حوار نجيب محفوظ وَكلود سيمونْ.. الفُرصة الضائعة

| 19 يونيو 2020 |
خلال معرض الكتاب في القاهرة لسنةِ 1990، بادرتْ اللجنة الثقافيّة المُشرفة على نشاطات المعرض إلى استدعاء الروائي الفرنسي كلود سيمونْ الحائز على جائزة نوبل (1985)، ليُحاور زميله في ضيافة نوبل نجيب محفوظ (1988). ومنذ أسبوعيْن، عثرتُ على تسجيل لوقائع هذه الندوة ضمن الفيديوهات المُتداولة عبْر وسائط الإعلام.
قلتُ مع نفسي وأنا أستعدُّ للاستماع إلى الشريط: هذه فرصة نادرة لإنصاف الرواية العربيّة على لسان أحد أعمدة صْرحِها المُتنامي، وتجلية تفاعلها المخصب مع تراث الرواية العالميّة، بما فيها تجربة تيار الرواية الجديدة بفرنسا خلال منتصف القرن العشرين. لكن وقائع الندوة كانت مخالفة لما توقعتُ، ودون ما أمّلتُ، نتيجة لطريقة تأطير الحوار وعدم حرص محفوظ على إنصاف مَنْ حملوا المشعل بعده، وغامروا على طريق الإبداع ليُضيفوا لبناتٍ مُجدّدة وأشكالاً تتصادى مع منجزات الرواية عالميّاً. لأجل ذلك، أودُّ أن أعرض أهمّ ما قرأه سيمونْ في مداخلته المكتوبة، وما تفوَّه به نجيب في ردوده المُرتجلة.
انطلق كلود سيمونْ من مفهومه للكتابة وصوْغ الرواية، مؤكّداً على التباعد الملحوظ بين الواقع والنصّ المكتوب، ومن ثَمَّ الشكّ في قدرة الكتابة الإبداعية على تغيير الواقع كما ذهب إلى ذلك أنصار نظريّة الالتزام السارتري التي اكتسحتْ الساحة الأدبيّة في فرنسا عقب الحرب العالميّة الثانية. وهذا التحوُّل في مفهوم الأدب والرواية والذي نادى به تيار الرواية الجديدة، دون أن يتشابه أعضاؤه في شكل ومُحتوى ما يكتبون، يعودُ إلى اختلاف عميق بين الروائيين الفرنسيّين الجُدد وروائيي القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم بلزاك وزولا وستاندال. ويعود أساس الخلاف بين كلود وزملائه من جهةٍ، وأسلافهم وبعض مُعاصِريهم من جهةٍ ثانية، إلى عنصريْن اثنين: أحدهما تلخصه قولةٌ للشاعر باسترناك: «لا أحد يصنع التاريخ، فنحنُ لا نراه، مثلما أننا لا نرى العُشبَ ينبُت». وهذا ما جعل سيمونْ ينحو صوْب اسْتبار النفس البشريّة في تفاصيل المشاعر واضطرابها وشكوكها، وملامسة أسئلتها الميتافيزيقيّة النابعة من واقع محفوف بالالتباس والتناقضات… بعبارةٍ أخرى، هو لا يرى الواقع في تجليّاته المادية البادية للعيان فقط، وإنما يهمه أكثر ذلك الواقعُ المُتخفي، المراوغ الذي يتحكّم في السلوك وردود الفعل والتعاطي مع الحياة. والعنصر الثاني الذي يميّز تيار الرواية الجديدة، هو أن ما يُصنّف ضمن الرواية الواقعيّة والطبيعيّة درَجَ على فصل الرواية عن بقية الفنون الأخرى وتجليّاتها الشكلية، ليجعل منها أداة لنَقلِ المعرفة واستخلاص العِبَر الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ومن ثَمَّ يُحوّلها إلى حكاية خرافية (fable) تختزل الواقع والشكوك المحيطة بإدراكه. وهذا هو ما جعل، في نظر كلود سيمونْ، مجموعة من الروائيين في العالم يُجددون شكل الرواية ومضمونها، مشيراً إلى كلٍّ من دوستويفسكي وبروستْ وَجُويْس وبيرانديللو. وبالنسبة له، يحرص على الاهتمام بالشكل واللّغة، لأنه لا يعتقد أن المعنى يمكن أن يوجد خارج الكتابة وقبْلَ إنجازها. ذلك أن العلائق المُعقدة، المستعصية على التحديد التي توجد بين الإنسان وتاريخه، لا يمكن القبضُ عليها إلّا من خلال الكتابة وطرائق السرد وتشكيل الفضاء على نحوٍ يُجسّد الصراع اليائس بين النظام والفوضى، ويوضح الالتباس القائم بين الإنسان وتاريخه. من ثَمَّ، يحرص كلود سيمونْ على أن تكون رواياته ذات بنيةٍ مفتوحة، لا بنية مغلقة حسب المصطلح الذي استعمله أمبرتو إيكو.
أمّا نجيب محفوظ الذي لمْ يُعِدّ ورقة مكتوبة، فقد اكتفى بتعليقات قصيرة، تؤكّد على أهمّية المعنى في الكتابة، وعلى استيحاء الروائي للمشاكل والأحداث التي يعيشها مجتمعه. وأشار إلى أنه في مطلع علاقته بكتابة الرواية، بذل جهداً كبيراً لاستيعاب الاتجاهات الروائية الحديثة في أوروبا، لكنه لم يقتنع بأنها صالحة لتجسيد الهموم والمشكلات التي كانت تشغل المجتمع المصري آنذاك. وهذا الرأي سبق لنجيب محفوظ أن ردّدهُ في حواراتٍ صحافية كنتُ قد قرأتُها خلال سبعينيات القرن الماضي. بعبارةٍ ثانية، لم يكلف محفوظ نفسه عناء التعريف بالتحوُّلات التي عرفها خلال تجربته الطويلة. وكلّ مَنْ تابع إنتاج محفوظ، يعرف أنه تفاعل بشكلٍ أو بآخر، مع طرائق السرد والأشكال الحديثة، العالميّة، خاصّةً في «الّلصّ والكلاب» وَ«أولاد حارتنا» وصولاً إلى كتابته الشذرية في «أصداء السيرة الذاتية».

غير أن ما افتقدتُه في ذلك الحوار التاريخيّ بين روائييْن بارزيْن ينتميان إلى مُجتمعيْن مُتغايريْن، هو المقارنة بين الوضع الاعتباري للرواية داخل مجتمعيْن لهما مساران تاريخيّان وحضاريّان مختلفان، ما جعل دور الرواية يتباينُ، وكذلك علاقتها بالتاريخ والأيديولوجيا. ذلك أن مصر والفضاء العربيّ لم يعيشا القرنيْن الثامن والتاسع عشر بنفس الوعي والتركيبة الاجتماعيّة اللذيْن عرفتْهما أوروبا من خلال المشروع التنويري والصراع لإقرار النظام الديموقراطي… وهي حقبة ثريّة وجدت انعكاساتٍ لها في الرواية الواقعيّة والطبيعيّة لدرجة أن البعض اقترح اعتمادَها عند التأريخ لتلك المرحلة… بينما استِنْباتُ الواقعيّة في الأدب العربيّ الوليد منذ نهاية القرن 19 إلى منتصف القرن العشرين، تحققَ ضمن بنياتٍ وتركيبات اجتماعيّة أبعد ما تكون عن وضوح قيم وعلائق مجتمعات تقُودها البورجوازية والرأسمالُ الاستعماريّ. لأجل ذلك، كان مشروع نجيب محفوظ الأوّلي مُبرراً ومفيداً، إذْ وظّف عدداً لا بأس به من رواياته لتقديم صورة «واقعيّة» عن مجتمعه الساعي إلى الاستقلال والتحديث والتحرُّر، إلّا أن ذلك الشكل الروائي سُرعان ما تبدَّى غير كافٍ ومُفارق للتعقيدات التي طرأتْ على مجتمعات الفضاء العربيّ، خاصّة بعد هزيمة 1967، واتّضاح أن التاريخ يسلك في مجراه دروباً شائكة ومتداخلة، تتعدّى الظاهر لتغوص في أعماق الفرد وَلا وعْيه وتُسائل المسكوت عنه في وثائق التاريخ والسياسة… وهذا المنحى الجديد في الرواية العربيّة هو ما اضطلع به جيلُ الستينيات في مصر، ثم في بقية أقطار الفضاء العربيّ بِدرجاتٍ متفاوتة. وما افتقدتُه في هذه الندوة هو الإشارة من لدُن محفوظ إلى دور ذلك الجيل، لأنه كان يعرف إنتاجه، وله صداقاتٌ مع بعضٍ من مبدعيه. صحيح أن تجديدات جيل ستينيات القرن الماضي والأجيال التالية له لم تكن مطابقة لتنظيرات روبْ كرييه أوْ نتالي ساروت صاحبة «زمنُ الشكّ»، إلّا أنها فتحتْ باب التجريب والتجديد على مصراعيْه متفاعلةً مع مجموع الاجتهادات الفنّيّة التي كانت تتحقَّق عالميّاً من الهند إلى أميركا اللاتينية. جهودُ هذه الأجيال في مصر وفي بقية الأقطار العربيّة هي التي غابَ صوتُها عن تلك الندوة التاريخيّة التي كان من الممكن أن تلقي أضواء على أهمّية الرواية اليوم عندنا، رغْم ما تعانيه من حصارٍ وتناقُصٍ في عدد القُرَّاء. لكنها أثبتت قدرتها على التغلغل في الدهاليز الخلفية للمجتمع وفي أعماق الفرد العربيّ المسحوق تحت أنظمةٍ مُتسلّطة تُصرّ على أن تعيش حاضرَ التاريخ مِنْ منظورٍ ماضَويّ. ما نبّه إليه جيلُ الستينيات والأجيال التي توالتْ بعده، على امتداد الفضاء العربيّ، هو أن الأدب والرواية بصفةٍ خاصّة، لا تكتسب مُبرراً لوجودها إلّا إذا استطاعت أن تنأى عن خطابات جَوْقةِ المادحين ومُزيفي الواقع والتاريخ. الرواية التي نقصدها هي التي أصبحت، عالميّاً، تجسِّد مغامرة فكريّة وشعوريّة وفنّيّة لاستكشاف المخبوء، ومحاورة المجهول في الكون وفي أعماق النفوس، ومن ثَمَّ ضرورة التجدُّد والتفاعل بين الروايات على اختلاف انتماءاتها اللّغويّة والحضاريّة، لأن «قانون» المُثاقفة يفرض على جميع الثقافات أن تتفاعل لتُسهم في بلورة القيم الفنّيّة والإبداعيّة الجديرة بالبقاء والاعتبار.