوة وكثافة في الخطابات المؤولة لهذه الأعمال الفنّيّة المعاصرة. يتوقف كل شيء إذن، على البراديغم المعتمد في التقييم والحكم والتأويل.